jeudi 3 janvier 2008

بل شبّه لنا

نشرت في عدد رأس السنة من ملحق النهار الثقافي، 30 كانون الأول 2007
بل شبّه لنا


إثر الحرب لم يجد بعض ألمع مثقفينا سوى كلمة "الحيرة" وصفاً لحال اللبنانيين. إذا ما بحثنا اليوم عن تعريف جامع مانع لحالنا فلا شك أن الحيرة تنتقل إلى الناظر العاجز. فرغم وجود شعور عام بالكلل من انهاك الصراعات السياسية لأعصاب البلد وأهله، ورغم أن ذكرى الحرب الأهلية لا تزال فزّاعة يؤمل أن تمنع الأدهى منها، إلا أن شطراً وازنا من كل طائفة من اللبنانيين يبدو مستعداً لخوضها دون تهيب. ورغم استمرار نزف الهجرة، شباباً وشيباً، إلا أن في البلد متسعاً بعد لمن شاء تكديس الأسلحة وفي أكناف طوائفها مجال لاطلاق التدريبات على القتل السريع. حين يغلب الحزن بعض اللبنانيين على شهداء من مدنيين وعسكريين وسياسيين، فإن أنباء عن فرح بعض آخر منهم تسري ناراً في هشيم الاعلام. وحين كانت آلة الحرب الإسرائيلية تغير معالم الأرض اللبنانية وتحرق قرى وبلدات بأكملها، وكانت بيوت اللبنانيين مفتوحة لاستقبال أشقائهم في الوطن، فإن البعض القليل كان يسرّ الأمل بنجاح اسرائيل في انهاء ميليشيا حزب الله. لا يلوح في الأفق انفعال شعبي لبناني جامع، فثمة من يحدوه شعور بأن النصر في متناول اليد، وآخر يرى أن مثل هذا النصر يعني تدمير آخر معاني قيام لبنان وآخر مبررات الإقامة فيه. وهناك من يأمل في احياء تسلط قديم أو جديد، وثمة يرجو النأي بالبلد عن كل الحماسات، لا سيما الحربية منها. لا يستوي كل هؤلاء كأسنان المشط، إلا أنهم جميعاً متساوون، ربما، في الشعور بأن صفحة ما قد طويت رغم اختلاف شعورهم تجاهها. ما يبدو قد انطوى اذاّ هو أفق الخلاص من الطائفية كأساس للمجتمع والسياسة وكقاعدة لتقاسم المغانم والحصص في الوطن والدولة والأدوار، أي البدء ببناء لبناني ديمقراطي لا تستدخل فيه الطوائف السياسية كل خارج وفي ظنها أنها لاعبة لا ألعوبة، وأنها ستخرج ضاحكة لا ضُحْكَة وأضحوكة. هل كان هذا هو حلم 14 آذار حقاً؟ وهل بات هذا الحلم مغدوراً بالفعل؟

لا يُطرح السؤال بهذه الحدة الآن لأن العهد الممدد له قد انتهى مخلفاً وراءه الفراغ ووعود الخراب، ولا لأن الاتفاق على العماد سليمان تأخر في التبلور تعديلاً "لادستورياً" يُحزَن له ولا يُطرَب. بل لأن وجهي الأمر، أي التوافق على الجيش من جهة واستمرار قدرة الساسة الطائفيين على العرقلة من جهة أخرى، ينذران بسوء العواقب وينبئان بانقضاء حلم قيام لبنان ديمقراطي ومستقل. انه، دون ريب، اختصاص لبناني بتضييع الفرص وهوى بالارتماء في أحضان المغامرات القاسية على رقة هذا البلد. لكن تتالي خيبات الأمل يفترض به أن يحملنا على قراءة مختلفة ربما لما كنا وضعنا فيه بعض آمالنا، وعلى أن نقارب شؤون زماننا القريب بمناظير مختلفة، من قريب ومن بعيد، من داخل ومن خارج، لنرى، في محصلة الأمر، أن ادعاء كل الأطراف، بما في ذلك الناظر في الأمر، لطالما فاق جهده وطاقته. فكأننا لم نبصر حقاً ذلك الحلم بل شبّه لنا، وأن أرضنا، التي صهرتها النار الاسرائيلية في 2006 شئنا أم أبينا، لم تحمل به إلا زورا. لعل ذلك يعزينا أننا لم نضيع فرصةً ما أوجدناها، ويستفزنا إلى خلقها بدل انتظار نهزتها.

من قريب ومن داخل: بين 14 آذار و14 شباط

حرص المعارضة الجهيد على تسمية خصومها بـ 14 شباط، وإنكار التسمية التي شاءها ذلك المعسكر لنفسه، يحض، أبعد من الضحك على صغر عقل الساسة و"ولدنتهم"، على التساؤل عما إذا كانت المعارضة ترى في نفسها التجسيد الحقيقي لقيم 14 آذار واعلاء مثل هذه القيم ورفعها عن مسّ الأكثرية غير المطهّرة لها. هنيئاً لمن جمع في ظن نفسه وعينها المظاهرتين المليونيتين وأهدافهما. لكأن المعارضة الجليلة ترى بالفعل في "وقفة" 14 آذار شرعية تاريخية، وتريد سحبها من خصومها الذين لا سند لهم في شرعيتهم سواها. يقبل الطرفان إذاً بمبادئ الديمقراطية والحرية والسيادة والاستقلال والخروج من الوصاية السورية التي طال عهدها على فتى عمره بضع وثمانون حولا. بل إن سوق المزايدة في هذا المضمار رابح.

لكن قد ينبت للمرء شك في قرارة نفسه ويعصف بها، ليس فقط في صدق زعم كل من الأطراف تمسكه بهذه الأهداف النبيلة ونحن نعرف ما هم وما تواريخهم، بل أيضاً في صدق زعم قيام 14 آذار رمزاً وعلماً على طلب هذه الأهداف. ربما كان قيام هذا الرمز من صنع عدد من الأقلام اللامعة والنفوس البريئة التواقة إلى تحرر كل العرب من نير طواغيتهم، لا من صنع من دعوا إلى النزول في ذياك اليوم المشهود إلى ساحة الشهداء المتكاثرة أسماؤهم حتى لتغرق الذاكرة في الأسى والاستنسابية.

ما بين 14 شباط 2005 و 8 آذار من العام نفسه، برزت حيوية عفوية في المجتمع اللبناني. لقد أطاح اغتيال الحريري بالخوف المستوطن في النفوس، فنزلت النسوة والرجال، والشبان والشابات، إلى الساحات وهاجمت جموع لم يستنفرها أحد مراكز المخابرات السورية وأقبية التعذيب، وانحرف البعض القليل إلى حدود العنصرية البذيئة والقاتلة وأدانته الناس والضمائر. أتوا إلى جنازة الحريري وإلى ساحة الشهداء بأطقمهم البيضاء وكراريس دراساتهم وعلاقات جامعاتهم ومهنهم، وأقاموا مخيماً حرسوه بالمهج قبل المآقي، كما أبدوا حرصاً ووعياً فاق بكثير وعي قادتهم الذين استعادوا النبرات الذكورية والثأرية، فمن ينسى لافتة من مجهول (له التحية) تؤيد الجيش السوري في سوريا، واللبناني في لبنان؟ في 5 آذار اعلن الرئيس السوري سحب قواته من لبنان. أي أن هدف انتهاء الوصاية السورية، المباشرة على الأقل، ورفع الجزمة العسكرية والمخابراتية السورية عن رقاب اللبنانيين كان قد أنجز.

دعا حزب الله إلى تظاهرة الوداع لسوريا، والوفاء لها على جميل صنيعها في حق اللبنانيين، وكلنا خبرناه، فهالت قدرته على تنظيم وجمع الحشود أخصامه السياسيين وكان الرد في 14 آذار. أي أن 14 آذار كان رد الطوائف على الطائفة الخارجة عن إجماعها، ويوم الاحتفال بالانتصار على النظام السوري، لكنه، في ما نحسب، لم يكن يوم الدعوة إلى لبنان ديمقراطي وحر. ذلك أن دعوة الحشود أتت على خلفية الخوف والتخويف من الشيعة الذين استعرضوا قبل ذلك بأسبوع قوتهم الشعبية والتدريبية مقدمين غنائم الحرب على اسرائيل إلى مسؤول المخابرات السورية في لبنان عوض تقديمها إلى الوطن! ليس من المجدي تقديم الافتراضات عما كانت لتؤدي إليه قراءة مغايرة في حينه لخطاب نصر الله واستعراض حزبه، إلا أن الأكيد أن الرهان على ضمه إلى سائر الطوائف مرّ تارة باستعراض قوة مقابلة (14 آذار) وتارة بتقديم العروض والتحالفات (التحالف الرباعي السيء الذكر)، حتى انتهى في النزع الأخير إلى افتراضه بات ناجز الخارجية الإيرانية السورية ولم يعد فيه من عنصر لبناني يمكن التفاوض معه داخلياً، غير أن الجميع ملزمون بالتعايش مع قدراته إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً بين أتباعه الإيرانيين وعباده الاميركيين (تسليم جنبلاط الأخير بطرح موضوع السلاح متى ارتأى حاملوه).

الخلاصة إذاً في هذا المحل إن اخفاق قادة 14 آذار في حمل الحلم الذي حُمّلوه ذاك اليوم كان مبرمجاً في جينات الدعوة نفسها التي استبدلت بالوتر الطائفي عفوية الناس، وباستعراض القوة رمزية تحركاتهم المدينية، وبمنطق الحشود والذكورة كل قيم التقدم والحداثة (وتم ريّ هذه النطف الشيطانية ورعايتها على مدى ثلاث أعوام بطولها). هل كان ينتظر إلا مثل هذا الاخفاق، وعودة المحاصصة والشلل والعقم السياسي من انتصار زعماء الطوائف المسمين توسعاً بالقادة اللبنانيين؟ لكن، على رسلنا، فإن في تحميلهم مسؤولية الفشل افتراض أنهم انتصروا فعلاً في معركتهم، رغم استمرار حربهم وشواهدها السيارات المفخخة وضحاياها، وانه كان في مكنتهم ايصال السفينة إلى بر الأمان لو تحلوا بالمزيد من الوطنية والذكاء والترفع عن مصالحهم المباشرة. إلا أن وضع صورتهم في إطار آخر يشير إلى عكس ذلك، دون أن يعفيهم الأمر من المساءلة.

من بعيد ومن خارج: لا ذاك جاء بالتحرير ولا ذا أتى بالاستقلال

مرّت مياه كثيرة تحت جسر 14 آذار، فتم التقارب مع حزب الله وأمل، والتباعد مع العسكري السابق ميشال عون، وكانت الانتخابات وشلّ المجلس الدستوري، ثم النزاعات الكثيرة بشأن التدويل والتحقيق والمحكمة وطاولات الحوار والتشاور. إلا أن حرب اسرائيل على لبنان في صيف 2006 تظل أبرز ما احاق بالبلد ومحق اجماعاته. فقد كان من المنتظر والمتوقع، منذ انتصاف الحرب، أن تؤدي وقفها، التي طالب بها حزب الله نفسه، إلى تحويل كتلة الحزب الضخمة إلى الداخل اللبناني. وكان التساؤل حينها عن قدرة هذا الداخل على استيعابه وارضائه، الدعوة إلى الحزب للتواضع في مطاليبه، والخشية من انفراطه إلى حزبين (وها ان الأخبار الأخيرة عن قسمة المخابرات المقاتلين ما بين الأمين العام ونائبه تذكي مثل هذه الخشية). وقد أدت نتائج الحرب بالفعل إلى تصديع البقية الضئيلة الباقية من الاجماع اللبناني، فانتقل وزراء الطائفة الشيعية (مع ما في هذا الوصف من لادستورية) من الاعتكاف إلى الاستقالة، المجمدة، وانتقل الحديث من الانصاف والمناصفة وتطبيق الطائف إلى المثالثة في الحصص وفي الاختصاصات (التحرير والسيادة والاقتصاد). إلا أن الحرب الاسرائيلية هذه تكشف خصوصاً هشاشة الادعاءات اللبنانية.

التدمير الاسرائيلي وقتل اللبنانيين كان دليلاً فصيحاً على عقم استراتيجية الردع الحزب اللاهية، وخواء توازن الرعب الذي جاء رعباً لبنانياً شبه خالص. كما جاء دليلاً أيضاً على خواء الصداقة الأميركية، وعجز الود الفرنسي عن التأثير على الأمور، متى تعلق الأمر باسرائيل. لكن ذلك كان أيضاً افتضاحاً لما سبق زعمه. لو أن اسرائيل انسحبت تحت وطأة ضربات المقاومة لما سعت برجليها إلى الخوض في مستنقعها ثانية. ولو أن سوريا انسحبت بسبب انتفاضة اللبنانيين وثورة أرزهم وغضبه عليها لما كانت هي التي تقطف ثمار "نصرهم" وورود دماهم ونجيعهم.

من بعيد ومن خارج لبنان، يهوّن المرء من شأن الدعاوى اللبنانية وفخارهم الكاذب. انسحبت اسرائيل، في العام 2000، لا من جراء الخسائر الضئيلة التي منيت بها خلال ثمانية عشر عاماً، بل لقطع الاصبع السورية في خاصرتها وانهاء المفاوضات الفاشلة معها، ومن أجل حصر اللعب في منطقة ضيقة خالية من السكان مع التهديد بدمار شامل في حال انتهاك قواعد اللعبة، وهو ما قد رآه العيان. أما سوريا، فكان انسحابها سابقاً لـ 14 آذار (وقد أعلن في 5 من هذا الشهر الفضيل)، وأتى انعكاساً لسحب التفويض الدولي منها، وللاتفاق الأميركي الفرنسي السعودي على اخراج لبنان من ثلاجتها، وانعكاساً لفشل ما أملت به من فوضى وخنوع بعد اغتيال الحريري. في هاتين القضيتين، يبدو التأثير اللبناني بالغ المحدودية، فهو كان تارة اصبعاً سورية، وتارة أخرى ذريعة أميركية، لا أكثر ولا أقل، ولم يكن من المعجز زرع عضو آخر أو العثور على حجة أقوى أو أوهى لا فارق.

لا ذاك حرر، بل هو حينما شاء توكيد "تحريره" أتى بـ"نصر" مدمر لا يطاق، ولا هذا استقل، بل هو حينما تحرك أنملة وجد نفسه محاصراً بنصائح السفراء وتهديدات من لا سفارة لهم واقذاعهم فيه ولم يجد بين أهليه من ينتصر له، ووجد البلد مستقلاً لا مستقراً، وسيداً دون مؤسسات يمارس عبرها سيادته، وحراُ في الانتحار. وليس ما سلف عذراً لأي منهما، غير أن الطرفين، رغم ذلك، لا يستويان، إذ لا يستوي هدف اخراج جزمات المخابرات غير اللبنانية وأسواطها اللاذعة ظهر الوطن مع هدف وضع البلد في رباط، بل وحرب، إلى يوم الدين أو الدينونة النووية، بدعوى المنافحة عن "سيادته" التي لا تكتمل إلا برفض العالم أجمع تقريباً وحذراً عليها من قبل فقدها ولو بآماد. ولا يستوي الحرص على الدولة وإن فاسدة مع الحرص على تعطيلها أو رهنها في خدمة الآخرين، ولا تستوي الدعوة إلى تجنب آثار المواجهات الاقليمية وشظاياها مع الحماسة إلى تصدر جبهاتها، ولا تستوي، أخيراً، وثيقة الطائف التي شكلت تسوية تاريخية للخروج من الحرب ووثيقة التفاهم بين من رفضوا الطائف في حينه واستمروا في الهجس بالحروب المختلفة الأسماء.

مسار الحلم ومضارّه

بين 2005 و2008، تسرب "الحلم" عبر سلسلة من الملامح التي كان بالامكان ملاحظتها. فقد أثبتت الأحداث عجز الطوائف وزعاماتها عن التوافق الداخلي، ورفضها المساس بأي "حق" تعده لها مع استمرار استعدادها المتواصل للاعتداء على "حقوق" الطوائف الأخرى. بالمقابل، فإن هذه الزعامات، عبر الاستقطاب الطائفي العنيف، شلّت الحياة المدينية اللبنانية تماماً، وهي التي كانت قوام الحلم ومادته وتجسده عقب اغتيال رئيس الوزراء السابق الحريري. فقد انقضت هذه الطوائف على المجتمع المدني وابتلعته، إما بالتخويف والتخوين أو بالقمع الصريح أو بشراء أصواته. وبرزت في هذه المرحلة محاولات تعطيل كامل مؤسسات الدولة، بدءً من رئاستها، مروراً بالمجلس الدستوري، ثم بالحكومة والمجلس النيابي والسلك الدبلوماسي، وقوى الأمن الداخلي، وانتهاء بتقييد تحركات الجيش المهدد أيضاً بالاعتداءات الارهابية والاغتيالات.

وفي موازاة استمرار افراغ الدستور من أي مضمون والتفلت من قيوده بأكبر قدر من الازدراء، وراء قناع الحرص بالطبع، شهدت الطوائف تفريخ جامعاتها لمثقفيها وخبرائها الخصوصيين، المفتين في كل شأن والتقنيين الجاهزين لصوغ الشعارات والبيانات والخطابات والخطط الاستراتيجية والسياسية والمخططات الهندسية والمشاريع الحقوقية، ولكل شأن وفي كل ميدان بات لسلطان الطائفة كتابه وحرفيوه وأبواقه. أما اليسار فلا تسأل، وأما النقابات فلا تأمل، وأما بأنعام ربك فحدث، خاصة حين يؤدي فهمها إلى الاطاحة مرة جديدة بفرصة الافادة من تنامي الثروات العربية في ظل الصدمة النفطية الجديدة، حتى ليخال المرء الأمر مقصودا.

لا مناص من الاقرار بأن الحلم كان فوق طاقتنا، نحن الذين يصفون انفسهم باللبنانيين دون انتماء آخر إلى وطن أو مذهب، على تحمله. لقد استعجلنا الفرحة والأمل والاحتفال ولما نعد لهم سوى الحلم. لكن السؤال يظل مطروحاً: أية مراحل انتقالية نفترض إذاَ أن بامكان لبنان أن يتحملها كي ينتقل من الطائفية إلى الديمقراطية بعدما ثبت ما بينهما من انفصال؟ ومن نخاطب وكيف، حين يتوزع الجمهور جماهيراً لا تنصت سوى لمن يغذي أحلامها بالسطوة ويعدها بالاستيلاء على غنائم يسميها حقوقاً وهو لا يغنمها إلا من رصيد الدولة؟ كيف نعيد نسج الجامع اللبناني ولو بالحد الأدنى ونثبّت المصلحة الوطنية عليا والروح البشرية مقدسة وتعب الأعمار، مثل ريعانها، كنوزا؟

بدأنا بالاشارة إلى أحمد بيضون، ولا حرج في الاختتام بالاشارة إليه، وهو من رأى مسبقاً حالنا الآن ووصفها في كتاب صدر مطلع شباط 2005، وليت ما تلا كان كالمفتتح. كتب بيضون وتبنى عقب صيف 2006 الدامي، في "هذه الحرب: مسودة خامسة لبيان لم يصدر"، مستنكراً غياب نفوس تفكيهم أو كتمان حقيقتها لدى من يحصرون خيارنا بين أن نكون مع إيران وسوريا وبين أن نكون مع اسرائيل والولايات المتحدة، وقال بلسان الكثيرين، لا ريب، منا: "نحن مع أنفسنا بما نحن لبنانيون، بهذا وحده يستقيم لنا التمييز بين العدو والصديق". لا شك أن الخلاف حول المصلحة اللبنانية سيظل محتدماً، لكن شرط القبول به هو التوكيد على اللبنانية كجامع، وهذه لا تقتصر على مماهاة لبنان بالذات، بل قبول الذات (الطائفية، الزعامية) بتجاوز الوطن لها وزيادة تنوعه على صفائها الموهوم وتقدم مصالح أهله على أنانيتها. من هذا التوكيد الأصلي، يمكن للراغبين البدء بصوغ خطاب لن يشق طريقه إلا ببطء، وبشرط التوجه إلى جمهور غفل، لا إلى "سميعة"، يفكك ويفضح بادئ ذي بدء علاقة الدَين التي تربط المرء بزعامة طائفته في لبنان، فليس بري من أخذ للشيعة حقوقهم من الدولة، بل وزنهم وتعليمهم، وليس حزب الله من يدافع عن حقوقهم وحيواتهم بقوة السلاح، بل مساواتهم بالآخرين واستظلالهم بدولة بات من شروط قوتها انضمام سلاح حزب الله إليها، وليس وزن الطائفة السنية من وزن عائلة الحريري بل العكس، وليس الموارنة مدينين لعون وجعجع سوى بالشرذمة والدماء، وليست الزعامة الجنبلاطية إلا حجزاً للدروز عن التفاعل مع المجتمع.. الخ. على بذرة تجاوز الطائفية ألا تأتي انقلاباً على النظام السياسي، ولا انهياراً له، بل توكيداً لمنطق دستوره وقانونه وحاجة المجتمع وقدرته على الانفتاح وعلى رعاية مواطنيه فرداً فرداً. ربما يتوجب علينا، من اجل ذلك، أن نحتمي من خيبات الأمل برمي ماء الحماسة الفوّار والابقاء فقط على نواة الواجب وصبره، وأن نتعلم أن أقرب الطرق في المتاهة إلى النجاة ليس بالتأكيد أقصرها.

Aucun commentaire: