samedi 5 janvier 2008

أسطورة في حارة: نجيب محفوظ

ملحق النهار الثقافي، أيلول 2006
أسطورة نجيب محفوظ في حارات القاهرة المعزية




الجمالية...

سير حثيث بحثاً عن أسماء، هي تلك التي خلّدها الراحل العظيم في كتاباته: بين القصرين، زقاق المدق، الخرنفش، السكرية...

منها ما تعثر عليه ومنها ما لا يظل سوى صوتاً هاتفاً، لكن ما تراه على أي حال لا يداني حلمك. الجمالية، حيث ولد محفوظ، حارات لا تشبه حارات السينما المصرية ولا حارات الروايات، مجرد تتابع غير مفهوم لطرقات ومبانٍ حديثة (نسبياً) في شبكة متاهة مقفلة. أما خان الخليلي فتكدس طويل وممل لمحلات بيع التذكارات والمجوهرات.

لكن القاهرة المعزّيّة، كما يسميها محفوظ للدلالة على الحدود الفاطمية القديمة للمدينة وأبوابها التي لا يزال بعضها شاهد عظمتها، تنفتح أمامك على حين غرة وحين لا تتوقع، يكفي أن تنعطف دون انتباه خارج مسير السياح، أن تدلف من عطفة تحت قنطرة واطئة لتتفتح لك عوالم أخرى، وترى ذلك العجوز القاعد في "محله"، الذي يوازي مساحة نصيب الفرد من زنزانة في سجن عربي، وتفكر إن لك يكن الرجل الذي يصنع أكياس الخيش منذ عشرات السنين، وربما مئاتها، أحد شخوص قاهرة محفوظ، وإن كان محله الضيق قد شهد سهرات الأنس والتحشيش كالتي تصفها الروايات...

يكفي أن تنعطف من شارع الأزهر إلى سوق الغورية وما يليها في الخيامية أو الدرب الأحمر، أو تختار الدخول من السوق إلى خوش قدم أو حوش آدم، حارة الشيخ إمام، لتنتبه أن الشيخ ونجيّه الفاجومي هما أيضاً من شخوص روايات محفوظ حين يدخلان في أسطورة الحارات التي تعيش حياةً شبه مقفلةٍ على ذاتها في ظلال الباطنية القريبة وإشارات الزمن البطيء وأحجار الجوزة "المخصوصة" وأصداء المآذن المملوكية والفاطمية التي تلف أسحار الحارات المتجاورة...

يكفي أن تزور بيت زينب خاتون في ما وراء الجامع الأزهر، أو أن تسيل في دفق أصحاب الجلابيب البيض في مولد الحسين، حول مسجده، وتسمع "ردح" النسوة لشبانٍ مرتبكين خجلاً حين تتماسّ جماعة من النساء الساعيات حول المسجد بزرافات الرجال الباحثين بين السرادقات عن مجلس طريقتهم وتواشيحها، أو أن تستبشر تهاليلك بالزوايا الصغيرة بأعلامها الخضراء اللون على حدود حارة الدرب الأصفر، قبل أن تأوي إلى هدوء بيت السحيمي حيث تتخيل فيه أحداث روايات محفوظ وتفهم على ضوء هندسته غير المفهومة هندسة بيت سي السيد، لتدرك أنك أنت أيضاً دخلت في أسطورة القاهرة المعزية وسحرها، ودخلت في عالم روايات نادراً ما أتممتها، وأن أمثالك هم التتمة التي كتبها محفوظ، دون تكلف، وهو بين عالمي النوم واليقظة الأبديين، ولتنتبه فجأةً أن محفوظ خلق أسطورتين، أسطورة القاهرة المعزية التي أدرجك فيها، وأسطورته هو، بقهواته وقعداته وقفشاته، التي تشكل فضاء قاهرة القرن العشرين، وأنه آخر الأساطير في مدينة باتت "مصرَ"، وبات كل حي فيها مدينة مستقلة بفضائها وناسها وحكاياتها.

السينما مدخلاً

لكن المرء يتساءل إن كانت الكتابة هي من صنع فضاء الأسطورة. لغة محفوظ اليوم تبدو بعيدة، كلغة لبنانيي القرن التاسع عشر، تكفي مقارنتها بلغة توفيق الحكيم أو مارون عبود ليتبدى أنها أكثر كلاسيكية من مجايليها. لغة جافة إلى حدّ ما ومستهلكة اليوم (أنظر في مطلع ميرامار: نفثة السحاب البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع).

حتى أن نجيب محفوظ، الروائي، لا يتورع في كتابة حواراته، عن إجراء جملة من قبيل "لن يلم الله شعثك على رجل" (في زقاق المدق) على لسان امرأة أمية تتسابّ مع ابنتها بالتبني، وهو أحياناً حين يريد التخلي عن القديم الممجوج يجاور في الجملة الواحدة بين "الكونصول" و"البلابيع" قبل أن يعود إلى "الخوان" (بين القصرين)، في قلق بيّن الدلالة على قلق العربية نفسها حيال أسماء العالم، على ما أوضح أحمد بيضون. غير أن محفوظ هو أيضاً مسيرة تطور بديع (ومؤسف الخاتمة!) للغة ولبناء الرواية ولإيحاءاتها الفنية، من بداياته التي لا تكاد تتخفى فيها اهتماماته الدعوية أو الوطنية (على طريقة ثورة 1919) إلى نصوص أكثر جرأة على الصعيد الفني، وآخرها أحلامه.

والحق أن الدخول في الأسطورة التي صاغها محفوظ يبدو مرتبطاً أكثر بوسيط آخر هو السينما، التي ساهم محفوظ أيضاً في صياغة فضاءها المصري، بكتابة السيناريو أو بمناصبه الرسمية كما بالاقتباسات التي أجريت عن رواياته، وهو نفسه يبدو أحياناً حين يكتب، وفي بعض أفضل نصوصه، وكأنه يكتب للصورة وليس للغة، التي تظل وسيطاً جامداً لديه، ومن غيره يجرؤ أن يقول لقارئه : "فأحمد عاكف ـ كما ترى ـ كان يوماً ما جذاباً" (خان الخليلي). كما ترى؟! لا يكتب محفوظ كتاباً (وسنعود إلى هذا) بل "روايات"، وعلينا ألا ننسى أن الرواية في مصر، بخاصة مطلع القرن العشرين، تعني... "المسرحية"! وهو لا يخاطب مخيلة القارئ، بل يخاطب عينه مباشرة، كما لو أنه يتمنى أن تمحى الكلمات، كي لا تبقى بين العين واللوحة مسافة لوسيط، لا يبدو أن محفوظ تجاوز انتصابه كتلة بينه وبين القارئ إلى اعتباره أفق للمرء، بحسب بارت.

تكاد الروايات تكون متعبة لو لم تسبقها مشاهدة المسلسلات والأفلام، وهي المشاهدة التي نكتشفها طويلاً قبل أن تتملك أغلبنا لذة القراءة، وهي أيضاً التي تقود أشواقنا في الطواف في القاهرة العظيمة. كما أن هذه المشاهدة المسبقة تسمح لنا بالدخول مباشرة إلى فضاء محفوظ الخاص، وإلى عالمه الروائي، بدل التيه أحياناً أو الملل مما يبدو "مواعظ" الحكيم ("موضع الحب من نفوسنا هو مهبط الخلق والإبداع والتجديد. ولذلك خلق الله الإنسان محباً وترك مهمة تعمير الوجود أمانة في رعاية الحب" من زقاق المدق)، وهذه القراءة تنجي من قراءة سائدة في النقد العربي عموماً، والمصري خصوصاً، لأعمال محفوظ، ولم ينج منها الأديب الكبير نفسه أحياناً، تفترض أن الرواية عمل فلسفي، وليس عملاً مرتبطاً بالمجتمع ووجوده وفرادة شخوصه، وتقرؤها على أنها كناية دوماً عن نظرية شبه فلسفية أو سياسية مقنعة. ولئن كان محفوظ نفسه كتب بعض الروايات على هذا النهج (رحلات ابن فطومة مثلاً) إلا أن قراءة "أولاد حارتنا" بها تنفي عن الرواية كل قيمة أدبية، ناهيك عن أنها قادت إلى محاولة اغتياله.

بين "الرواية" و"الكتاب"

من المؤسف أن يغيب عنا نجيب محفوظ، ومن المؤسف أكثر أن يأتي ذلك في اليوم عينه الذي نقرأ فيه عن قضية "المفكر الإسلامي" حسن حنفي، وعودة أشباح التكفير إلى مصر. ومما يزيد بعد في الأسى أن نتذكر أن محفوظ قبل طويلاً بسلطة الأزهر على روايته "أولاد حارتنا" (لا ننسين أنه نفسه كان رقيباً على المصنفات الفنية في فترة من حياته)، وهو حين قبل بنشرها بعد طول امتناع اشترط تقديمها بمقالة للـ"مفكر الإسلامي" د. كمال أبو المجد، لك يخرج فيها هذا الأخير عن ذكر حوار دار بينه وبين محفوظ، مؤداه، من جهة، أن محفوظ يشدد على "الإسلام والعلم" كدعامتين لأي مشروع عربي جديد، وجديد الحديث هو التمييز الخطير الذي يجريه محفوظ، بحسب د. أبو المجد، بين "الرواية" و"الكتاب". فالرواية، على ما جاء في هذه المقالة ـ الحوار، "تركيب أدبي فيه الحقيقة وفيه الرمز، وفيه الواقع وفيه الخيال"، ونموذجها هو... "كليلة ودمنة". أما الكتاب فيفترض أن فيه الحقيقة وعلى أساسها يحاسب الكاتب. على أن المتحاورين يغفلون أن محاولة اغتيال محفوظ كانت تماماً بسبب القراءة الرمزية للكتاب، وليس محاسبة له على تزييف حقائق التاريخ!

الأخطر في الموضوع هو تلخيص المحاورين معاً للكتاب ـ القضية إلى موقف يريد الكاتب إيصاله للقراء، (وهذه نظرة صحافية وليست أدبية للنص)، حيث يصير "الجبلاوي" رمزاً للدين، و"عرفة" رمزاً للعلم، ويكتشف الناس حاجتهم إلى الأول رغم إغراءات الثاني، لأن العلم بغير الدين تحول إلى أداة شر. فتغيب فضاءات الرواية وشخوصها وبنائها لعوالمها الخاصة لمصلحة رواية رأي، فحواها أن فلان = علم وعلتان = دين، وتجري المعادلة ذهنية بحتة باردة. والحق أيضاً أن كتابة محفوظ اتبعت هذه النظرة إلى الرواية، بوصفها إعلاناً موارباً لموقف، في عدد قليل من الروايات، لكن أغلب إنتاجه كان أثرى بما لا يقاس من هذا الإفقار، الذي ربما لجأ إليه مضطراً بين إلزامات السياسة وإكراه الموجات الدينية التي لم تعفّ عن الاعتداء على الرجل الكبير في جسده.

زمن مصر

كان في نتاج محفوظ دوماً نوع من الكلاسيكية المتأنية، التي تشابه في تؤدتها طبيعة الزمن المصري الحريص على ألا يختلّ بغتة أو تسبقه الأحداث، فهو دوماً يمتصها ويلجمها ويعيدها إلى مسارٍ بطيء ريثما تختمر ظروفها بحسب تقديرات هذا الزمن نفسه. ولهذا مثلاً نفهم أن يكون محفوظ هو أديب مصر الأكبر في القرن العشرين، وليس توفيق الحكيم مثلاً، الباريسي النكهة، والقلق المزاج رغم ما يحكى عن تنسكه ونظراته شبه الفلسفية. فالحكيم أصرح في التعبير عن مراده، سياسة واجتماعا وهو في هذه الأحول يقصر "الفن" على قالب يفرغ فيه مراده، دون كناية أو رمز تقريباً (كالحوارات مع العصا أو مع الحمار)، لكن حسه المسرحي العميق جعله لا يخطئ في كتابة الحوارات ومناسبة اللغة والمفردات لمن تجري على لسانه، كما أنه العربي الوحيد الذي كان معاصراً لزمنه، فجبران حين أتى باريس شاهد القرن السابق، في حين أن الحكيم عاصر الدادائية والسريالية ونظريات الفن الحديث وموجاته ما بين الحربين، فكتب وفي ذهنه بعض ما أفاد منها، وفي نفسه خصوصاً توق إلى زرع هذه الغرسات في الفن والأدب العربيين، وإن كانت بعض كتاباته وليدة هذه الرغبة دون عميق اقتناع بالمضمون. وإذا كات الحكيم حاول أن يهز الزمن العربي الراكد وأن يجدد في صيغه وقوالبه ونظراته، فإن محفوظ كان أشد خفراً وتكتماً، وربما كان هذا سبيله ليكون أعمق أثراً في مصر، وربما في العالم العربي.

إذا كان في قدرة الزمن المصري سابقاً أن يجمع الريادة إلى التأني والتجديد إلى الكلاسيكية، فإن المرء ليتساءل، خاصة مع عودة أشباح التكفير والمد الإسلامي السياسي والأصولي، عن قدرة مصر اليوم، لا على ولادة الموهوبين شأن كل الأوطان، على المحافظة على قامة مثل محفوظ، وعلى السمح لها بالوصول إلى التفوق وضمان الحياة والفرادة وتمهيد السبيل أمامها لنشر نتاجها.

ينبغي ربما التذكير أن ريادة مصر أتت أساساً من وضوح "صحنها" الإقليمي، بالمقارنة مع بلاد الشام، وتنوعها الثقافي الداخلي، وصدمة الإجتياح النابليوني الذي هزها وجعل بورجوازيتها تباشر بدايات المراكمة الرأسمالية، ثم كان الطموح الخديوي إلى مجاراة الآستانة وتحويل مصر إلى بلد أوروبي... الخ. أي أن الريادة المصرية كانت على الدوام النقيض من "الحلم" اللبناني، الصناعة لا الخدمات، وضوح الحدود لا ثقوبها الفاغرة، صدمة اجتياح نابليون بدل تعاون تجاري أسبق ووثيق مع إيطاليا أواخر عصر النهضة، تنوع داخلي ثقافي بدل انفتاح دائم ثقافياً على الخارج، السينما والمسلسل لا الفيديو كليب والأغنية القصيرة والخفيفة، الرواية الضخمة والملحمية لا الثورة الشعرية... الخ.

وإذا كان البعض يرى أن الثورة المصرية في 1952 بطموحها العربي والاشتراكي هي التي أوقفت مسيرة مصرية "صميمة" نحو التقدم، (وهو أمر مشكوك به على أي حال بالنظر إلى ما سبق 1952 بعشر سنوات و ما تلا انفتاح السادات)، فإن الأرجح القول أن ما حصل بعد الحرب العالمية الثانية هو أن انقلاباً عالمياً في معايير الميزات والتفاضلات هو الذي حدث، وأن "الثورة" هي التي حفظت لمصر وهجاً كان استمرارها على "صميميتها" (ومعادلة صفر + صفر الشهيرة) ليفقدها إياه. وإذا كانت هذه هي معايير ما قبل الحرب العالمية الثانية التي سمحت لمصر بالريادة وإحداث ثورات كبيرة في عدد من المجالات الفكرية العربية (كل ثورة الموسيقى على المدرسة الخديوية جرت بين 1925 و 1935، الانطلاقة المصرفية والصناعية في الفترة عينها، بدايات الرواية المعاصرة، المسرح الغنائي ...الخ) فإننا لا نكاد نلمح إنجازاً ضخماً في هذا المجال بعد هذه الحرب، والاستثناء الوحيد والكبير هو بالطبع نجيب محفوظ الذي بلغ أوج عطائه بدءً من انتصاف الخمسينات، معتبراً أن الرواية هي شعر الأزمنة الحديثة، وبهذا كان سباقاً بعيد النظر.

لكن التساؤل ملح اليوم، حين يكون عم عبده داغر يعزف منذ عشرين عاماً للحيطان ذاتها في غرفته الصغيرة، بحسب ما يقول، إلى أن يكتشفه الأوروبيون، وحين يظل عازف شاب رائع وهائل القدرة على التجديد مثل حازم شاهين أسير الانتظار إلى أن تتكرم وسائل الإعلام والإنتاج بالخروج من تكرار الإيقاعات المصمّة، وحين يكون عشرات الموهوبين في الغناء والتمثيل والكتابة والفكر مسحوقين في ظل آلة إنتاج ضخمة وسوق استهلاكية ضخمة ترفض أي مذاق جديد لم يسبق للجماهير التي تقصفها هذه الآلات أن علكته واجترته وأدمنت مذاقه، هل تستطيع مصر أن تقدم هي بنفسها اكتشافاتها بدل انتظار الغرب، وأن تقيمهم علاماتٍ على زمنها المتجدد في عصر العولمة، كما سبق أن فعلت مع سلامة حجازي وعبد الوهاب ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وصلاح أبو سيف وغيرهم، وهل يكفي هروب العديد من هؤلاء الموهوبين والمعترضين إلى فضاء الإنترنت دليلاً على إدخالهم مصر في زمن جديد، أم أن ذلك لن يكون إلا مقدمةً لخروجهم المؤسف هم منها؟

وداع نجيب محفوظ هو وداع لحقبة دخلت في الأسطورة، ووداع لقدرة على التطور والاجتهاد في النظر والرأي وبناء النفس، وإن كان محفوظ يقدم نفسه على أنه وليد زواج الحضارة الفرعونية بالحضارة العربية، فإننا، مصريين ولبنانيين وعرباً، في أحوج ما يكون إلى من يعلنون أنهم أبناء زواج جديد لحضارات معاصرة ولأزمنة متداخلة النسيج، بحيث أن فك تداخلها، كما يحلم التائقون إلى صفاء ونقاء بلا حدود، لا يقود إلا إلى الموت أو الجنون وشقاق النفس.

Aucun commentaire: