samedi 5 janvier 2008

أسطورة في حارة: نجيب محفوظ

ملحق النهار الثقافي، أيلول 2006
أسطورة نجيب محفوظ في حارات القاهرة المعزية




الجمالية...

سير حثيث بحثاً عن أسماء، هي تلك التي خلّدها الراحل العظيم في كتاباته: بين القصرين، زقاق المدق، الخرنفش، السكرية...

منها ما تعثر عليه ومنها ما لا يظل سوى صوتاً هاتفاً، لكن ما تراه على أي حال لا يداني حلمك. الجمالية، حيث ولد محفوظ، حارات لا تشبه حارات السينما المصرية ولا حارات الروايات، مجرد تتابع غير مفهوم لطرقات ومبانٍ حديثة (نسبياً) في شبكة متاهة مقفلة. أما خان الخليلي فتكدس طويل وممل لمحلات بيع التذكارات والمجوهرات.

لكن القاهرة المعزّيّة، كما يسميها محفوظ للدلالة على الحدود الفاطمية القديمة للمدينة وأبوابها التي لا يزال بعضها شاهد عظمتها، تنفتح أمامك على حين غرة وحين لا تتوقع، يكفي أن تنعطف دون انتباه خارج مسير السياح، أن تدلف من عطفة تحت قنطرة واطئة لتتفتح لك عوالم أخرى، وترى ذلك العجوز القاعد في "محله"، الذي يوازي مساحة نصيب الفرد من زنزانة في سجن عربي، وتفكر إن لك يكن الرجل الذي يصنع أكياس الخيش منذ عشرات السنين، وربما مئاتها، أحد شخوص قاهرة محفوظ، وإن كان محله الضيق قد شهد سهرات الأنس والتحشيش كالتي تصفها الروايات...

يكفي أن تنعطف من شارع الأزهر إلى سوق الغورية وما يليها في الخيامية أو الدرب الأحمر، أو تختار الدخول من السوق إلى خوش قدم أو حوش آدم، حارة الشيخ إمام، لتنتبه أن الشيخ ونجيّه الفاجومي هما أيضاً من شخوص روايات محفوظ حين يدخلان في أسطورة الحارات التي تعيش حياةً شبه مقفلةٍ على ذاتها في ظلال الباطنية القريبة وإشارات الزمن البطيء وأحجار الجوزة "المخصوصة" وأصداء المآذن المملوكية والفاطمية التي تلف أسحار الحارات المتجاورة...

يكفي أن تزور بيت زينب خاتون في ما وراء الجامع الأزهر، أو أن تسيل في دفق أصحاب الجلابيب البيض في مولد الحسين، حول مسجده، وتسمع "ردح" النسوة لشبانٍ مرتبكين خجلاً حين تتماسّ جماعة من النساء الساعيات حول المسجد بزرافات الرجال الباحثين بين السرادقات عن مجلس طريقتهم وتواشيحها، أو أن تستبشر تهاليلك بالزوايا الصغيرة بأعلامها الخضراء اللون على حدود حارة الدرب الأصفر، قبل أن تأوي إلى هدوء بيت السحيمي حيث تتخيل فيه أحداث روايات محفوظ وتفهم على ضوء هندسته غير المفهومة هندسة بيت سي السيد، لتدرك أنك أنت أيضاً دخلت في أسطورة القاهرة المعزية وسحرها، ودخلت في عالم روايات نادراً ما أتممتها، وأن أمثالك هم التتمة التي كتبها محفوظ، دون تكلف، وهو بين عالمي النوم واليقظة الأبديين، ولتنتبه فجأةً أن محفوظ خلق أسطورتين، أسطورة القاهرة المعزية التي أدرجك فيها، وأسطورته هو، بقهواته وقعداته وقفشاته، التي تشكل فضاء قاهرة القرن العشرين، وأنه آخر الأساطير في مدينة باتت "مصرَ"، وبات كل حي فيها مدينة مستقلة بفضائها وناسها وحكاياتها.

السينما مدخلاً

لكن المرء يتساءل إن كانت الكتابة هي من صنع فضاء الأسطورة. لغة محفوظ اليوم تبدو بعيدة، كلغة لبنانيي القرن التاسع عشر، تكفي مقارنتها بلغة توفيق الحكيم أو مارون عبود ليتبدى أنها أكثر كلاسيكية من مجايليها. لغة جافة إلى حدّ ما ومستهلكة اليوم (أنظر في مطلع ميرامار: نفثة السحاب البيضاء، مهبط الشعاع المغسول بماء السماء، وقلب الذكريات المبللة بالشهد والدموع).

حتى أن نجيب محفوظ، الروائي، لا يتورع في كتابة حواراته، عن إجراء جملة من قبيل "لن يلم الله شعثك على رجل" (في زقاق المدق) على لسان امرأة أمية تتسابّ مع ابنتها بالتبني، وهو أحياناً حين يريد التخلي عن القديم الممجوج يجاور في الجملة الواحدة بين "الكونصول" و"البلابيع" قبل أن يعود إلى "الخوان" (بين القصرين)، في قلق بيّن الدلالة على قلق العربية نفسها حيال أسماء العالم، على ما أوضح أحمد بيضون. غير أن محفوظ هو أيضاً مسيرة تطور بديع (ومؤسف الخاتمة!) للغة ولبناء الرواية ولإيحاءاتها الفنية، من بداياته التي لا تكاد تتخفى فيها اهتماماته الدعوية أو الوطنية (على طريقة ثورة 1919) إلى نصوص أكثر جرأة على الصعيد الفني، وآخرها أحلامه.

والحق أن الدخول في الأسطورة التي صاغها محفوظ يبدو مرتبطاً أكثر بوسيط آخر هو السينما، التي ساهم محفوظ أيضاً في صياغة فضاءها المصري، بكتابة السيناريو أو بمناصبه الرسمية كما بالاقتباسات التي أجريت عن رواياته، وهو نفسه يبدو أحياناً حين يكتب، وفي بعض أفضل نصوصه، وكأنه يكتب للصورة وليس للغة، التي تظل وسيطاً جامداً لديه، ومن غيره يجرؤ أن يقول لقارئه : "فأحمد عاكف ـ كما ترى ـ كان يوماً ما جذاباً" (خان الخليلي). كما ترى؟! لا يكتب محفوظ كتاباً (وسنعود إلى هذا) بل "روايات"، وعلينا ألا ننسى أن الرواية في مصر، بخاصة مطلع القرن العشرين، تعني... "المسرحية"! وهو لا يخاطب مخيلة القارئ، بل يخاطب عينه مباشرة، كما لو أنه يتمنى أن تمحى الكلمات، كي لا تبقى بين العين واللوحة مسافة لوسيط، لا يبدو أن محفوظ تجاوز انتصابه كتلة بينه وبين القارئ إلى اعتباره أفق للمرء، بحسب بارت.

تكاد الروايات تكون متعبة لو لم تسبقها مشاهدة المسلسلات والأفلام، وهي المشاهدة التي نكتشفها طويلاً قبل أن تتملك أغلبنا لذة القراءة، وهي أيضاً التي تقود أشواقنا في الطواف في القاهرة العظيمة. كما أن هذه المشاهدة المسبقة تسمح لنا بالدخول مباشرة إلى فضاء محفوظ الخاص، وإلى عالمه الروائي، بدل التيه أحياناً أو الملل مما يبدو "مواعظ" الحكيم ("موضع الحب من نفوسنا هو مهبط الخلق والإبداع والتجديد. ولذلك خلق الله الإنسان محباً وترك مهمة تعمير الوجود أمانة في رعاية الحب" من زقاق المدق)، وهذه القراءة تنجي من قراءة سائدة في النقد العربي عموماً، والمصري خصوصاً، لأعمال محفوظ، ولم ينج منها الأديب الكبير نفسه أحياناً، تفترض أن الرواية عمل فلسفي، وليس عملاً مرتبطاً بالمجتمع ووجوده وفرادة شخوصه، وتقرؤها على أنها كناية دوماً عن نظرية شبه فلسفية أو سياسية مقنعة. ولئن كان محفوظ نفسه كتب بعض الروايات على هذا النهج (رحلات ابن فطومة مثلاً) إلا أن قراءة "أولاد حارتنا" بها تنفي عن الرواية كل قيمة أدبية، ناهيك عن أنها قادت إلى محاولة اغتياله.

بين "الرواية" و"الكتاب"

من المؤسف أن يغيب عنا نجيب محفوظ، ومن المؤسف أكثر أن يأتي ذلك في اليوم عينه الذي نقرأ فيه عن قضية "المفكر الإسلامي" حسن حنفي، وعودة أشباح التكفير إلى مصر. ومما يزيد بعد في الأسى أن نتذكر أن محفوظ قبل طويلاً بسلطة الأزهر على روايته "أولاد حارتنا" (لا ننسين أنه نفسه كان رقيباً على المصنفات الفنية في فترة من حياته)، وهو حين قبل بنشرها بعد طول امتناع اشترط تقديمها بمقالة للـ"مفكر الإسلامي" د. كمال أبو المجد، لك يخرج فيها هذا الأخير عن ذكر حوار دار بينه وبين محفوظ، مؤداه، من جهة، أن محفوظ يشدد على "الإسلام والعلم" كدعامتين لأي مشروع عربي جديد، وجديد الحديث هو التمييز الخطير الذي يجريه محفوظ، بحسب د. أبو المجد، بين "الرواية" و"الكتاب". فالرواية، على ما جاء في هذه المقالة ـ الحوار، "تركيب أدبي فيه الحقيقة وفيه الرمز، وفيه الواقع وفيه الخيال"، ونموذجها هو... "كليلة ودمنة". أما الكتاب فيفترض أن فيه الحقيقة وعلى أساسها يحاسب الكاتب. على أن المتحاورين يغفلون أن محاولة اغتيال محفوظ كانت تماماً بسبب القراءة الرمزية للكتاب، وليس محاسبة له على تزييف حقائق التاريخ!

الأخطر في الموضوع هو تلخيص المحاورين معاً للكتاب ـ القضية إلى موقف يريد الكاتب إيصاله للقراء، (وهذه نظرة صحافية وليست أدبية للنص)، حيث يصير "الجبلاوي" رمزاً للدين، و"عرفة" رمزاً للعلم، ويكتشف الناس حاجتهم إلى الأول رغم إغراءات الثاني، لأن العلم بغير الدين تحول إلى أداة شر. فتغيب فضاءات الرواية وشخوصها وبنائها لعوالمها الخاصة لمصلحة رواية رأي، فحواها أن فلان = علم وعلتان = دين، وتجري المعادلة ذهنية بحتة باردة. والحق أيضاً أن كتابة محفوظ اتبعت هذه النظرة إلى الرواية، بوصفها إعلاناً موارباً لموقف، في عدد قليل من الروايات، لكن أغلب إنتاجه كان أثرى بما لا يقاس من هذا الإفقار، الذي ربما لجأ إليه مضطراً بين إلزامات السياسة وإكراه الموجات الدينية التي لم تعفّ عن الاعتداء على الرجل الكبير في جسده.

زمن مصر

كان في نتاج محفوظ دوماً نوع من الكلاسيكية المتأنية، التي تشابه في تؤدتها طبيعة الزمن المصري الحريص على ألا يختلّ بغتة أو تسبقه الأحداث، فهو دوماً يمتصها ويلجمها ويعيدها إلى مسارٍ بطيء ريثما تختمر ظروفها بحسب تقديرات هذا الزمن نفسه. ولهذا مثلاً نفهم أن يكون محفوظ هو أديب مصر الأكبر في القرن العشرين، وليس توفيق الحكيم مثلاً، الباريسي النكهة، والقلق المزاج رغم ما يحكى عن تنسكه ونظراته شبه الفلسفية. فالحكيم أصرح في التعبير عن مراده، سياسة واجتماعا وهو في هذه الأحول يقصر "الفن" على قالب يفرغ فيه مراده، دون كناية أو رمز تقريباً (كالحوارات مع العصا أو مع الحمار)، لكن حسه المسرحي العميق جعله لا يخطئ في كتابة الحوارات ومناسبة اللغة والمفردات لمن تجري على لسانه، كما أنه العربي الوحيد الذي كان معاصراً لزمنه، فجبران حين أتى باريس شاهد القرن السابق، في حين أن الحكيم عاصر الدادائية والسريالية ونظريات الفن الحديث وموجاته ما بين الحربين، فكتب وفي ذهنه بعض ما أفاد منها، وفي نفسه خصوصاً توق إلى زرع هذه الغرسات في الفن والأدب العربيين، وإن كانت بعض كتاباته وليدة هذه الرغبة دون عميق اقتناع بالمضمون. وإذا كات الحكيم حاول أن يهز الزمن العربي الراكد وأن يجدد في صيغه وقوالبه ونظراته، فإن محفوظ كان أشد خفراً وتكتماً، وربما كان هذا سبيله ليكون أعمق أثراً في مصر، وربما في العالم العربي.

إذا كان في قدرة الزمن المصري سابقاً أن يجمع الريادة إلى التأني والتجديد إلى الكلاسيكية، فإن المرء ليتساءل، خاصة مع عودة أشباح التكفير والمد الإسلامي السياسي والأصولي، عن قدرة مصر اليوم، لا على ولادة الموهوبين شأن كل الأوطان، على المحافظة على قامة مثل محفوظ، وعلى السمح لها بالوصول إلى التفوق وضمان الحياة والفرادة وتمهيد السبيل أمامها لنشر نتاجها.

ينبغي ربما التذكير أن ريادة مصر أتت أساساً من وضوح "صحنها" الإقليمي، بالمقارنة مع بلاد الشام، وتنوعها الثقافي الداخلي، وصدمة الإجتياح النابليوني الذي هزها وجعل بورجوازيتها تباشر بدايات المراكمة الرأسمالية، ثم كان الطموح الخديوي إلى مجاراة الآستانة وتحويل مصر إلى بلد أوروبي... الخ. أي أن الريادة المصرية كانت على الدوام النقيض من "الحلم" اللبناني، الصناعة لا الخدمات، وضوح الحدود لا ثقوبها الفاغرة، صدمة اجتياح نابليون بدل تعاون تجاري أسبق ووثيق مع إيطاليا أواخر عصر النهضة، تنوع داخلي ثقافي بدل انفتاح دائم ثقافياً على الخارج، السينما والمسلسل لا الفيديو كليب والأغنية القصيرة والخفيفة، الرواية الضخمة والملحمية لا الثورة الشعرية... الخ.

وإذا كان البعض يرى أن الثورة المصرية في 1952 بطموحها العربي والاشتراكي هي التي أوقفت مسيرة مصرية "صميمة" نحو التقدم، (وهو أمر مشكوك به على أي حال بالنظر إلى ما سبق 1952 بعشر سنوات و ما تلا انفتاح السادات)، فإن الأرجح القول أن ما حصل بعد الحرب العالمية الثانية هو أن انقلاباً عالمياً في معايير الميزات والتفاضلات هو الذي حدث، وأن "الثورة" هي التي حفظت لمصر وهجاً كان استمرارها على "صميميتها" (ومعادلة صفر + صفر الشهيرة) ليفقدها إياه. وإذا كانت هذه هي معايير ما قبل الحرب العالمية الثانية التي سمحت لمصر بالريادة وإحداث ثورات كبيرة في عدد من المجالات الفكرية العربية (كل ثورة الموسيقى على المدرسة الخديوية جرت بين 1925 و 1935، الانطلاقة المصرفية والصناعية في الفترة عينها، بدايات الرواية المعاصرة، المسرح الغنائي ...الخ) فإننا لا نكاد نلمح إنجازاً ضخماً في هذا المجال بعد هذه الحرب، والاستثناء الوحيد والكبير هو بالطبع نجيب محفوظ الذي بلغ أوج عطائه بدءً من انتصاف الخمسينات، معتبراً أن الرواية هي شعر الأزمنة الحديثة، وبهذا كان سباقاً بعيد النظر.

لكن التساؤل ملح اليوم، حين يكون عم عبده داغر يعزف منذ عشرين عاماً للحيطان ذاتها في غرفته الصغيرة، بحسب ما يقول، إلى أن يكتشفه الأوروبيون، وحين يظل عازف شاب رائع وهائل القدرة على التجديد مثل حازم شاهين أسير الانتظار إلى أن تتكرم وسائل الإعلام والإنتاج بالخروج من تكرار الإيقاعات المصمّة، وحين يكون عشرات الموهوبين في الغناء والتمثيل والكتابة والفكر مسحوقين في ظل آلة إنتاج ضخمة وسوق استهلاكية ضخمة ترفض أي مذاق جديد لم يسبق للجماهير التي تقصفها هذه الآلات أن علكته واجترته وأدمنت مذاقه، هل تستطيع مصر أن تقدم هي بنفسها اكتشافاتها بدل انتظار الغرب، وأن تقيمهم علاماتٍ على زمنها المتجدد في عصر العولمة، كما سبق أن فعلت مع سلامة حجازي وعبد الوهاب ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وصلاح أبو سيف وغيرهم، وهل يكفي هروب العديد من هؤلاء الموهوبين والمعترضين إلى فضاء الإنترنت دليلاً على إدخالهم مصر في زمن جديد، أم أن ذلك لن يكون إلا مقدمةً لخروجهم المؤسف هم منها؟

وداع نجيب محفوظ هو وداع لحقبة دخلت في الأسطورة، ووداع لقدرة على التطور والاجتهاد في النظر والرأي وبناء النفس، وإن كان محفوظ يقدم نفسه على أنه وليد زواج الحضارة الفرعونية بالحضارة العربية، فإننا، مصريين ولبنانيين وعرباً، في أحوج ما يكون إلى من يعلنون أنهم أبناء زواج جديد لحضارات معاصرة ولأزمنة متداخلة النسيج، بحيث أن فك تداخلها، كما يحلم التائقون إلى صفاء ونقاء بلا حدود، لا يقود إلا إلى الموت أو الجنون وشقاق النفس.

علا وعوده

ملحق النهار الثقافي، أيار 2006


عَلا و عُوْده السائح و الدليل







في مناسبة نادرة خرج عازف العود الجزائري المبدع عَلا (بتشديد اللام) من عزلته الباريسية ليقدم في مدينة النور أمسيةً ارتجالية في لو كافيه دو لا دانس.

عزلة علا الأسطورية منذ تركه للجزائر في مطلع التسعينات و غيابه المتواصل من ثم عن وطنه الأم تضاف إلى الحكايات الكثيرة الأشبه أيضاً بالأساطير التي تروى عنه في بيشار جنوب الجزائر قرب الصحراء التي يقول، كما كان المصري ادمون جابس ليقول أيضاً، أنه يحملها في قلبه.

من هذه الصحراء ورث علا صفاءً غريباً و نقاءً و تواضعاً جماً و كل ذلك لا ينفصل عن موسيقاه بل يشكل نسغها الأعمق. يجلس علا على وسادة صغيرة قريبة من الأرض ثم يحني رأسه و يضع أذنه على العود كمحب يسمع نبض قلب حبيبة نائمة، و من هنا يبدأ رحلته التي لا ينتهي فصلها الأول ثم الثاني إلا بوقوفه متألم الساق يعرج قليلاً، شأنه شأن المشايخ في القرن التاسع عشر و ما قبله حين كانوا يجتمعون في حلقاتٍ و يمسكون الإيقاع على أفخاذهم.

لا يستعرض علا عضلاته في التقنية و السرعة و إن كان يمتلك منها نصيبه حين يحتاج. لكنه بالمقابل ساحر الإحساس للمتلقي و للعازفين أيضاً حيث يمتلك ضربة ريشة شديدة التميز لا تخطؤها الأذن، بخاصة حين يخطف النوتات المتتالية بالأصابع و بضربات ريشة قليلة. كما أن الأنغام التي يهواها و الخالية غالباً من أرباع الصوت ـ و إن زارها أحياناً بخفة نادراً ما تعرفها ـ و تأثراته و هو في الصحراء العميقة بالموسيقى الأوروبية و البلوز و الغيتار غير الإسباني تضفي على تناوله المقامي و أبعاده (كما يتبدى لمن يلاحظ أوضاع أصابعه) و مفردات جمله نداوة غير مألوفة في موسيقانا.

و علا الكهل من القلائل القادرين في أيامنا على تقديم أمسية ارتجالية بالكامل، إلى جانب التونسي فوزي السايب، و سره الحقيقي في ذلك يتبدى منذ قعوده. فعلا يتبع نداء العود و لا يفرض عليه هيكلاً واعياً سابقاً على اللحظة. و هو إنما ينصت إلى صوت العود، عوده الخارق الذي صنعه بنفسه و الغني بأصوات و "هارمونيك" لا تنضب، و يسري معه بحثاً عن قبس صوت يلوح في بعيد الظن أو الوهم.

لهذا السبب قد يفتتح علا عزفه، أو يعود بعد أن يكون قد خلق مساحة من الصمت، بأن يقوم بمجموعة من الإئتلافات في حركة ريشةٍ دائرية لا تقول سوى البحث عن المنطقة الضائعة التي يبحث علا عن علاماتها ليقودنا إليها، كما يتنسم الدليل في الصحراء معالم الطريق المتقلبة بحسب الكثبان. و هو لهذا السبب أيضاً قد يلجأ إلى مفردات إيقاعية تمهيدية لا يلبث أن يطورها إلى تنويعات مرتجلة تنقل نبضه في هذا الآن.

فعود علا لا يقول فحسب النقاء و الصفاء الباهرين، بل يقول أيضاً أن الروح تائه يغذّ السير على نبضاتٍ متفاوتة، (و هذا النبض هو ما يفيض بسحر من عازف عود مصري شاب هو حازم شاهين، ألمع أبناء جيله اليوم). هكذا يتزاوج ارتجال علا مع لحظات روحه و حركاتها وجهةً و إيقاعاً. و تفاعل المستمع معه ينتج نوعاً مختلفاً من الطرب، ربما هو النشوة الساكنة التي تتوق إليها النفس.

ففي حين يرتكز الطرب كما نعرفه، لا سيما في صيغته المصرية، على أحد عمودين: الشجن الشجي كمسحة من الأسى الخفيف غير الحاد (كصوت محمد رفعت) ، و مرح اللعب مع المطرب في مفاجآته و ارتجالاته (اسمع مثلاً إطراب زكريا أحمد) لا سيما مفاجآت القفلة و النقلات المقامية، و في حين أنه بهذا لا يطال الفرح الحقيقي (و هو غير المرح اللعوب) و لا الحزن البالغ (و هو سوى الندب و النواح) كما في موسيقى البلقان مثلاً، نرى علا و هو يطال الفرح بيسرٍ مذهل و يقول النقاء بمثل ذلك من الصفاء، أما الحزن فيظل بعيداً و إمّا خالطت الدموع العيون أو تجمعت في الحنجرة فما ذلك إلا للحظات لا تطول، كقطرات ترتشفها الروح دون أن تستجدي بها تصفيق الآخرين و لا "اندماجهم".

أمسية علا حدث حقيقي يهز المنصت و يحمله إلى سكينته الخاصة أو إلى قلقه مروضاً لكنه حدث دون استعراض أو إبهار. حدث هادئ يعصف بالنفس دون أن يلوح أن ثمة أمراً فيها تزحزح من مطرحه، الحدث دائماً سابق على الإنتظار. لافتة و دقيقة جداً هي الكلمة الوحيدة التي تلفظ بها علا في الأمسية، في ختامها تحديداً، بعد إيابه من تجواله في ثنايا الروح، قال بالفرنسية: voilà (هُوَذا).

الرحابنة، لهجة موسيقية للبنان

ملحق النهار الثقافي، 17 حزيران 2006
في ذكرى عاصي الرحباني
تأسيس لهجة لبنانية في الغناء العربي





لا تكاد شمس العائلة الرحبانية تغرب عن لبنان، منذ اندلاع ثورة الأخوين في إذاعة الشرق الأدنى، مروراً بأجيال الأبناء المتنوعي المصادر. ولا يفتر اهتمام اللبنانيين بهم، ما بين مؤتمرات ومقالات، وكتب، ولا تزال كل حفلة لفيروز حدثاً في البلد. لا شك في أن الرحابنة يمتلكون أدوات التواصل الإعلامي وحسه، وأن إقلال فيروز من إطلالاتها ورصانتها يحفظان لها موقعاً وتقديراً لدى اللبنانيين. لكن المرء لا يستطيع إلا التساؤل عن سر هذه القدرة المميزة على الاستمرار في صلب الاهتمام الشعبي، في حين أن يوتوبيا الوطن الرحباني الأصلي قد تبددت نتفاً ممزقة في الحرب، والمسرح الغنائي، أي عملياً النتاج الرحباني الجديد، في طور احتضارٍ طويلٍ وممل، وفي حين أن ما يجتاح الأسماع والإذاعات اليوم لا يكاد يمت بصلة إلى الغناء العربي.

في هذا الإطار فإن ذكرى وفاة عاصي فرصة جديدة للتفكر في التجربة الرحبانية ككل. فالأسطورة اللبنانية تعطي لعاصي دور الفنان العميق والميتافيزيقي داخل المؤسسة الرحبانية، وتقصر منصور على "الصنعة"، وهو ما تكاد تثبته انتاجات منصور بعد وفاة أخيه، لولا أن الحكم نفسه ينطبق على ما سبق وفاة عاصي ولكن بعد الافتراق مسرحياً عن فيروز.

الصوت الفيروزي

يبدو إذن أن تجربة الأخوين رحباني كانت انتهت قبل وفاة الكبير عاصي، لارتباطها العضوي بالطرف الثالث في العادلة، أي الصوت الملهم والحامل للمشروع الرحباني، وهو أيضاً عين ما حدث للقصبجي حين ابتعدت عنه أم كلثوم وبعد وفاة أسمهان، وما حدث للسنباطي تقريباً في كل مرة لم يلحن فيها لأم كلثوم. هذا الكلام إن صح يستتبع ملاحظتين على الأقل، الأولى أن تفسير المعجزة الرحبانية ب"صوت فيروز، ولا حاجة لمزيد" (السبب الأول من أسباب أربعة يقدمها فواز طرابلسي في كتابه) تفسير يحتاج هو نفسه إلى تفسير طويل. فتذوقنا الجمالي لأصوات المطربين والمطربات يحتاج أيضاً إلى قراءته في سياقه التاريخي، الفني تحديداً، وليس إلى قراءته على ضوء مانشيتات صحف الحقبة، ولا بناءً على نظرة مسحورة ومبهورة بالعذوبة الفيروزية. ببساطة، من قال إن خامة صوت فيروز عذبة؟ وبأي معيار؟ وهل كانت فيروز لتصلح للغناء في عهد منيرة المهدية وقبل اختراع الميكروفون؟ أي بكلام آخر، إن افتراض قيام معايير طبيعية تسمح بالحكم على نتاج فني هو افتراض سحري النظرة إلى العالم، ويكتفي، خلف هذا الانبهار، بتكرار الكليشيهات والأفكار الرائجة في فترةٍ ما. لا مجال هنا للتوسع في هذا الجانب من تاريخ التذوق الفني للمدرسة الرومانسية العربية التي قد تبدأ من أم كلثوم القصبجية مروراً بفيروز ونجاة الصغيرة وعبد الحليم حافظ وسواهم، لكن الإشارة قد تكون ضرورية إلى استحالة تخيل استقبال الأذن للخامة الفيروزية لو لم تسبقها تجارب أسمهان وليلى مراد خصوصاً، هذا من جهة، ولو لم تكن فيروز الصوت الحامل لمشروعٍ فني متكامل هو مشروع الرحابنة، الذي يتطلب مغنية بحساسية مختلفة عن طاقات من سبقوها.


وحدة العمل الشامل

الملاحظة الثانية إن استحالة التمييز بين حصة منصور وحصة عاصي في عملهما المشترك ليست إلا دليلاً جديداً على وحدة هذا العمل العضوية وعلى فرادته في التاريخ العربي المعاصر. فالأخوان رحباني، وهم عملياً آخر المشاريع الموسيقية الكبرى في الوطن العربي، كانوا يطمحون دوماً إلى عمل فني شامل على الطريقة الفاغنرية، ومحوره بالطبع المسرح الغنائي، وفي درجة أقل السينما. إلا أن ذلك يتطلب تعبئة قدر كبير من الأدوات الفنية، وصهرها في وحدةٍ لا تنفصم، وفي هذا فإن كونهما أخوين لا شك ساهم في تحقيق هذا الإنصهار، وفي تقديم تجربة فريدة من حيث امتلاك كل هذه الأدوات معاً (الكتابة للغناء وللمسرح، والتلحين والتوزيع، والإخراج، والتواصل الإعلامي). وحدة العمل وسيطرتهم التامة عليه لا تسمح حتى بتقدير حصة الآخرين فيه، إن صح ما ذُكِر عن كتابة الماغوط لهم مثلاً، إنهم مسؤولون تماماً عن كل النتاج الذي قدموه في المسرحيات أو قدمته فيروز تحت إشرافهم، حتى من ألحان عبد الوهاب، سلباً وإيجاباً، فأثر توزيعهم مثلاً جليّ على طريقة تلحين عبد الوهاب في "سهار بعد سهار"، وأوضح حتى في "ضي القناديل" التي غناها عبد الحليم. أما السلبي فأبرزه ضيق المجال الذي سمحوا فيه بالتعاون ما بين صوت فيروز زالملحن اللبناني الأكثر احساساً بالروح الشرقية، أي في الوقت عينه الأكثر مرحاً، فيلمون وهبه الذي قدم بعض أجمل أغاني فيروز لناحية تطريبها، المشبع خفةً دون افتعال.

الأغنية أم المسرح؟

رغم بحثهم المتواصل عن العمل الفني الشامل، فإن ثمة قلقاً دائماً في استقبال الإنتاج الرحباني، وفي أولوية الأغنية أم المسرح فيه. ويعكس هذا القلق واللااستقرار شروخاً في الوحدة الرحبانية، فكثير من مشاهدي مسرحهم كانوا يذهبون ليسمعوا آخر الأغنيات، وإلى اليوم تبدو الأغاني هي المسموعة على نطاقٍ واسع، في حين يكاد يصبح كل استماع إلى المسرحيات استماعاً ايديولوجياً أو باحثاً عن أصداء اليوتوبيا اللبنانية فيها.

وينطبق هذا حتى على الأغاني المسرحية. فهي تنفصل بسهولة عن النسيج المسرحي وتقبل العيش منفردة مستقلة في وسط الأغاني الأخرى، باستثناء الـ"ردات" الزجلية. وهو ما يعكس خاصية أخرى من خواص العمل الرحباني هو أن مرجعية مسرحهم الغنائي ليست أعمال سيد درويش والمسرح الغنائي المصري في الربع الأول من القرن العشرين، بل هي سهرات الزجل، والشخصيات التي يلعبها الزجالون تبدو الأكثر تأثيراً في بناء شخوص المسرح الرحباني، لذا يغيب بُعْد تصوير الفئات والطبقات والمهن الحقيقية، أي احد جوانب ثورة سيد درويش الأهم. فلا بائعة البندورة بائعة خضار فعلاً ولا عامل المحطة يعرف شحم القطارات، بل هم رموز، محتواها الاجتماعي ليس مباشراً بل محصور باستعمالهم في العالم الرحباني المتخيل والمطهّر، العالم المنزوع الفتيل دائماً، ما منع التعبير القصصي الفعلي من خلال شخصيات حية، وأقصى التعبير عن العنف. حتى يكاد يكون المرجع الآخر للمسرح الرحباني هو مسرح كراكوز وعيواظ والدمى التي تحركها دوماً الأصابع من وراء الستار كي تقدم في النهاية حجج الخطاب المستتر المعلن.

في المقابل، تستطيع الموسيقى دوماً أن "تخربط" هذا الخطاب، كما كل خطاب، وأن تخرج عليه. وأن تجمع اللبنانيين، حتى في فترة الحرب، على ذائقةٍ لحنية كانت مستحيلةً قبل الخمسينات، لأسبابٍ عديدة أهمها ربما ريفية منطلقها الجبلي بالنسبة إلى المدن الساحلية المرتبطة موسيقياً كما سياسياً بحلب وبالقاهرة.

الموسيقى الرحبانية أيضاً تلوح الإرث الحقيقي المستمر لهذه المؤسسة، فالمسرحيون لا يرون في المسرح الرحباني مرجعاً، ولا السياسيون، إلا الأكثر سذاجة، يرون فيه تجسيداً لحلم أو لفكرة عن الوطن اللبناني.

تأخر الثورة الرحبانية

في إطار السياق الموسيقي العربي يمكن أن نلاحظ تأخر الثورة الرحبانية عشرين عاماً على الأقل عن الانقلابين الخطيرين الذين أحدثهما سيد درويش في البداية، ثم القصبجي وعبد الوهاب في الفترة ما بين 1928 إلى أواسط الثلاثينات. والذين فتحا أمام الموسيقيين العرب آفاق المقدمات الموسيقية البحتة، والتفاعل مع الموسيقى الأوروبية، واستخدام فرق كبيرة تحتاج إلى عملية توزيع موسيقي عالمٍ، تولاه في مصر أناس مثل ابرهيم حجاج وأنطوني رايدر. من دون هذه المقدمات، كان من الصعب للتجربة الرحبانية أن تلقى قبولاً واهتماماً من الناس.

أهمية الرحابنة إذن ليست افتتاحيةً، وإن كانوا قد أسسوا لخصوصية في التعامل مع هذه المعطيات والعناصر الموسيقية الجديدة على الذائقة العربية. كما أن أهميتهم ليست في الإشباع الطربي رغم قصر مدة الأغنية، على خلاف ما حسب عبد الوهاب يوماً. قصر الأغاني ليس معياراً، ففي مصر، وفي ظل الأسطوانة القديمة، أي ما قبل تسجيلات الإذاعة، تفككت الوصلة الغنائية وتتابعها الموروث وتركت وحداتها المكونة أغنيات قصيرة، طقاطيق أو قصائد أو مووايل، لا تكاد تتجاوز الست دقائق وهي تقريباً مدة المونولوج الكلثومي كما صاغه القصبجي في البداية، قبل حفلات أم كلثوم الشهرية.


تكوين الذائقة الجديدة

في المقابل، أدخل الرحابنة على الأغنية العربية جمالية شعرية لطالما ترددت حيالها المدرسة المصرية الأكثر محافظة والأقل عناية بالكلمة، باستثناء سيد درويش طبعاً. فالمقارنة بين أحمد رامي مثلاً وبين سعيد عقل تظهر كل الفارق في الرنة المتحررة من رصانة النمط التقليدي، وإن حافظت على أوزانه، كما تظهر الفارق في طبيعة العالم الرمزي الذي تحيل عليه مفردات وتشابيه عقل، في حين تظل رومنطيقية رامي مفتقرة إلى ثراء الألوان، وسرعة الضربات في بناء لوحته، وتظل أسيرة العشق العربي في صوره التقليدية. كما أن الرحابنة بالتعاون مع عدد من شعراء العامية اللبنانية نجحوا في تطعيم الكلام المغنى يالروح نفسها، وهو ما لم تستسغه المدرسة المصرية التي ابتعدت عن تجارب شعراء عاميتها الأهم، كفؤاد حداد، وبقيت في إطار "الصنعة" عينها مع حسين السيد مثلاً أو أحمد شفيق كامل، باستثناء تجربتين لافتتين ومقموعتين، الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، والشيخ سيد مكاوي في أعمال لم يصلنا سوى رأس جبل الجليد منها، أي الليلة الكبيرة والمسحراتي، مع حداد وصلاح جاهين.
اللافت في هذه المقارنة هو اهتمام المشايخ بتطور العامية المصرية، في حين كان "العلمانيون" أكثر تقليدية. والاهتمام الرحباني يوازي هنا، على صعيدي اللحن والكلمة، اهتمام المشايخ.

وربما يعود ذلك إلى اهتمامٍ رحباني بالموسيقى الدينية التي تولي أهميةً قصوى للكلام، وهم الوحيدون، على أي حال، الذين استطاعوا أن يقدموا فناً موسيقياً استوحى الكثير من قداسات وتراتيل ومدائح الكنائس المشرقية، خلافاً للمشاريع الموسيقية العربية المرتبطة عموماً بالتجويد. هذا التأثر البارز، شعراً ولحناً وتكويناً لصوت فيروز، بمصدر مختلف وثري، أضفى لهجة لحنية خاصة على أعمال الرحابنة، أبرز سماتها التقشف الزخرفي، والتواضع الخاشع للصوت الذي قلما يستعرض نجوميته وقدراته، خلافاً للتجويد الذي يقوم بدرجةٍ كبيرةٍ على استعراض تطريبي هائل وبديع. كما أن من سماتهم أيضاً التركيز على المقاطع لا على أحرف العلة في تكون الجملة اللحنية، كما هي الحال غالباً في الموسيقى الكنسية، وكذلك القلة النسبية في استعراض الوحدة الإيقاعية على درجات السلم الموسيقي، في ما يعرف بالتتابع، أو القيام بذلك ضمن نظام معقد يكسر عمداً التتابع، ونجد مثالاً على ذلك في "عصفورة الشجن".


في لاجدوى النقاشات المكرورة

من السمات اللحنية التي تثير دائماً النقاش حول الرحابنة، كما حول عبد الوهاب، هي العلاقة بالموسيقى الأوروبية. إنه السؤال المتكرر عن التغريب، عن الاقتباس والتضمين والتعريب. لكن هذا السؤال في الواقع لا يؤدي إلى غاية. فنقاد الشعر العربي القدامى يعدون أكثر من دزينة من أنواع التوارد المقصود بين شاعرين، بعضها مستقبح وبعضها مستملح للغاية، وتطبيق مثل هذا التدقيق على الموسيقى سيفتح مجالاتٍ لتصنيف أوسع بعد، بحيث تنتفي منه الفائدة الفعلية. في الواقع، لا يملك المرء إلا التفكر في إن ادخال كلمة إلى اللغة، الديمقراطية مثلاً أو الموسيقى، يفتح بالضرورة آفاقاً هائلة أمام من يفكرون بها، فكيف بادخال كل هذه المفردات النغمية والتوزيعية والخلايا اللحنية والايقاعية ؟ ذلك بالطبع بشرط مراعاة الذائقة الفنية الأصلية وعدم تنفيرها، وهي الشروط التي تنطبق على كل استدخال ناجح للجديد.

النقاش المكرور الآخر هو حول شعبوية النتاج الرحباني، أو تغريبه. والواقع أن السياق الفني الرحباني، والمصري منذ أواسط الأربعينات، يشهد على عزلة أم كلثوم التي تراجعت عن التطوير مع القصبجي لتفرض نيوـكلاسيكية السنباطي. أي بمعنى آخر كان التغريب آنذاك شعبوياً، كما أن اسماع "الآخرين" للزجل الجبلي اللبمامي كان تغريباً للمستمعين عن مألوفهم. في كل هذا لم يكن فن الرحابنة فناً "شعبياً" (خلافاً لما يحسب أيضاً فواز طرابلسي)، سوى في جزءٍ منه وفي الجبل اللبناني، أي أنه لم يكن ينهل من ثقافةٍ شعبية موروثة، وهو حين قارب الموشحات والقدود مثلاً قاربها بتوزيعٍ جديد بالغ الأوركسترالية أدخلوا فيه البوليفوني والهارموني، وعدل في كلماته. أي أن الرحابنة تعاملوا مع التراث غير الزجلي كمادة أولية يخضعونها لأساليبهم هم، دون أفضلية لها على غيرها.

اختراع الأنماط

لكن يظل أن احد أهم خصائص الرحابنة قدرتهم على اختراع أنماطٍ جديدة من الأغاني. ولا نعني هنا القوالب، وإن جددوا فيها، بل تلك الوحدة التي تنتج عن تناغم عميق الانصهار ما بين ايقاعٍ معين (أو تسلسلٍ إيقاعي) وبين مناخ موسيقي (ومقامٍ غالباً) وبين طريقة توزيع وكتابة للآلات (البيانو والفلوت، أو آلة نفخ أخرى كالترومبيت أو الساكسوفون أو أكورديون في الخلفية الموسيقية لنمطٍ ما، في مقابل طريقة استخدام البزق، أو القانون في آخر، أو استخدام عود منير بشير في دور غير تقليدي في ثالثٍ)، ويضاف إلى ذلك أيضاً مناخ شعري أو حقل دلالي ومعجمي متقارب في كثير من الأحيان. والتوزيع في مثل هذا الاختراع بالغ الأهمية لأنه يضمن وحدة العمل الحقيقية، ويعمقها.

لذا ثمة اعجاز في عمل زياد الرحباني في إعادة توزيع أعمال يشكل التوزيع ركناً أساسياً في تركيبتها النمطية وفي وحدتها، وفي الآن عينه إظهار وحدة كل نمط وفرادته! يثبت زياد في ذلك إمتلاكاً هائلاً لتقنيات الكتابة الرحبانية للآلات، وفهماً عميقاً لها، دون أن يقع أسيرها. فيكاد شريط "إلى عاصي" أن يكون قائمة حصرية بهذه الأنماط المختلفة، متفادياً غالباً التكرار فيها، وإن أغفل ربما بعض المحاولات القديمة السابقة على تمام النضج الرحباني واكتمال مدرستهم وطريقتهم.

اخترع الرحابنة إذن مجموعة كبيرة من الأنماط، التي نسجوا أيضاً الكثير على منوالها، لكن ذلك لا يقلل من أهميتهم، فما قدمه السنباطي مثلاً على هذا الصعيد يكاد ينحصر (وهو لا ينحصر فيها فعلاً، لكن نتاجه الآخر قليل وغير معروفٍ جيداً) في بعض الأعمال الخفيفة (على نمط على بلد المحبوب) وفي القصيدة الدرامية المطولة، رغم أنه قدم أعمالاً فائقة الجمال داخل هذين الإطارين. وهم في هذا لا ينافسهم ربما إلى الانتاج الضخم لعبد الوهاب.

الإرث اليوم

يبدو اليوم أن الإرث الأكبر والوحيد ربما للرحابنة هو تأسيس لهجة غنائية لبنانية واضحة وخاصة، وهو جهد شاركهم فيه آخرون بالطبع، كفيلمون وهبه وتوفيق الباشا وسواهم. ولقد أثروا بالتأكيد على فنانين آخرين تلوهم، كمارسيل خليفة وغيره. مثل هذه اللهجة مستمرة، لكنها تبدو كما لو بدأت مسيرة انحدار سريع، منذ أواسط التسعينات على أقل تقدير، إذا ما دققنا في توجهات المغنين اللبنانيين، وحتى الملحنين والموزعين اللبنانيين.
قد لا نأسف كثيراً إدا ما كان ذلك تأسيساً لجديد، أو دمجاً للهجاتٍ عربية أخرى في نسيج اللهجة اللبنانية في الغناء العربي، لكن الأسى سيكون بالتأكيد مضاعفاً إذا ما تحقق ما يلوح من أن التوجه العام اليوم هو نحو الغاء كل علامة على الخصوصية من أجل زيادة المبيع، وتحقيقاً لحلم البعض بعالميةٍ ما. فالرحابنة كانوا أيضاً أحد الأسباب المبررة لاستقلال بلد يبحث عن مقومات وطن. والاجماع في الحرب على صوت فيروز كان أيضاً محاولة من فئة لامتلاك ما تعتبره فئة أخرى رأسمالها الثقافي والرمزي، لكن هذا الإجماع كان أيضاً رمزاً على تعلق الجميع ببعض ما يبرر استمرارهم، رغم الحرب، في الانتماء إلى بلدٍ واحد، له كما لكل البلدان خصوصياته التي يصوغها أناسٌ يحلمون، حتى وإن كان البلد مغايراً ومبايناً لحلمهم، كعاصي الرحباني وأخيه.

خفة المدلل المسكرة

صفحة النهار الثقافية، أيلول 2006
صبري المدلل: للخفة قوة الخمر




غيّب الموت، عن عمرٍ دانى التسعين، شيخ مؤذني حلب ومنشديها ورئيس مدرستها الموسيقية، الأخير ربما، صبري المدلل. في ألقاب المدلل عبق شرق عتيق، باهر ومغوٍ، كما في غنائه، وعبق مدينة لا زالت في بلاد الشام اسماً خلاباً وأسطورياً، حلب قصدنا...

من المؤسف أننا لم نكد نسمع المدلل إلا عجوزاً، لندرة التسجيلات القديمة، وهو في ذلك يستفز ولع الهواة كما يطيل الغموض والتشوق إلى التحقق من طبيعة ذلك الصوت في صباه، فصوت المدلل كما سمعناه، على جودة أدائه وتمكنه، كان أشبه بنثر الأسطورة منه بشعرها الملحمي الأصلي، دون أن يخلو من الوحدات الأسطورية ومن ضروبها.

وفي الضروب أيضاً كان المدلل مبرزاً، على جاري عادة المدرسة الحلبية، أو الشامية عموماً في الموسيقى والغناء. فمن السمات الرئيسية لهذه المدرسة احترام الأصول والإيقاعات، والتصرف المحدود بحدود هيكلية الجملة اللحنية، على خلاف ما كانت عليه المدرسة المصرية التقليدية، ما قبل عبد الوهاب وأم كلثوم، ويراجع في هذا المجال نقد كامل الخلعي لجهل معاصريه بالإيقاع، والنكتة التي يذكرها الباحث فرديريك لاغرانج عن لوم عبد الحي حلمي، خال صالح عبد الحي، لضارب الإيقاع في تخته قائلاً له أنه، أي حلمي، ليس جندياً في جيش الدموم والتكوك (جموع دم وتك). ويجدر التذكير هنا بأن الموشحات دخلت مصر من بلاد الشام وليس من الأندلس، مع "سفينة المُلْك" للشيخ شهاب، كما أن أبو خليل القباني أسس لنهضتها المسرحية الغنائية لاحقاً.

وربما يعود الاختلاف بين المدرستين، المصرية (القاهرية) والحلبية، إلى قرب حلب من الآستانة التي كانت لفترة طويلة مركز الأرستقراطية والتجميع والصياغة الموسيقية للشرق كله، كما إلى غلبة أهل التواشيح الدينية والطرق الصوفية على منشدي حلب في حين أن كثيراً من المغنين المصريين كانوا من "خارج الإكليروس" كعبد الحي حلمي المشار إليه، أما من كان منهم منشداً في الأصل فيغلب عليه احترام إيقاع التواشيح والأذكار، إلا في حال تقطيعها على طريقة السؤال والجواب، وفي هذا فإن تسجيل الشيخ المصري إبراهيم الفران لقدّ "هيمتني تيمتني" الحلبي (ويقال أن واضعه هو الشيخ أمين الجندي، الحمصي!) واضح الدلالة على تقطيع القد بحيث يستعرض الشيخ في الجواب على بطانته التي تمشي بإيقاعٍ مضبوط. ومن المعلوم أن الإيقاع أمر حيوي، بيولوجياً، في السماع والنشوة الصوفيين.

وربما يعزى ذلك أيضاً إلى احترام أكبر للموشحات، التي صيغ أغلبها في بلاد الشام، وإلى استمرار الدراية بأصولها كما بالأبعاد النغمية الدقيقة، التي تراجع العمل بها في مصر سريعاً بسبب الرغبة في الضبط والتحديث والتقنية الجديدة التي غزت النهضة المصرية كأول نهضة في الشرق الأدنى، كما إلى الطبيعة الشعبية للقدود التي تفرض معرفة بالجملة اللحنية واحتراماً لإيقاعيتها.

ما يؤسف له أيضاً أن المدلل غاب قبل أن يستفيد منه الدارسون في بحث الإمكانية النظرية لتطوير الموسيقى العربية من داخلها، ذلك أنه، وهو تلميذ عمر البطش وبكري الكردي (الذي لحن له طقطوقة "ابعت لي جواب" الذائعة الصيت)، أضاف أيضاً تواشيح ومدائح من ألحانه كما فعلا. ويلاحظ أنهم، وعلى غرار المدرسة الحلبية عموماً، لم يحدثوا قطيعة عميقة في نسيج بنية الجملة الموسيقية العربية أو الأغنية فيها، بل لحنوا وأضافوا كما كان يفعل السلف من داخل الإطار المسبق الذي نشؤوا فيه. وإن كان التأثر بالغرب ليس عاراً (فسيد درويش الذي يتغنى به الجميع كان شديد التأثر بالموسيقى الغربية، كلفاً بها ومتشوقاً لدراستها في الوقت عينه الذي كان يلحن فيه تواشيح ومدائح رائعة مثل "ميلاد المصطفى" للشيخ علي محمود) والامتناع عنه ليس فخاراً، فإن العكس أيضاً صحيح، غير أن المطلوب هو تقييم جدي وعميق لقدرة هذه الموسيقى، التي يفترضها البعض، على التطور من دون عوامل خارجية، وهو ما نشكك به، بدليل أن المدرسة الحلبية نفسها لم تقدم إضافة فعلية على إرثها، ولم تقوَ على الاستمرار فيه، وأسلوب غناء صباح فخري نفسه لمقطوعات شامية ومصرية، وتنظيم فرقته وصولاً إلى تقاسيم العازفين، تدل على ذلك.

صبري المدلل بقي يهز قلوب سامعيه طيلة حياته، خشوعاً متى شاء وطرباً، ومع غيابه يأفل أحد آخر الأسباب التي كانت تحمل على القول بأن الموسيقى العربية لم تمت، لأنها كانت لا تزال تبتدع في كل مرةٍ الطرب والخفة في النفس وتلعب بالرؤوس، كأن الخفة فيها قوة الخمر، ولا خمر، ولأنها معه كانت قلب البهجة و"مقام المسرة" (عنوان فيلم عن المدلل)، لا هامشهما المشين. ولأنه أخيراً كان يقنعك بأنه فتيّ، مثلها، ومثل من يستمتع بها معه وتشغف قلبه. مع غياب المدلل، تشعر أنك ازددت شيباً، وأن لا طربوش لتخفي تحته اشتعال رأسك، وأن منتديات الموسيقى العربية على الانترنت ما عادت تجمع سوى محترفي الحنين، الذين يضمون شغفهم بالفصاحة إلى المنمنمات الموسيقية المشغولة بالدماثة وبالصبر العتيق الذي أفل مع المدلل، ويحلمون بزمان الوصل... في حلب.

كلمات! كلمات! كلمات

ملحق النهار الثقافي، أيلول 2006
دقة الكلمات التي تقيّد العسف



من الواضح أن ثمة هوساً فعلياً لدينا، كما لدى بوش بإرهابه والإسلامو ـ فاشية، بإلباس الواقع لبوس الكلمات، على حساب الخراب الشامل وعلى حساب قدرة الكلمة على الدلالة، غير أن ذلك يجعل كل خطابٍ شيفرةً سريةً لا تخاطب إلا جماعة تتقاسم "الكود" وأسلوب فك الرموز. وإن كان هذا الأمر يسمح للجماعة ببناء اختلافها عن الأخريات، إلا أنه في شيوعه الحالي يمنع اللغة من تأسيس فضاء سياسي مشترك بين الجميع. كما أن فشو تمويه الواقع باللغة يمنع قيام أي دعوة للتغيير على أسسٍ واضحة، ويترك الناس أمام خيار تكذيب الجميع أو عبادة الأشخاص، أو الإثنين معاً على ما يشهد الواقع اللبناني.

هذا يستوجب التدقيق في استخدام بعض المفردات المرشح يعضها لأن يصير، بأقرب مما نتصور ربما، "الرمز" الجديد للتعارف وللتقاتل بين الجماعات اللبنانية.

الكرامة الوطنية

لا يبدو مفهوم الكرامة مفهوماً سياسياً بالطبع، فهو ليس أكثر من رداءٍ يخلعه السياسيون على قبح سياساتهم وعلى المصالح المخبأة وراءها. غير أن كل استعمال من هذا النوع لهذه المفاهيم إنما يفرغها من محتواها القانوني، ويقوّض بالتالي الأسس التي تواضع عليها الناس مرجعاً لحلّ النزاعات بطريقة غير عنفية. ومن المعلوم بالطبع أن تقويض القانون هو أيضاً تقويض السياسة، لأن القانون هو اللغة الأساسية التي يمكن للمطالب و التسويات السياسية أن تتجسّد فيها. والعمه في هذا الغيّ لا يبعث تالياً سوى على الوثوق بدنوّ النوائب.

هكذا مثلاً، حين يبتكر أحدهم مفهوم الكرامة الوطنية، غير الموجود في القانون الدولي العام، فإنه ينقل الكرامة إلى الوطن، وضمناً إلى الدولة، ومن ثمّ إلى أصحاب النظام فيها، وهو بذلك ينزعها عن المواطن و يمهد لسحقها لديه في الوقت عينه الذي يخرجها عن دائرة القانون. ذلك أن الكرامة، في القانون، مفهوم محصور بالكائن البشري، ومؤخراً تجري محاولات لبلورة مفهوم كرامة الجنس البشري بكامله، انطلاقاً من كرامة الفرد، وذلك بهدف منع ممارسات كالاستنساخ، دون أن تصبح بعد متماسكةً.

على الصعيد السياسي إذن، كان الأولى اشتقاق كرامة الوطن من كرامة المواطن، وليس فرض العكس، أي أن تكون كرامة الوطن في بقاء المواطن في ظل عيشٍ ومعاملةٍ كريمين وفي حريةٍ وأمنٍ في نفسه وأهله وماله ورأيه، وهو ما قلّما عرفه مواطن في أوطاننا الكريمة.

إسترهان لبنان

تتوالى الانتقادات، من أطراف داخلية وخارجية، لحزب الله لاسترهانه لبنان في حربه مع إسرائيل، أي أخذه له رهناً ورهينة. وكان لسان العرب ذكر عن ابن سيده، قال: "الرَّهْنُ ما وُضِعَ عند الإِنسان مـما ينوب مناب ما أُخذ منه".

غير أن مثل هذا الوصف كان يليق بالطبع بالنظام السوري، إن صدق في زعمه أنه يبتغي استعادة الجولان، لا اتخاذ لبنان منه بدلا. أما أن يصدق في حزب الله فموضع شك، لأن الجزء لا يستطيع استرهان الكل، ولا يسع فئة أن تسترهن شعبها دون أن تسترقّ نفسها. كما أن مثل هذا القول مردود لأن ليس من أمر أُخِذ من يد الحزب حتى ينوب لبنان منابه. لا يسع مثل هذا القول أن يكون في محله إذاً إلا إن يقل المرء أن هدف حزب الله لا يزال استرجاع وحدة المسلمين وفرضها دولة واحدة لأمة واحدة، غير أن لا شيء في خطاب الحزب يذهب مثل هذا المذهب.

إذن ليس لبنان رهينة، منذ الانسحابين السوري والإسرائيلي، ولا الحزب يهدد بتقويضه أو يتخذه درعاً (بما أن الخراب واقع أساساً بمنطقة الحزب نفسه) إن لم تنفذ مطالبه في مزارع شبعا واسترجاع الأسرى! بل الحزب يعلن دوماً وصادقاً السعي إلى تجنيبه التقويض والوقوف في وجه ضربات العدو.

وليست المصادرة بأدق تعبيراً، خصوصاً أننا لم نجد لها أثراً في معنى الاستملاك لعينٍ ما، إلا إن يكن أصلها بمعنى الرجوع إلى الأصل الذي صدر العين عنه، أو نقله إلى موقع الصدر والصدارة، وفي المعنيين هذين تقدير فائق للدولة ولموقعها لا نفترض أن الفردانية الليبرالية الصميمة في النظرة اللبنانية للدولة تحتمله. كما أن الاقتطاع أيضاً لفظة غير وافية بالمقصود، إذ أن اقتطاع جزء من الأرض وتسويره لا يشمل القدرة على استجرار الأذى على ما سواه. أما تعبير "الطائفة الإثنية" فيضيف إلى تعقيد وضع الأولى غياب دقة الثانية، إن لم نقل باستحالة العثور عليها في الواقع، ناهيك عن تدافع التعبير وتنافي اللفظتين، إلا إن يكن صاحبه يقصد اختصار "الإثني عشرية"!

تسوير جزء من الأرض واقتطاعه، والقدرة على القتال انطلاقاً منه، على أن يشمل الضرر عن القتال ما ليس في الأرض المقتطعة ولا في أرض العدو، والتعامل مع هذه الأضرار على أنها "أضرار جانبية"، وفي المقابل فإن المطالب التي يرفعها الحزب في وجه الجميع لا تقتصر على استرجاع الأرض والأسرى من العدو، بل على إثبات العدو لنيته في الاستسلام النهائي الذي لا قائمة له بعدها، بما أن طبيعته في الجوهر عدوانية وهذه العدوانية تبرر كل ما سبق من استعدادات: في كل هذا لا يبدو أن الحزب يأخذ لبنان رهينة، بل أنه يتعامل معه فقط كما تتعامل معه إيران أو أميركا، أي على أنه ساحة لم يستطع اقتطاعها كاملة، فاقتطع ما أمكنه، وترك الباقي لوظيفة الساحة. المشكلة ليست في استرهان الحزب لبنان، بل كونه أول طرف لبناني في تاريخ لبنان الحديث يسعى إلى أن يكون لاعباً ـ فعلياً ـ في ـ لبنان ـ الساحة، خلافاً لكل أطراف الحرب اللبنانية الذين كانوا بيادق هنا أو هناك واستفادوا من الساحة دون أن يربطوا وجودهم ببقائها على حالها، إذ أن لبنان المزرعة كان ولا يزال بيئة مؤاتية أيضاً لهم. لكن حزب الله ربط وجوده بقيام الساحة وبقيامه لاعباً "اقليمياً" فيها، في حين بدا أن المال "النظيف" والعقيدة الطاهرة منعاه من استحلاب الدولة، وهو ما يزال مصراً على تجنبه في ما يبدو. تعففاً؟ ربما. لكن ذلك وحده يسمح له بالاستمرار في تسوير "منطقته" ومنع أبنائها من مخالطة الآخرين، في حين أن لعبة الدولة، بما في ذلك المحاصصة، دخول في سراديب لا يسعها إلا أن ترسخ علاقات (وبعضها علاقات فساد بالطبع) تقفز فوق هذا السور.

في هذا المعنى، وحيث أن الساحة هي الباحة، بحسب القاموس المحيط، فإن المشكلة مع حزب الله هي في "استباحة" الوطن اللبناني (في المعنى الدقيق، ولا حكم قيمة فيه، أي اتخاذه باحة)، لا في استرهانه. ونزع ذرائع حزب الله في الاحتفاظ بالسلاح يغدو بالتالي مطلباً هزلياً لأن الذريعة الأولى له، والأصدق والأعمق (فالذريعة في لسان العرب هي الوسيلة، وليست الكذبة)، هي هذه "الاستباحة" والتي لن تعدم مسميات أخرى. ولما كانت "الاستباحة" تحمل شحنة سلبية فإن المفضل ربما نحت تعبير "الإستساحة" (على وزن الإستساغة!) أو استعمال تعبير آخر مثل "إقليمية" الحزب، ما دام كل طرف في هذا الإقليم السعيد يتعامل مع لبنان على أنه ساحة ويرى في نفسه قوة عظمى إقليمية!

إن نزع ذرائع حزب الله في هذا المضمار، مثل نزع سلاحه، لا يمكن لأحد أن يقوم به، سوى الحزب نفسه، وطوعاً ، حين يقتنع الحزب نفسه أن المسميات لا تنضب، ولكن قدرة الجمهور على البقاء خلف السور، وإن يكن حائط برلين أو سور الإتحاد السوفياتي الحديدي، إلى نضوب قريب لا تجدي معه مترادفات اللغة. وحين يدرك، بمساعدة اللبنانيين واحتضانهم له، أنه، مهما كبر، يظل يستظل، وأهله وجمهوره، سماء هذا الوطن ويوارى في ثراه.

اختطاف المجلس النيابي

في المقابل، تبدو مفردة "الاختطاف" المرشحة الأوفر حظاً للرد على أصحاب "الاسترهان"، وتلوح منذورةً لمستقبل باهر. ويعتبر أهلها أن الأغلبية الحالية اختطفت لبنان مستغلة الدموع الشعبية على اغتيال الحريري، وتسعى إلى نقله من موقع إلى موقع آخر. وهكذا يضيف القائلون بالاختطاف هزلية لبنان ـ قطعة الأثاث المتنقلة بين الحجرات، إلى إخراجهم الشعب من سوية اختيار من يريد إلى فرادة الابتزاز العاطفي سلاحاً شهرته قوى 14 آذار على قلوب اللبنانيين المرهفة!

ينكر هؤلاء على الغالبية النيابية صفتها هذه، تارةً بابتكار مصطلح "الأكثرية المؤقتة" (وكل أكثرية في نظام ديمقراطي مؤقتة وينبغي أن تكون كذلك) وأخرى بصك تعبير "الأكثرية الحسابية" أو "الوهمية" (وكل أكثرية في نظام ديمقراطي يقوم على احتساب أصوات الناخبين حسابية بالطبع، ووهمية لأنها لا تقوم على تصويت متواصل بل على تفويض يمنح في لحظة معينة ويفترض، أو يتوهم، القانون استمراره حتى التصويت المقبل)، وطوراً باستمرار احتساب أصوات الناخبين من المسيحيين دون المسلمين (على ما درج عليه صاحب الأغلبية المسيحية، مخالفاً الدستور الذي لا يمنح أوزاناً مختلفة لتصويت الناخب، ولا يفصل بين الناخبين على مثل هذا الأساس)، وطوراً برأي أحد خريجي كليات الحقوق أن تغيير التحالفات الانتخابية يبطل فوز النائب! وأخيراً بافتراض أن لا شرعية للغالبية لأن الناخب كان مكرهاً تحت سلاح الابتزاز العاطفي! ولا رأي لحاقن...ضحكه.

يغفل هؤلاء في محاولاتهم المختلفة أن مبدأ الانتخابات في حد ذاته يقوم على تحمل الناخب، بنفسه، لمسؤولية اختيار ممثليه في لحظة حاسمة لمدة ولاية كاملة. أي أن كل انتخابات تعبر بالضرورة عن مزاج آني، وليس في هذا ما يشينها في حد ذاته، وإن كانت قلة الوعي لدى الشعب، كما تبدت في الانتخابات المشكو منها، تثير الأسف لحال الشعب ولحال طبقته السياسية بأكملها تقريباً. وهذا يضاعف تلقائياً أهمية احترام قواعد الدستور وحقوق الإنسان لأنها وحدها تشكل الثقل الموازي الذي يحد من كوارث أهواء الجماعات المتلاحمة.

إقامة القوة على مبعدة والإقامة في الأمان

هكذا، تاريخياً، فقط بعدما رسخت قواعد القانون العام أصبحت العودة ممكنة إلى القول بسيادة الشعب الذي لا سلطة إلا منه. ذلك أن قواعد القانون العام في هذا المجال إنما تقيّد عسف الجماعة وتقولب طرقها في التعبير والفعل، وتقيم القوة المطلقة على مبعدة، مقيمةً الأفراد في الأمان، حين تُحتَرَم بالطبع. والبعض ربما يسوؤهم الأمر، إلا أن الرد المفحم على عشاق التهاب القلوب بالحماسة، وانصهار الجماهير الذي لا يحتاج إلى قنوات للتعبير عنه، يأتي من حنة أرندت التي رأت بنفاذ بصيرة إن الأنظمة الديموقراطية تقوم على احترام دساتيرها أكثر من احترام قاعدة الأكثرية، في حين أن الجماهير، المنصهرة دون تمايز والمنصبّة سيلاً موحداً، هي عماد الأنظمة التوتاليتارية وركيزتها.

الدساتير، وإن صاغها أفراد في لحظة ما، ليست من وضعهم. إنها، والقوانين، الاتفاقات المعقودة حين تضع الحرب الأهلية، الباردة أو الساخنة، أوزارها. وهي تالياً ليست في معزل عن الشعب أو عن تاريخه، لكنها لا تأخذ بمنطق الهرجات الشعبية، بل تشكل غالباً مناراته وشطآن نجاته. وهذا يضاعف من خطورة تجويف مضامينها وانتهاك لغتها وإفراغ كلماتها من مضامينها الدقيقة، لأن ذلك يعني النكوص عن تقييد القوة الهوجاء وإعادتها، متعسفةً بطبيعة الحال، إلى عقر الدار لتعيث فيها تخريباً وإرهاباً.

بناء الثقة بعد الحرب

ملحق النهار آب 2006

من أجل بناء الثقة بين اللبنانيين و بدولتهم




من الواضح أنه ما أن ينجلي غبار المعارك، والركام الذي خلفته، حتى تبرز الحاجة إلى إعادة بناء مسار سياسي داخلي لبناني، يفترض إجراءات لإعادة ترميم الثقة بين الأطراف اللبنانيين، وصناعة فضاء عام يشترك فيه اللبنانيون جميعاً بهدف إنشاء دولتهم الجامعة والوحيدة القادرة على تثمير جهودهم سياسياً على المستوى الدولي. غير أن تحديد هذه الإجراءات والقواعد الأساسية التي ينبغي مراعاتها من أجل التوصل إلى هذه الأهداف، يتطلب مسبقاً استيعاب المعطيات الإقليمية الناتجة عن الحرب والتي تظهر إيران رابحاً أوحد فيها، والتحديد الدقيق لقدرة اللبنانيين الداخلية على التأثير في سياق سياساتهم وتحييد بلدهم عن أنواء العواصف الإقليمية المقبلة.

إيران رابحاً أوحد

يمكن الخروج من نتائج الحرب على لبنان، وطريقة إنهائها التي تميزت بخاصة بكثرة الاتصالات بوزير الخارجية الإيراني، باستنتاج أن إيران خرجت منتصرة من هذه الحرب التي دخلتها بالواسطة، مما يبشر باستمرار التوتر بينها وبين الأميركيين على صعيد ملفها النووي، الذي يشكل خطاً أحمر بالنسبة للطرفين، المستعدان تمام الاستعداد للتعاون (الوثيق) في كل الشؤون الأخرى، وبخاصة في شأن اقتسام "الشرق الأوسط الجديد أو الموسع". وقد كتب أحد مأذوني حزب الله مؤخراً أن صمود حزب الله الميداني أجبر حسني مبارك على استقبال وزير خارجية إيران (كذا!!) وهذا كافٍ لتبيان أن الأطماع التي تحدو طهران، والتي تستغل هذه الأخيرة حزب الله اللبناني من أجلها، ليست مقتصرة على لبنان، ولا على القنبلة النووية.

يمكن أيضاً الاستنتاج بأن النظام السوري بات الخاسر الأكبر من هذه المعركة، حيث تم تهميشه طيلة الحرب، وألغى وزير الخارجية الألمانية مرتين زيارته لدمشق بسبب طيش رئيسها وسياستها الخارجية، حارماً بذلك النظام من ادعاء عودته إلى الساحة الدولية وانتهاء عزلته. وما إعلان بشار الأسد الحرب على من يسميهم بـ "17 أيار" وعلى كل الأنظمة العربية إلا دليل على تفاقم عزلته الخانقة وعلى شعور متزايد بالاستهداف والتهديد، على الرغم من كل التطمينات الإسرائيلية التي تنهال عليه. بالطبع لا تزال دمشق قادرة على الإيذاء والاغتيال في لبنان لكن الرد على ذلك قد يكون نهاية بشعة للنظام فيها، إذا ما اقتنعت اسرائيل بأنه يقود نحو فوضى عامة في المنطقة. لقد فشل هذا النظام في استغلال الحرب على لبنان من أجل الخروج من عزلته، وفشل في فك الحصار الأميركي الفرنسي المضروب دبلوماسياً عليه، كما ستبدي الأيام أن محاولته لتغييب موضوع المحكمة الدولية لم تحقق أي نجاح دولي يذكر. وإلى ذلك كله فإن علاقات هذا النظام بشبكة الأمان العربية الرئيسية (أي مصر والسعودية) مهتزة جداً حيث تم إحلال الأردن مكانه في الثلاثي العربي الرئيسي. لذا لم يعد بإمكان النظام إلا المزايدة اللفظية على العرب وعلى اللبنانيين، داعياً إلى المقاومة "بالفكر" (حصراً، خوفاُ من أن يساء فهمه)، وكأنما قد ترك للمفكرين في سوريا مساحة خارج السجون!

أخيراً يمكن أن نلاحظ أن إسرائيل أيضاً خرجت مهزومة من المعركة (دون أن يعني ذلك بالضرورة انتصاراً لحزب الله، على ما سنرى)، إذ لم يحقق جيشها أي هدف يسمح له بإعادة تلميع صورته وترميم قدرته على الردع، بل تفاقم الخوف الإسرائيلي حتى صار خوفاً في الأوساط الشعبية على وجود الكيان نفسه، إضافة إلى أن إسرائيل فشلت في تحقيق الأهداف الأميركية من الحرب ومن هزيمة إيران على الأرض اللبنانية مما سينعكس سلباً على الاعتماد الأميركي عليها كذراع يمنى عسكرية وباطشة في المنطقة.

فحوى ذلك أن المحور السوري الإيراني الذي يكثر بعض الساسة اللبنانيون من ذكره، وتعليقه شماعة لعجزهم، هو على طريق الانفراط لأنه لا يؤمن الحد الأدنى من التقاسم في المغانم، حيث تخرج إيران رابحاً وحيداً من هذه الحرب، في حين تخرج سوريا خاسراً أكبر.

إضافة إلى ذلك، وعلى صعيد الانعكاسات على الساحة اللبنانية يمكن إيجاز الوضع بالقول إن إسرائيل خرجت سياسياً من لبنان قبل خروجها العسكري بزمن بعيد، وهي لم تستطع في حربها الأخيرة العودة على أي من المستويين، واستقلال لبنان عنها إذاً ناجز وتام، أما سوريا فقد خرجت عسكرياً دون أن تخرج سياسياً، في حين أن حدود التأثير الإيراني لن تصل يوماً إلى المستوى الذي بلغته الهيمنة السورية السابقة على لبنان. والسؤال الآن: هل يمكن الطلب من حزب الله أن يساهم في إخراج سوريا سياسياً من لبنان، كما كان على القوّات اللبنانية في السابق أن تقطع تدخل إسرائيل في هذا البلد، وإن لم تكن هي من أخرجها عسكرياً؟ علماً أن استقلال البلد وسيادته مرهون بالاستقلال عن العدو الهمجي كما عن الشقيق الطماع.

حدود القدرة الداخلية على التأثير

لا بد من الملاحظة في البداية أن قدرة لبنان على التأثير في المسارات الإقليمية شبه معدومة، وأن أقصى طموح الدولة اللبنانية كان دائماً أن تنأى بنفسها عن تأثيرات أحداث المنطقة وتداعياتها، وقد أظهرت التجارب مدى صعوبة ذلك إن لم يكن استحالته. لذا فإن ما ينبغي العمل عليه هو السعي من أجل الحد من تأثير هذه الأحداث على الساحة اللبنانية، والتدرّب على استيعاب تطوراتها ضمن أطر الدولة الجامعة.

ضمن هذه الأطر يتبدى أن المطروح على حزب الله هو، وبشكل ملح، القبول بالمساهمة في بناء الدولة اللبنانية وتحصين استقلالها من خلال الانفصال بدايةً عن مسار السياسة السورية. والحق أن حزب الله أرسل عدة إشارات، أثناء الحرب، على توجهه إلى تقديم أولويّات الدولة اللبنانية والشراكة في الحكومة على الرغبات السورية. وينبغي أن يتم البناء على هذا التوجه من قبل الحزب، وليس السعي إلى محاصرته، الأمر الذي يمكن أن ينعكس سلباً وعودةً للحزب إلى شدق النظام السوري.

وهنا ينبغي الملاحظة أن مكونات حزب الله الرئيسية (عناصر وموارد وعقيدة) هي مكونات لبنانية وإيرانية وليست أبداً مكونات سورية، وإذا كان الحزب قد اتخذ قراراً استراتيجياً بالمشاركة في الدولة اللبنانية فإن فصله عن سوريا ممكن، بدون أن يعني ذلك فصله عن إيران، في المرحلة الراهنة. والفرصة سانحة لذلك، بصورة خاصة الآن، لأن من الصعب القبول لبنانياً ودولياً باستعادة سوريا لدور الممر الإلزامي لتسليح الحزب، مما سيضعف التأثير السوري على حزب الله اللبناني.

القواعد الأساسية لإدارة الوضع اللبناني

من أجل تحصين الوضع الداخلي، على اللبنانيين الاتفاق على الأهداف الرئيسية العامة، بحيث تصبح هذه الأخيرة الحكم الذي يرجع إليه لتحديد الخطوات المرحلية، إذ لا يمكن السماح مرحلياً بما من شأنه إبعادنا عنها. وأهم هذه الأهداف بالطبع، استمرار لبنان وطناً نهائياً لجميع أبنائه منفتحاً على العالم والحداثة، وبناء الدولة الجامعة وتحصين استقلالها، ورفض المشروع السوري القائل باتخاذ لبنان ورقة تفاوضية ورهينة للنظام في دمشق، ورفض المشروع الأميركي للمنطقة القائل بتعزيز الحساسيات الداخلية في كل من بلدانها، والتعامل معهما بتروٍ بحيث لا يقود أي من الرفضين إلى حرب جديدة، أهلية كانت أو إسرائيلية، ومحاولة تحييد لبنان، عسكرياً خصوصاً، عن الصراع الأميركي الإيراني، من خلال لجم التحالفات الداخلية مع أي من هذين الطرفين.

ينبغي أيضاً التنبه إلى عدم إقفال الملف الفلسطيني في لبنان، وهو المنصوص عليه أيضاً في القرارات الدولية، وإن تكن المطالبة بذلك خافتة، ورسم سياسة واضحة في التعاطي معه، تقوم أساساً على احترام الحقوق الإنسانية وحقوق العمل والإقامة الكريمة للاجئين الفلسطينيين، والدفاع سياسياً عنهم في كل مناسبة وعلى كل المنابر الدولية.

تضاف إلى ذلك قواعد بديهية تقول أن نزع سلاح حزب الله بالقوة أمر مستحيل لأنه يقود إلى حرب أهلية، أما بقاؤه فمرفوض أيضاً لأنه يقود إلى تقسيم لبنان على عدد الطوائف المستعدة لاسترجاع تسلحها وأمنها الذاتي، على ما تلوح أماراته في الأفق، وهو ما ينبغي على حزب الله أن يدرك جيداً محاذيره. غير أن من طلب الشيء قبل أوانه، عوقب بحرمانه، فلا يمكن استعجال الحوار إلى نزع سلاح حزب الله، قبل إنضاج شروطه، وأول هذه الشروط أن يعود هذا السلاح مسألة داخلية، بعد أن ساهم الحزب في نسف طاولة الحوار الوطني وفي تدويل قضية سلاحه، وهو الأمر الذي عززه مسار الأحداث لاحقاً وصولاً إلى القرار الدولي رقم 1701. الأمر أيضاً يتطلب قدراً من الخفر والحياء، ومن احترام تضحيات الشهداء والمقاومين وعذاباتهم، واحترام آلام النازحين وخسائرهم، ومن إجراءات بناء الثقة بين اللبنانيين على أسس التضامن الذي تجلى بارزاً في هذه الحرب، على الرغم من بعض الحساسيات أو الاحتكاكات المحدودة.

أخيراً ينبغي تقديم الحسابات على المحاسبة، وهما متغايران. فالمحاسبة تمهيد دائماً لإنزال عقاب بالآخر، أما الحسابات، التي لا تنفصل عنها سياسة التوازنات الدقيقة، فتقيس المتغيرات والأوزان لتحديد الخطوة الأنسب التي على المرء أن يتخذها. ولا شك أنه لا يجوز لأحد، سوى الدولة وقانونها، إنزال عقاب بأحد. لذا على القوى اللبنانية المتنازعة جميعاً أن تتخذ خياراتها بمعزل عن الرغبة في محاسبة بعضها بعضاً أو معاقبة من تعتبره متخاذلاً أو متقاعساً أو مغامراً، فذلك أولاً خارج سلطتها شرعاً وخارج سلطتها واقعاً، ونتائجه بالغة الخطورة على استقرار لبنان وعلى وجود دولته.

بناء الثقة بين اللبنانيين

في حسابات النصر والهزيمة، تعتمد أطراف 14 آذار تكتيكين: مشاركة حزب الله نصره، بدعوى التضامن الشعبي مع جمهوره والالتفاف حوله وجهود الحكومة، أو التهوين من هذا النصر بدعوى الخسائر الكبيرة في الأرواح والأضرار الفادحة وعودة الاحتلال الإسرائيلي (الجزئي والمؤقت).

كلا التكتيكان يتفاديان إعلان هزيمة حزب الله، في حين أن إعلان هزيمة لبنان كله ينبغي أن يكون الخطوة الأولى لتجاوزها. لبنان خسر حتماً منذ اللحظة الأولى للحرب لأن دولته عاجزة وأرضه أسيرة بين جيش العدو وبين أنفاق المقاومين. وحزب الله خسر أيضاً، رغم إلحاقه الخسارة بإسرائيل، فكثيراً ما خرج من الحرب مهزومان. وخسارة حزب الله متوقعة منذ البدء، وهي ليست على أي حال هزيمة عسكرية بل سياسية، لأن السياسة وحدها هي التي تحسم الربح من الخسارة. وهزيمة الحزب متوقعة كانت لأن الحزب ككيان ليس بدولة ولا يمكنه تالياً تثمير انتصاره، مهما كان، على المستوى السياسي الدولي أو الإقليمي، وهو لا يستطيع حتى تثميره في داخل لبنان لأنه الوضع في لبنان يظل محكوماً بتوازنات الطوائف ودواخل الطوائف التي قد تسمح لحزب الله بالحصول على جزء من حصة الطائفة في دولة، لم يبد من قبل أنه مهتم بتقاسم منافعها وخراجاتها. وعلى المستوى السياسي خسر الحزب ذريعة ردعه لإسرائيل، بدليل تدميرها للبنان، وخسر لبنانية النقاش في شأن سلاحه الذي دولته الحرب وثمة حاجة إلى جهد هائل لاسترجاعه إلى المستوى اللبناني، وخسر مفاجآته تجاه إسرائيل بعد أن كشفت الحرب مدى تسليحه وعناصر مفاجآته، وخسر أخيراً مواقعه المتقدمة عسكرياً التي سيرابط فيها الجيش اللبناني والقوات الدولية، وقدرته على استهداف إسرائيل مجدداً، كما خسر التفافاً لبنانياً كبيراً حوله وسذاجة لبنانية في التعاطي مع الدولة التي يتكشف يوماً بعد يوم أنه بناها و سوّرها في "مناطقه".

يظل أن كل ذلك أسباب تدعو للتمسك أكثر بعدم محاصرة الحزب سياسياً، وعدم إحراج قيادته السياسية كي تظل مسيطرة على جناحه العسكري، الذي سيغدو متهماً في أي اضطراب أمني في لبنان، إلى جانب النظام السوري. وكل ذلك يجعل الأولى أن يجري العمل على برمجة اجراءات لبناء الثقة في لبنان بالتوازي مع بناء الدولة.

يستوجب ذلك اسكات أطفال 14 آذار و8 آذار القاصرين والطائشين، الذين يهرفون بما لا يعرفون، ويخلقون من التوتر أضعاف ما يبعثون من استهجان، وحصر الخطوات بقرارات قليلة، وواضحة يجري نقاشها فقط في داخل الحكومة اللبنانية والمجلس النيابي، وقيام الدولة تحديداً بالجهد الرئيسي في تقديم المساعدات وإعادة البناء بدل العودة إلى منطق المقاطعجية الذي يزيد من ابتعاد الشعب عن دولته، و تحديد جدول زمني واضح للخطوات العسكرية (الإنتشار في الجنوب، مبادلة الأسري وانتشار قوات الأمم المتحدة في مزارع شبعا التي اكتشف المعلم مؤخراً، دون استشارة حزب الله، أن له حصة فيها!) على أن يليه جدول آخر بالمهمات السياسية والدبلوماسية التي تقوم على شقين، جهود دبلوماسية من أجل إعادة قضية سلاح حزب الله إلى المستوى الداخلي، ونقاش لبناني داخلي على امكانية الاستفادة من التقنيات التي طورها الحزب من أجل تشكيل وحدات من الجيش على مثالها، تمهيداً لاستيعاب الجناح العسكري في حزب الله داخل إطارها، وتحديد المقابل الذي تتطلبه عودة حزب الله إلى لبنانيته وإلى الدولة، على ألا يؤسس ذلك لتقاسم طائفي أو هيمنة جديدة تمنع نشوء الدولة اللبنانية المنشودة.

بالمقابل، من المطلوب من حزب الله عدم منع الدولة اللبنانية من القيام بمهامها وواجباتها في البناء والإعمار والتعويض في "مناطقه" التي هي أرضها، والاقتناع بأن الدخول الذي لا مفر منه إلى الدولة اللبنانية، يعني أيضاً وفي شكل موازٍ دخول الدولة اللبنانية إلى جمهور الطائفة الشيعية الذي يحق له، كما لغيره، أن يكون على علاقة بالدولة مباشرة لا تمر بالطائفة وأجهزتها وزعاماتها. كما أن على حزب الله أن يؤكد موقفاً واضحاً من محاولات الإنقلاب المعلن على الدولة، وذلك من خلال تجديد الثقة بالحكومة، وتحديداً بالرئيس السنيورة الذي أبدى صرامة ونبلاً فائقين في أصعب الظروف السياسية التي كشفت طبيعته كرجل دولة حقيقي. وأخيراً على الحزب توضيح الابتعاد عن سوريا التي أعلن رئيسها الحرب على شركاء الحزب في الحكومة وفي الوطن، وهم شركاؤه شاء أم أبى.

وينبغي أخيراً أن تبدأ الدولة اللبنانية، ورجالها ومؤسساتها، بمخاطبة شعبها من اللبنانيين جميعاً، في وصفهم أشخاصاً غفلين، وكسبهم إلى صفها، وليس مخاطبة الزعيم أو القائد، والتخلي عن "الكولسة" لصالح صناعة الفضاء العام المشترك.

صناعة الفضاء العام

في الفضاء العام السياسي كل فعل مشروط بخطاب إلا أنه خطاب صادر عن معروف إلى غفلين، وإلا بطلت السياسة أن تكون تأسيساً لمساحة حرية (بما في ذلك حرية الانضمام إلى معسكر آخر) وتحولت إلى اتفاقات على تقسيم الكعكة وتقاسمها.

والحق أن حزب الله بمجيئه إلى قلب بيروت في 8 آذار وتحت العلم اللبناني مصحوباً بأطرافٍ عديدة من طوائف أخرى (وإن لم تكن أقوى زعاماتها) إنما كان ترك فضاءه العسكري إلى فضاء عام سياسي بناه الآخرون، إذ أن "الأنا" مستحيلة التركيب إلا في فضاء يبنيه الآخر. غير أن من كانوا على الضفة الأخرى أبَوا، بحكم العادة والتركيبة، أن يروا في خطابه أي شيءٍ إلا طلب حوارٍ واستعراضاً لأوراق القوة. أي أنهم رأوا فيه خطاب الزعيم إلى أنداده لا خطاباً إلى غفلين، ورأوا السياسة طاولة تفاوض لا تأسيساً لفضاء الحرية، وبذلك أسسوا من جديد لتقاسم كعكة الدولة على أسس طائفية. ويخشى أن ترتكب الأطراف نفسها الأخطاء عينها الآن مع إشارات الحزب، بعد اندلاع الحرب الأخيرة، التي تدل على تغليب مكوناته اللبنانية، وضرورات جمهوره اللبناني وأرضه على الرغبات الخارجية.

بالطبع ذلك لا يعفي حزب الله من المسؤولية، ولكن مسؤوليته تشمل أيضاً محاذير أخرى، أشد خطراً ربما لأنها تمسّ أسس الاجتماع السياسي. فحزب الله يستمر في خلط السياسي بالأخلاقي، وفي رصّ الصفوف رصّاً لا نتوء فيه.

ورص الصفوف وصقل النتوءات ربما كان جائزاً في المعارك البدائية، إلا أنه في الاجتماع يعني العودة بالمجتمع إلى مرحلة ما قبل القانون، ذلك أن القانون بطبيعته آلة إنتاج للنتوءات والفروق. فالقانون الذي يحاكم الناس فرادىً إنما يحاكمهم إنما بناء على معايير جماعية وعلى قواعد يصوغها لجماعات ينتجها هو وينتمون إليها، على أسس عمرية أو مهنية أو سواها.

وما خلط السياسي بالأخلاقي إلا تتمة لذلك التراجع لأنه يتخلف عن المضامين المحددة للمطالب الاجتماعية والقانونية التي تشكل قوام السياسة، و يَنكُص عن التحديدات الدقيقة لقيم الجمهورية كالمساواة والتضامن وضمان الحريات نحو مبادئ أخلاقية غائمة التعريف ومتغيرة القوام إلى حد أن لا طائل تحتها سوى التعمية على تبادل المنافع في السر، وهو ما لا يرتجي أمراً سواه من يبتغي المحافظة على مصالحه الوضيعة من خلال وضع الدولة ـ المزرعة ولو كلف ذلك انهيارها الوشيك جداً على رؤوس الجميع.

يوميات الحرب

ملحق النهار، آب 2006
من يوميات "مناضل" في باريس


بضعة أشهر قبل 12 تموز
حلم: السيد حسن نصر الله وأنا في سيارة رينو صغيرة، نسرع باتجاه نفق شكا، على الأوتوستراد، لسبب مجهول نحن مقتنعان بأن عبور النفق سيحمينا من طائرة هليكوبتر اسرائيلية، نرى رأي العين صاروخها. السيد نصر الله فائق اللطف، وأنا على ثقة أن والدي سيرحب به لدينا، وأعرف أن أمي قلقة لشدة حرصها على متوجبات الضيافة. هنالك قوة حنان هائلة في صوت السيد وحديثه الهادئ إلي، ونحن نفر من قنص الهليكوبتر.

ثلاثة أشهر تقريباً قبل 12 تموز
حلم أيضاً: السيد حسن نصر الله وأنا في ما يشبه قبو بيت جدتي القديم في الضيعة. نحاول معاً ضبط جسم غريب، شيء يشبه رجلاً سليخ الجلد، طاقة حمراء متوهجة وحارقة، نحاول إعادته إلى قفصه، وتخبئته عن بقية سكان البيت. العجلة واجبة خصوصاً وأن هذه الطاقة المتوحشة تجأر كالبعير ساعة ذبحه.

الأربعاء 12 تموز
الأنباء الأولى عن قصف يتجدد على مزارع شبعا واشتباكات في هذا القطاع. منذ خطف الجندي شاليط والمرء يصلي أن يلهم الله حزبه ألا يفتعلوا اشتباكات مجدداً، من الواضح أن الجنون الاسرائيلي لا يجد موازياً له سوى في تنصل المجتمع الدولي من دوره كضامن للقواعد التي ترعى وقوع النزاعات وتدرأ مخاطرها وشططها.
حسناً، إن كان الاشتباك في شبعا فقط، فسيكون مجرد رسالة أننا موجودون، وربما لن يفتح الاسرائيليون جبهةَ همجيةٍ جديدة.

الأنباء الآن تفيد بوقوع سبعة قتلى من الجنود الاسرائيليين وبـ"أسر" اثنين (لمَ يستعمل الإعلام كلمة "خطف"؟ هل لأنها من موروثات الجماعات الثورية في الأعوام 1970؟ ولكن أيضاً هل يجوز لغير الدولة أن "تأسر" جندياً من دولة معادية تنطبق عليه المعاهدات الدولية التي تلتزم بها الدول؟). الطامة إذاً وقعت، وزاد الطين بلة أن ذلك لم يجرِ في مزارع شبعا، بل ما وراء الخط الأزرق. لا شك في أن التوقيت يلقي شبهات كثيرة حول ولاء حزب الله للبنان. بالأمس، كان السيد نصر الله يؤكد، بحسب الصحافة اللبنانية، لسعد الحريري أن حزب الله سيهدئ الوضع، حرصاً على موسم الاصطياف. لكن المرء متنازع بين شعورين، كما كان في 11 سبتمبر، يغتبط للأذى اللاحق بالعدو المتغطرس، أم يأسف للقتلى وللدمار الذين يعلم أنهما الرد الأكيد على هذا التجرؤ. بالتأكيد، الوضع اليوم أقل سوءً، لأن قتلى العدو جنود، وليسوا مدنيين. كما لو أن قتل الجنود لا يمر بألم!! إنها ضريبة المهنة ربما، والتواطؤ المشترك على تقديم كبش واحد للفداء (لفداء السياسيين وشركات الأسلحة؟). لكن ليس في عادات اسرائيل احترام هذا التواطؤ العام.
السؤال الوحيد المهم الآن: نتفاءل أم نتشاءم؟

يومان على 12 تموز
بدأت ملامح الرد الاسرائيلي تتبلور. كان خطاب السيد نصر الله في البداية ضيق الأفق: مبادلة الأسرى، ومزاعم عن الوقوف إلى جانب الفلسطينيين. هل من الضروري أن نصعد إلى الجنة بخدين متورمين؟ ألا يكفي خد واحد؟
من يزعم الدفاع عن فلسطين ويهمل أوضاع الفلسطينيين، كيف يطيق خطابه؟ تمجيد المقدس، الأرض أو الشرف، واغفال البشر، الأناس، الضعفاء والمستضعفين، لحم المدافع ووقود البربرية! كان ليفيناس يقول إن الأرض، كائناً ما بلغت قداستها، تعود حجارة وغباراً حين تكون حياة إنسان واحد في خطر. لكن الفيلسوف اليهودي كان يقول ذلك نقداً لاسرائيل، فهل من يقول لنا ذلك باسم الإسلام ونقداً للجماعات الإسلامية.

من حق الحريري أن يشعر أنه طعن في الظهر وأن يوجه نقداً قاسياً إلى حزب الله، ولكن هل سيتحمل البلد؟ ربما! ما زلت أعتقد أن الأمور قد تحل قبل يوم الإثنين المقبل، وإلا فإنها ستطول جداً. فلا يمكن للأميركيين التضحية بحكومة السنيورة، نصرهم الوحيد في المنطقة، ولا يمكن اقتلاع حزب الله من دون تفجير الحكومة، والوضع اللبناني كله. هذه الحرب محكومة بسقف واطئ من الأهداف، رغم جعجعة الاسرائيليين. بالمقابل إذا طالت الحرب هل يكون من مفر من "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" ومن إلزامية التضامن مع حزب الله. نبيل يعتقد أن الأمر مرتبط أيضاً بكيف سيتعامل جنبلاط والحريري مع النازحين الشيعة. استقبالهم كما في 96؟ أم أنهم سيرفضون تسهيل نزوحهم؟ برأيي، الأمر يجري كما لو أننا نكتشف للمرة الأولى، كلبنانيين، أن لبنان أرض واحدة. لقد حاولنا طويلاً بناء بيروت كما لو كان الجنوب في قارة أخرى، وها نحن نتعلم، من جديد، كما في 96 حين ضربت اسرائيل معمل الكهرباء، أننا بلد واحد، أي أولاً وأخيراً أرض واحدة، وصغيرة!
الأرض؟! لست مزارعاً ولا ملاكاً، ولا أجد مبرراً عاقلاً لدفاع الناس الأعمى عنها، سوى ذلك الشعور، الذي يمد عروقه عميقاً في القلب، بوجوب الدفن هناك في الأرض الجرداء والحميراء قليلاً، وإلا فنَثْرُ رمادي في المتوسط.

بضعة أيام على 12 تموز
زيارة دوفيلبان استعراضية جميلة، الصحف الفرنسية تفيض في تأثير شَعْره المتراقص في الهواء البحري، على متن بارجة حربية في خضم أزمة دولية، على استطلاعات الرأي. التحرك في الأزمات ينفخ في أشرعة الشاعر، لكن وزير الخارجية السابق لم يجد هذه المرة الكلمات المناسبة. حتى مع تحسن صورته في استطلاعات الرأي، يظل رئيس وزراء فرنسا ضعيفاً لأنه يخطئ مواقيت الحزم. لا أدري كيف يكتب شعره، لكنه بالتأكيد سيكون كالبياتي لا يدرك أن على القفلة أن تصاغ في اللغة وفي السياسة كما في غناء ثومة.

هل تنتهي هذه المعارك في اليومين القادمين؟ هل ستعرقل إيران وسوريا الصفقة، كما حصل في فلسطين؟ إذا ضاعت الفرصة الآن، فستطول الحرب أكثر مما يحتمل البلد.
ما قدرة البلد على الاحتمال؟ كيف تقاس، وبأي وحدة؟

عشرة أيام على 12 تموز
للمرة الأولى، حياة تبدي إعجاباً بمقال لي، وترى سلاسة وخلواً من التعقيد في الجمل ووضوحاً في الأفكار. قلت لها، ينبغي إذاً أن أمتنع عن الكتابة السياسية، كي أحافظ على الغموض، الذي هو تكثيف الخلود في لحظة. طبعاً، كان ذلك مجرد سخرية، ولكن كيف الخلاص بعد ذلك من انتقادها لمركّب العظمة لدي!

الحديث مع بلال ذكي دائماً، لكنني لا أحب مقاله. كل هذا التشاؤم! أعرف جيداً كيف وصل إلى ذلك، في ظل كل هذا الدمار الذي أسمع عنه، ولا أراه. المقال في النهاية استكمال منطقي وتطبيقي للأفكار السابقة التي اقتنعت بها معه (المدن ووظائفها، شبكات الإتصال المتعددة ودورها في لحمة المجتمع... الخ). ولكن كيف إذن أرفض الخلاصات؟ كيف يمكن أن أوافق على المقدمات وأرفض المترتبات عليها؟ بقوة تفاؤل غريبة، أم بقوة الجهل وعناده؟

ربما على أن أشكر الحظ الذي حرمني في هذا الشهر تحديداً من التلفزيون. في فيلم من قصص قصيرة عن 11 سبتمبر كان أكثر ما لفتني هو تلك القصة الافريقية عن مجتمع لا تلفزيون فيه. 11 سبتمبر خبر إذاعي هناك، وسقوط البرجين بلا صورة، حتى بن لادن لا صورة له، لذا يسهل على أهل القرية الظن بكل ملتحٍ أقل سمرةً منهم.
أهلي في طرابلس، بعيدون عن الخوف اليومي، ولكنهم يختنقون، مثل كل اللبنانيين من هذا الإحساس بالحصار. ربما لا يسمعون صوت القنابل لكنهم بالتأكيد في خضم القصف الإعلامي. أرفض أن أشاهد صور الفظائع الاسرائيلية. لا لأنني أرفض الحقد والكراهية الذي سيشعله ذلك في قلبي، فهو بذلك ملتهب من الآن، ولكن لأنني أشعر أن سيل صور القهر والدم والدموع وسيلة أيضاً لشلّ القدرة على التفكير.

طوني يقول إننا نعيش في زمن الكارثة، في الزمن الذي ينفي سيل الزمن ويجعلنا نقيم في لحظة الحاضر، فقط، حانين على قتلانا، دون قدرة حتى على البكاء أو العويل. وحده الصمت يساوي العيش ـ في ـ الحاضر، لأن كل كلام حيّ يتطلب الاندراج في زمن ينقضي. بالطبع هنالك أيضاً الزمن السوري، أي الزمن الذي يساوي فيه الكلام الصمت لأن الكلام فيه لا يهدف سوى إلى افراغ الكلمة من المعنى، كي يتسنى للنظام أن يعيش إلى الأبد في زمن "التصدي والصمود" (أو الصمود دون التصدي بحسب قراءة مقلوبة لتصريح الحص الشهير). لكن، أليس هذا أيضاً ما تقترحه علينا "المقاومة"؟ الإقامة في زمن لا يمر عليه الزمن، في فعل المقاومة، لا في سعي هذا الفعل إلى الإنقضاء.

نيف وعشرة أيام على 12 تموز
حلم: الجنس مع خنثى! غريب من أين أتى هذا الفانتازم؟ كان هنالك أيضاً كل ثقل الرعب والخجل والخوف من الإنكشاف أمام الآخرين.
غرفتي القديمة في بيتنا السابق! أحلم أن أكون مخرج سينما كي أعيد إحياء هذا العالم الشاسع الذي كنت أراه في بيتنا الضيق، في الممر الدقيق بين المكتبة وغرفتي حيث الخزانة التي تضم مجلات العربي وسوبرمان وجرائد قديمة وأعداد "الملحق" التي تتراكم. وحدها الكاميرا تستطيع، مارّةً على مهل وعلى مستوى منخفض، أن تصوّر الذاكرة. دروس من برغمان بالطبع، ومن مخيلة الطفل الذي لأول مرة يلوح على هذا القدر من البعد. كأنما لم أخسر طفولتي إلا حينما غادر والداي بيتنا القديم.

منذ بدأت هذه الحرب، أصبحت أستخدم دون انتباه الـ "نا"، والـ "نحن"، كما لم أفعل قط من قبل.هذه الحرب تقضي على فرديتي، وأنا البعيد عن ساحتها! لكنني لا أحتمل هذا الإندراج بالرغم مني في خانة "إما... وإما..."، نحن أو هم... أنا الآخَر الآخِر!

أسميت ذهابي إلى الاعتصام في ساحة السوربون "نضالاً"، فأنا آخذ المترو لأذهب كي أناضل وأعود به من ساحة الوغى! لو كان للنضال في العالم الثالث كل هذه المواصلات العامة لتحققت إنجازات "تاريخية" J
كل هذا "النضال" بالكلام وبالشعارات، أليس أيضاً ما ننتقده؟ في النقاش مع خليل وجوانا كان الأمر يزداد وضوحاً، نحن في نهاية الأمر نريد الدفاع عن موقع شخصي فردي، وعن حرية فردية، (هل ذلك ممكن في وقت تتساقط فيه الضحايا؟ أليس أنانية؟ يقولان)، في مواجهة سيل المواقف الثقافية التي تصنف الآخرين إلى عميل/ متقاعس أو إلى مقاوم. كيف تكون المقاومة في الثقافة؟ بل أساساً كيف تكون المقاومة؟ ما هي؟
ما أريده هو مقاومة هذه الثنائية البلهاء التي يسعى الجميع إلى جرنا إليها فنحن إما مع أميركا وإما إرهابيون بحسب الخطاب البوشي، وإما مع حزب الله أو عملاء لاميركا بحسب "المقاومين"، وكل ذلك بذريعة أن "لا صوت يعلو...". كيف أقاوم المنطق الأميركي الهائج كناقة عشواء إن كان أخي لا يدعوني سوى إلى المنطق نفسه؟
أحسب أن مقاومة هذا التسطيح الهائل لا يمكن أن تكون سوى ببناء موقع متميز، لكن كيف يمكن ذلك إن كان الكلام نفسه مصادراً؟ بمناهضة مصادرة الكلام نفسها! برفض مانوية الخطاب البوشي والخطاب الإيراني ـ الحزب اللهي، برفض انتهازية 14 آذار الرخيصة! الرفض وحده لا يكفي: ينبغي تفكيك هذه الخطابات، وإظهار كمية اللا سياسة، والغيبية، والزيف، والعمى الذي تفترضه تعابير وأدوات غير مفهومية وغير سياسية، كالفخر والكرامة والشرف والإباء والإرهاب غير المعرّف وآلام المخاض والنوازع الأصلية لدى شعبٍ ما وطباعه أو مشاريعه اللاتاريخية، وذلك في مجال سياسي يفترض أن تكون المطالب فيه واضحة والأهداف محددة وقابلة للتعيين وللتحقيق، لأن في فشلها أو تحقيقها حياة الناس وأرواحهم وسقف بيتهم ولقمة خبزهم.
الدفاع إذاً عن وجود الدولة، مجدداً وتكراراً، مع التحسب منذ الآن لشططها المحتمل.
في هذا السياق يصير واجباً حماية هذه الدولة ممن يتذرعون بالدفاع عن سيادتها، سواء كانوا دولاً أجنبية أو "شقيقة" (كألم الرأس!) تسعى إلى فرض قرارها على الدولة اللبنانية، أو الجماعات الطائفية التي لا يقوم اجتماعها وكيانها سوى على خرق سلطة الدولة وانتهاك سيادتها وصلاحياتها ما أمكنها ذلك!

المقاومة اللبنانية الباسلة؟ لقد تجلت بدايةً في كل نشاطات المجتمع المدني ومنظماته ومؤسساته كالصليب الأحمر وهيئات الإغاثة، قبل أن تتجلى ثانياً في استبسال المقاتلين اللبنانيين المنتمين إلى حزب الله في التصدي لتوغلات العدو الاسرائيلي في الأراضي والمياه الاقليمية اللبنانية. كل عامل في مجاله مقاوم لأنه يؤسس لمشروع ثالث وحيوي ولمقاومة لمشروعي الموت، الموت قتلاً بأحدث التقنيات أو الموت بالاختناق تخلفاً، وهما المطروحان علينا كقرني حَرَج، (بل كخازوقي حرج) لا يمكن القبول بأن يعلّق أحد، فكم بالحري شعب، على أحدهما.

بعد "النضال"، العشاء. غريب كيف نكتشف فجأة أن الأجوبة التي نقدمها، أكثر بكثير من الأسئلة، يمكن أن تنتهك خصوصية الآخر وأن تعتدي على خفره. الأنباء من لبنان تغدو مكرورة، قصف، دمار، موتى، مقاومة، إنه الروتين يا غبي!



نيف وعشرة أيام على 12 تموز (ب)
الإنقسام اللبناني في باريس منهك ومقزز! كل المظاهرات أزواج تنزل وكل اعتصام سرعان ما يرى قرينه في مكان ثانٍ. بحسب ما رشح عن اجتماع في السفارة لممثلي الأحزاب، لا خلاف جوهري بين الجميع على الحد الأدنى من المطالب. لكن لا أحد يرضى بالظهور إلى جانب الأخر علناً. كلما ناقشنا أحداً يقول، فليتنازلوا هم! كل هذا الدمار العاصف بالبلد لا يهز شعرة في رؤوس من يمشون وفي مؤخرات رؤوسهم مراصد للكاميرات التي يحسبون أنها تلتقط صورهم للخلود!!؟

المناقشات مستمرة مع خليل وجوانا. أجواء الشباب في لبنان تشي بحرب فعلية بين المثقفين هناك: معنا أو ضدنا، دائماً ومجدداً، وكل يراقب الأخر! الكثيرون يرون أن بيان "مثقفي المقاومة" فخ لا ينبغي الوقوع في الرد عليه. لست أرى ذلك. أرى أن الوقت سيكون متأخراً جداً حين تنتهي الأمور، ستكون مصادرة الكلام قد أنجزت. البعض يتخوف أيضاً من عودة الإغتيالات، في حين أن الغثيان يستمر لدى طوني. أحسب أن التحرك ملح وضروري في هذا الإتجاه، فقط لتأكيد الحق في الرأي المخالف، وفي الاستمرار في النقد، وبخاصة نقد القوى التي يفترض أنها تشكل قوى المقاومة الأساسية وعصب مناعة البلد، وذلك تحديداً حرصاً على هذا البلد عينه وعلى تصويب مساره نحو ما يراه كل امرئ أنه الأمثل.
لا بد في هذا من نقاش معنى المقاومة نفسه. اللغة دليلي الأثير، كما دائماً. المقاومة كما توضح اللغة نفسها دفاعية أولاً، دفاع دائماً وبدايةً وأصلاً عن حياة كل فرد، من أيما انتماء، (حتى وإن انتمى للعدو لأن في ذلك مغزى أخلاقية معركتنا)، وعن عيشه وحرياته المنصوص عليها في الدساتير والشرعات الدولية، وعن حقه في المساهمة في إعمار بلده وإغنائه بجهوده في مجاله وبتصويبه بالنقد لكل ما يراه خطأ في مجتمعه. أي أن المقاومة لا يجوز أن تختزل إلى ممانعة مشروع متعسف أو همجي ومتوحش تجري محاولة فرضه، وإن تضمن معناها ذلك تضمن الكل للجزء.

فكرة جوانا الرائعة، عدم الإكتفاء برفض الخطابات المطروحة علينا، وعدم الاكتفاء بالدعوة إلى تحديد معايير الربح والخسارة أو مفهوم المقاومة العامة، بل الإعتراض على زعم البعض حقهم في التصنيف (ولكن ألا يفترض هذا أيضاً إنكار قدرتهم على تصنيف أنفسهم؟ بلى ولكن ذلك طبيعي لأن التصنيف المعتمد ليس محايداً، إنه كتصنيف شعب ما نفسه أنه أرقى الشعوب أو أنه شعب الله سواء أجاء الإختيار منه أم من ربه). أكثر من ذلك: إظهار خطل أسس فكرة الفئة أو التصنيف كلها.
معها حق بالتأكيد. التصنيف إن جاز في القانون لتطبيق قواعد معينة أو جاز في الأنواع الأدبية لتسهيل النقد، فإنه إن طبق على البشر محاولة دائمة لاخراجهم عن حدود المساواة وتمهيد لحرمانهم من الحقوق المترتبة عليها، وأمثلة ذلك أكثر من أن تحصى في كل تواريخ الأقليات المضطهدة.

أتساءل دائماً لماذا أجواء اليسار أظرف في نظري من أجواء أصحاب الإيديولوجيات المتحمسين؟ (بالطبع أجواء اليسار لا تعني الحزب الشيوعي إذ لا أجواء له!). ربما فقط لأنني أشاطرهم الإحساس بانهيار الأحلام، وبضرورة أن يظل العمل ممكناً وواجباً بعد هذا الإنهيار، وربما أيضاً لأن في نبراتهم تلك السخرية التي أهوى، التي تبدأ بالسخرية من النفس، بالخيبة، وبالشجن الناعم المصقول بالحنين إلى ما لم يشهده أحد منا. ربما هذا ما يشكل أساس نفاؤلي الدائم، مثلما كان، برأيي، ما منع شوران (كما يلفظ بالرومانية) من الانتحار. في السهرة ضحكنا كثيراً على عقد باسل لزواج متعة مع فتاة روسية، متساءلين من أين أتى بالتمرات مهراً. تذكرت أنني استغربت تقاربهما، مع علمي بحيائه وتقواه. أوكي، هنيئاً له، إن كان ذلك يحل عقدةً!
العودة على بولفار سان جيرمان، مساءً: ذكريات 1968 لا تزال تعبق في المكان، أم أنه فقط رأسي المثقل بصورة تلك الإنتفاضة؟ كانت هدى أجابت إحدى الفرنسيات عن مدى الإستمرار في الإعتصام: إلى أن يقرر الباريسيون أن يستفيقوا! لكن الباريسيين كما نعلم ينزحون أيضاً موسمياً عن مدينتهم! يظل أن أيار 68، في شكل ما يضفي مشروعية على ادعاء فرنسا تمثيل القيم التي كان صاغها عصر الأنوار الأوروبي وأعلنتها الثورة. باريس وصية على هذا الإعلان، لأنني فيها ولأن في وسعي أن أعلن منها موقفي، ولأن شوارعها المرصوفة تتسع للكثيرين من كل الاتجاهات، حتى المعادية لنا، ولأن السياسة الخارجية لرئيسها أمر يحتسب في تقرير شعبيته!

نيف وعشرة أيام على 12 تموز (ج)
قانا! قانا 06! عرس الدم! من جديد، بعد عشرة أعوام، المأساة عينها. لم أر صوراً، لم أكن لأقوى على ذلك، صوت المذيع في الراديو يلفظ هذين المقطعين كان كافياً، لأشعر. لأحس بدمٍ قانٍ يهطل من العيون، بدمع يتغرغر في الحنجرة!
أريد القيام بأي شيء. ينبغي ضرب المصداقية الأخلاقية لاسرائيل في العالم الغربي. اللجوء إلى الضربات تحت الحزام: المقارنة بالنازية. باريس دشنت منذ أيام حائط "العادلين" الذين أنقذوا أطفال اليهود في فرنسا من أنياب النازية. حسناً فلنطلب نحن أيضاً أن نعثر على عادلين! الفرنسيون خبئوا مؤخراً عن أعين ساركوزي المئات من أبناء المهاجرين غير الشرعيين المهددين بالطرد إلى بلادهم الفقيرة، فليخبئوا أطفالنا عن عيون الطائرات الاسرائيلية التي تتقصدهم وعينها على مقبل الأيام وأجنة الأرحام!
خليل قلق من مخاطر مثل هذه المقاربة. لن يترك الشعبويون من هذا التقريب بين النازية والممارسات الاسرائيلية سوى مماهاة بين جوهرين، وسيغفلون كل ما نود قوله عن ارتباط هذه الوحشية، غير المسبوقة تحديداً، بعلاقة الإنسان بالتقنية، وبالحداثة.
في المظاهرة، في مساء اليوم نفسه، رسم مرفوع عالياً: نجمة داود = صليباً معقوفاً.
التأثير قد يكون تماماً عكس ما نريد، رفضاً مطلقاً لتقريب يلغي المسافة ويشطب منطق العلاقة بين نقطتين. وقد يكون كارثياً على مستوى الرأي العام العالمي.
الرأي العام العالمي؟! أليس علينا أن نيأس من هذا الرهان؟

عشرون يوماً على 12 تموز
هذه الصبية، كل صباح في المترو، كيف أقول لها أنها تشعّ باللا دعة، وأن ذلك يجعلها فاتنةً.
لم يشهد العالم قبل اختراع القطارات امكانية بقاء البشر لمسافات طويلة وجهاً لوجه دون كلام! الآن سماعات الهاتف والـ Ipod تزيد من صعوبة التواصل بين المتواجهين، إلى حد أن الاتصال بلبنان وهو تحت القصف أهون بكثير من مخاطبة الجار في المترو. ألا يصيب هذا العارض أيضاً السياسيين؟
إيه بودلير، هذه الفتاة وانا في الحشد نفسه، لكن التقاء العينين حتى مستحيل. لا الحشد يحملها بعيداً ولا قربها نافع ولا أنا أصبر!

الأغاني في المظاهرة واضحة الانتماء. لكن هنالك بعضها مما لم أسمعه من قبل، لا شك أنه أغاني العونيين. من أول مازورتين، يكشف فقر التوزيع و"الكيتش" اللبناني فيه عن ذلك، وعن افتقار كبير للبحث الفني الذي كان أساس ثراء التجربة اليسارية موسيقياً. ربما لأن اليسار كان يحلم بتغيير عالم، في حين أن العونيين لم يحلموا يوماً ولا يحلمون الآن سوى بالعودة إلى الماضي.
راديو الشرق يستمر في بث المقتطفات عينها من تصريحات الشهيد رفيق الحريري، "الحقيقة ما حدا في يخبيها"! إلى جانب ذلك هنالك العديد من أغاني المناسبات التي أطلقت بمناسبة هذه الحرب. لكن الأبرز هو الإصرار الكبير على أغاني بيروت، بما فيها تلك التي غناها راغب علامة قبل عشرين عاماً (هل هذه هي الإعادة التي وعدت بها الحكومة الاسرائيلية؟). لماذا بيروت؟ في حين أن القصف على الضاحية وفي بعلبك والجنوب. هل قبل البيارتة أخيراً أن الضاحية جزء لا يتجزأ من بيروت، أم أن بيروت تحاول التمدد على مساحة الوطن؟ ها هنالك إشارات جغرافية في أناشيد حزب الله؟

النقاش مع أصحاب الإيديولوجيات يصل دائماً إلى النقطة عينها: في الدين، السؤال عن وجود الله، وفي الصراع اليوم السؤال عن التسيير والتخيير! هل هنالك خيارات سوى السلاح؟ ووراء ذلك السؤال الأعمق، لمن الأولوية لرؤية الواقع والعمل على تغييره، أم للتوق إلى رؤية الإيديولوجية واقعاً؟ لا أستطيع أن أجيب على من يؤكدون انعدام الخيارات، سوى أن ذلك نفي للسياسة. الرد أن العزة والشرف أسمى من السياسة! ينسى هؤلاء أن السياسة هي أساس الاجتماع البشري منذ اختراع اللغة، وهي القدرة تحديداً على رفض القول بالجبر والتسيير!
في النقاش معهم، حتى مع العلمانيين منهم، يظهر العدو الاسرائيلي والأميركي كأنه شيطان لا شيء يثنيه ولا عقل يسيره، ولا تسوية ممكنة للصراع معه. إنه صراع وجود لا حدود، بالطبع بيريز أيضاً قال ذلك. لا أستطيع أن أجيب على ذلك سوى بأن الشيطان أيضاً نفي للسياسة. حتى صراع الوجود يحتاج إلى خطوات عملية، لا يشكل الانتحار الجماعي فاتحة ممكنة نظرياً لها! و"القضية" في الواقع أعقد من أن يحلها التواقون إلى شهوة الالتحام النهائي بالأبد في لحظة.

تذكير: خلق السبت من أجل الإنسان، ولم يخلق الإنسان من أجل السبت!
تذكير ثانٍ: بأي حقٍ أصنفهم أصحاب إيديولوجيات وأغدو أنا "مفكراً حراً"؟ ألا يسع الحرية أيضاً أن تكون ايديولوجية مثلها مثل عبادة الطبقة الوسطى السائدة هذه الأيام والافتراض غير المثبت من أن مصلحة الدولة في أن تمثل هذه الطبقة؟
تذكير ثالث: لبنان يخاف من المحكمة الجزائية الدولية حرصاً على حزب الله. ما ينبغي هو ملاحقة إسرائيل ومجرميها وإن على حساب محاكمة صعبة لبعض عناصر حزب الله، لأن إثبات نيتهم الجرمية سيكون بالغ الصعوبة، ونستطيع أن نكسب لأنهم لا يرتكبون جرائم حرب، بل فقطط يستعملون المتاح لهم، أي أسلحة ضئيلة الدقة، بعكس الإجرام الاسرائيلي بأسلحته الأميركية اللماعة.

نيف وعشرون يوماً على 12 تموز
غريب كيف أن قانا ـ 2 لم تتحول إلى 11 سبتمبر لبناني! هنالك قدرة لبنانية هائلة على الاستمرار في تفتيت الزمن الجامع إلى أزمنة جماعية خاصة ومغلقة. 17 أيار لا يزال أهم من مجزرتي قانا، واختفاء الإمام الصدر أو اغتيال بشير الجميل أشد وقعاً من 22 ت2 أو من 6 أيار! ربما يشكل اغتيال الحريري استثناء في ذلك، ولكن هل كان الأمر بسبب الاجتياح الدولي للزمن اللبناني بعد طول انقطاع، أم بسبب من كون اغتياله كان محاولة اغتيال لاحتمال الدولة اللبنانية، مما جعله أيضاً إعادة تأسيس لها؟ الإثنان دون شك. ولكن ما دمنا لا نذكر التأسيس الأول، فلا شيء يؤكد أننا لن ننسى أيضاً 14 شباط وما تلاه.

تحليل بلال بارع: قوى 14 آذار و 8 آذار لا تملك حتى القدرة على الوعد بشعار، لذا ينحصر وعدها بموعد زمني يفترض أن يقيم تأسيساً، خاوي المعنى، لجماعتها.
المقارنة هنا مع القوانين مفيدة أيضاً. بدأت القوانين بحمل التواريخ فقط، ثم أخذت تحمل إلى التواريخ أسماء وعناوين. كان هذا يعني أن القانون لا يكتفي بتفتيت الزمن الجامع، بل أيضاً يجعل من كل قانون استئنافاً لـ"مجال" محدد، وليس لزمن. هكذا بات لكل موضوع أو مجال أو حرفة سلسلة أزمنتها الخاصة. ما تفعله القوى اللبنانية المعنونة بالتواريخ هو تغييب البحث عن المجال الذي يسع عدداً من اللبنانيين أن يلتقوا فيه، لأن التواطؤ على اللقاء مستحيل من دون اللغة! مجدداً، وحدها اللغة تجعل من أفعال الإنسان سياسة (أرندت)، أما الأرقام والحسابات فلا تؤكد إلا استقلال التقنية برأسها، وابتعاد الإنسان المتزايد عن إدارة شؤونه. هكذا يكتب الكتبة مثلاً أن السلاح يحتاج إلى أسباب لتبرير وجوده، وتصريف وظائفه. السلاح يحتاج، لا حملته! كل هذا الوضع يخرج مباشرة من مخيلة بورخيس المليئة بالمتاهات وباللامتناهيات، أليست هذه أيضاً حال هذه الحرب ـ المتاهة اللانهائية، المتطاولة الخاتمة كأفلام كوستوريتزا اليوغوسلافي !

حلم: آلان جوبيه يتذكر وجه صديقتي ويمتدحه بأناقة، في حين أن شيراك الهارب من امرأته يلتجئ إلى بيتي المتواضع، ليشرب كأساً تحت الدرج. شيراك أيضاً أبوي وحنون غير أنه يمتاز أيضاً بقدرته على محو هيبته ومد الألفة بيننا. يضع يده على كتفي ونمشي سوياً في غسق رمادي.

لاحظت صديقة أنني أكثر من الحديث عن أبي مؤخراً. ربما كان الشوق. وربما، الخوف من أن يشيخ وأنا بعيد. كما هو الخوف من أن يشيخ بلال وطوني ووليد وأنا بعيد وأن ينضم فضل وهادي والآخرون إلى قافلة الأباء النظاميين، في حين أظل أحيا في زمن الفتوة، فقط لأنني بعيد. هكذا أكتب زجلاً مصرياً لفضل في كل مرة حين يتذكرني وهو "يكزدر" على الكورنيش الذي قضينا عليه سهرات متطاولة مصحوبين بصوت الشيخين. فقط لأقول له خوفي من أن يكبر. كل هذا يدفعني لأقرر العودة إلى لبنان قريباً. إن لم أستمع بالطبع إلى صوت العقل، وصوت حياة، وصوت الدمار الذي يكاد ينهي البلد من جذوره!

نيف وعشرون يوماً على 12 تموز (ب)
مناقشات... تعب... قلق... مترو... الدموع مفاجآت على مسار التفاصيل اليومية أو متابعة أخبار الرياضة. الدمع يسفح فجأة، ولا صوت يغني.
اشتقت للعود، لكن الموسيقى العربية لا تعرف مثل حالتي، حالة الإنهاك الأقصى والحزن المتراكم. كلما أمسكت به لأعزف، ألاحظ أن كل هياكله مشيدة على اسم ديونيزيوس، حتى وإن كانت ترجمته العربية الله أو الليل.

الفلاسفة الكذبة مثل غلوكسمان وهنري ليفي ينشرون بذاءاتهم المتذاكية في الصحف الفرنسية، إن كان هؤلاء نجوم الفلسفة السياسية في فرنسا اليوم فلا غرو أن النقاش السياسي فارغ وأن كل التحركات الشعبية الكبرى، من الضواحي إلى الشباب إلى اليسار المنتصر في الانتخابات، عاجزة عن أي تثمير في السياسة! الأسوأ أن افتتاحيات الصحف الفرنسية لا تنتقد "الرد الاسرائيلي غير المتوازن" إلا حرصاً على مصلحة اسرائيل وصورتها! إنها نصيحة الصديق الخلص! لا رفض من حيث المبدأ أو لمصلحة لبنان، بل فقط محاولة لاقناع اسرائيل بأن ما تفعله ليس لمصلحتها. أما الطريف في الأمر فهو أن السيد نصر الله يتبنى في الواقع المنطق عينه الناصح لاسرائيل!
يا للعار! أصبحنا نحمد الله على أن قتلى اسرائيل الإثني عشر من الجنود، لا من المدنيين، لا لشيء بل فقط حرصاً على ألا تمحو مثل هذه المجزرة صورة قانا! يا لبؤس أمة تقيس "إنجازاتها" بدفق سيل المجازر وتحرص على ذلك!

سهرة: رجاء العائدة من لبنان على متن السفينة الفرنسية والتي وجدت في استقبالها في المطار أطباء نفسيين، عثرت أخيراً على هدف لحياتها: جواز سفر فرنسي!
يبدو أن الوضع مخز في تعاطي القنصليات اللبنانية في الخارج، وأن الوضع في داخل لبنان أسوأ مما نحسب، وأن تذمر الشيعة من حزب الله أكبر أيضاً مما نظن. ويبدو أيضاً أن التضامن اللبناني مفروض على الإعلام بقرار واعٍ ورقابة ذاتية صارمة. هل هذا ما نريده من لبنان؟على الدولة أن تبادر فوراً إلى رعاية النازحين بنفسها، إلى جانب عمل الأحزاب والمجتمع المدني، وأن تقوم لاحقاً بنفسها، جهد الإمكان بالطبع، بمد شبكات التعويض وإعادة الإعمار والرعاية الإجتماعية للمتضررين، لا أن تلزّم ذلك لرؤوساء الطوائف كالعادة، وإلا فإن لبنان سيخسر آخر فرصة ربما لأن يصير نواة دولة، لها جمهور يقدمها على زبائنية الطائفة.

مشروع سفر حول العالم: رغبة هائلة في السفر. في الوقت نفسه شعور بأن التكنولوجيا المعاصرة تمنع مرتين مغزى السفر. المرة الأولى حين لا ينظر أحد إلى مرور جثمان البابا يوحنا بولس الثاني أمام ناظريه لأن ناظريه منشغلان بشاشة الكاميرا أو الهاتف الرقميين، والمرة الثانية لأن هذه التكنولوجيا تمنع المرء من توديع أهله وصحبه والمضي وحيداً صوب الإكتشاف، لأنهم سيصاحبونه في كل خطوة وفي كل دقيقة إن شاؤوا.

في أفلام تاتي دائماً حنين منكسر يغدر بنا دون سابق انذار، في وسط الضحك. ربما كان ذلك تعريف لبنان، لو أنه الآن في وسط النيران. لكننا محكومون بالبقاء، وطناً صعباً (جداً)، أما الأمل فعلى الله...

نيف و...

وطن كاليدوسكوبي

نشرت في عدد رأس السنة 2007 في ملحق النهار الثقافي
وطن كاليدوسكوبي في عيده الأخير


كنا نقرأ ونسمع صغاراً أن الأعياد كالأماسي، أوقات لفحص الضمير واحتساب محصلة ما أتاه المرء وما اقترفه، لكن مرور السنين يخرجنا، كما رأى تروفو، من عالم الطفولة، الذي هو عالم من الممنوعات ومن الحساب والجزاء، إلى عالم الكبار، حيث كل شيء مسموح، وحيث لا يعني العيد سوى تغييب السؤال في المتعة وتذويب الإنصات إلى النفس في فيض الاختلاط.

وربما كان هذا أفضل، لا سيما في بلد قد يكون العيد هذا العام عيده الأخير، حين يبشرنا المبشرون بأن انتهاءه يعني فتح أبواب جهنم، التي قيدتهم في أصفادها أيامُ رمضان السابق، حتى لنتمنى أن تكون كل أيامنا أعيادا وصوماً، لا لنتمتع بها، بل ليظلوا يرسفون في القيود والأغلال.

غريبة ومتعبة هي هشاشة هذا الوطن الذي نبيت لا نعلم إن كنا سنصبح عليه، أم على آخر. لكنها أيضاً هشاشة خادعة، كهشاشة الكلمات.

هشاشة الوطن الحماسية

يبدو لبنان البلد الوحيد الذي يترك المغادرون مطاره وفي قلبهم، لا غصة الفراق، والخوف من المجهول المقبل أمامهم، بل خوف على المجهول الذي يخلفون. ولعل هذا يدمغهم بطابع العيش على حافة البركان، أو في أرض الزلازل. فلا معنى للعمارة في أرض مهددة إلى هذا الحد، ويكفي فيها أن يعب المرء الحياة عباً، لأنه لا يدري ما تراه يكسب غداً.

ولهذا أيضاً يخاف المغتربون، هؤلاء اللبنانيون غير القلقين على أنفسهم ما داموا يعيشون في بلاد الله الراسخة الأرضين، على لبنان، فوق ما يخاف أهله المستغرقون في لذات الحماسة. ليس الجهل في زمن الانترنت ما يدفعهم إلى الخوف على الغائب، بل خمود الحماسة للحياة، وبدء العيش الفعلي، وسكونه النسبي مقارنة بأحلام عب الحياة من مناهلها المختلفة.

أم لعله العمر؟ يدرك المرء أنه اكتهل، مبكراً، حين يعي أن حسم مصير الأمة لا يقرره حسمه خياراته السياسية، ولا مقدار تعلقه بهذه الفكرة أو تلك. يبدو هذا الاكتهال، أو النضج إن وددنا مراعاة أهليه، حين يدركون صغر حجهم ووزنهم في مثقال العالم، وحين تدركهم السخرية المريرة، لا سيما من السياسة والساسة، على وجهين، ينزع الأول إلى التساؤل عن تفاهة الانسان في الكون الهائل التعقيد والمخيف الاتساع والجم الموارد والمتع، التي يحصرها السياسي في مد ابتسامته على جثة الخصم في مساحة لا تزيد عن المتر المربع. أما الثاني فيقود إلى التساؤل، لا عن التفاهة، بل عن أهمية ما وراء الصورة في تشكيلها، عن الوزن الحقيقي لهؤلاء الذين لا يقودوننا سوى إلى هاوية ذواتهم، في ميزان علاقات القوى الفعلي، وعن تكلف نبراتهم وخطاباتهم المحمومة، إلا إذا افترضنا أن سبب الحمى إمساك في المعدة!

رغم ذلك لا يكف اللبنانيون عن الحماسة، التي هي مدعاة حيثما حلت للاقتتال الخارجي، أو للتناحر الداخلي. وليس في ادعاء بعضهم حب الموت إلى المغالاة في عب الحياة، وصولاً إلى ضمان ما بعدها، وبجرعات إضافية إذا أمكن من الجنة.

معنى لبنان في قلقه

يرث المرء في هذا ضعف لبنان التكويني.إذ لا مبرر لوجود بلد، يعتبر نفسه ملجأ الأقليات والمضطهدين، سوى مجاورته للطامعين الأقوياء والجشعين. أي أن سبب تشكيل هذا "الوطن"، مرهون بوقوعه على خط الزلازل والاستبداد. ولا ننسين أيضاً أن هذا الوقوع هو أيضاً سبب رئيسي في إشعاعه الفكري، بالمقارنة مع الثقوب السوداء المحاصرة له، وفي ازدهاره الاقتصادي النسبي، حين تسنح له فرصة الازدهار.

تطارد أشباح الاضطهاد والأقلية والاستبداد شطوراً وافرة من اللبنانيين لكنها بدل، أن توحدهم، تقيمهم في مواقع متغيرة وتنصبهم بيادق في معارك تتجاوزهم. ذلك أن الاتفاق لم يجر على تحصين هذا الملجأ، ولا يزال اللبنانيون إلى اليوم يكرهون الملاجئ، إلى حد عدم بناء أي منها، حتى على خطوط المواجهة.

ومثل هذا الاتفاق لا يكون إلا سياسياً في الأصل. أي أن الميثاق الفعلي المطلوب من الطبقة السياسية اللبنانية هو الاتفاق على تحصين البلد من كل استتباع للخارج، ليظل محافظاً على مغزى وجوده، ولا يختلف في هذا المجال استتباع لصديق عن مثيله لشقيق أو نسيب. ذلك أن كل استتباع قاصر عن طمأنة هواجس كل اللبنانيين، وهي بالتالي عامل على اقامتهم في خنادق متواجهة، وفي استتباع مواز.

ولما كان اللبنانيون قد جربوا في السابق ويلات الاستقواء بالخارج، فإن عبقرية بعضهم تفتقت اليوم عن تجربة بناء قوة ذاتية، منفردة عن شركائه في الوطن، ولا يظنن أحد أن ويلات القوة الذاتية ستختلف عن سابقاتها، أو أنها ستلقى إجماعا على الحمد بها.

في ظل غياب هذا الميثاق الأصلي، الذي يشكل الضامن الوحيد لمعنى لبنان، أي في ظل استمرار كل فريق لبناني في بناء علاقات مع أطراف خارجية، من خارج إطار جامع يفترض بالدولة أن تشكله، فإن حلم القفز فوق لبنان يصطدم دائماً بحقيقة أن لا أحد أعلى من السماء التي تظله، ولا أوسع من الزقاق الذي يأويه، ولا من مساحة القبر الذي سيثوي فيه.

نقيم في الهشاشة ما ظننا أننا أكبر من الوطن، بدل أن نقول أننا نكبر به.

صمود الكاليدوسكوب

غير أن هشاشة لبنان خادعة، لأنه لا يصل إلى الانكسار الفعلي، لا لصغر مساحته، فهنالك دويلات أصغر، وأكثر استقراراً، بل لأنه في الواقع مركب من نويات لا تربطها علاقات فعلية في ما بينها. لبنان، كالكاليدوسكوب، لا تنكسر صورته حين تهزه، بل فقط تعاود التشكل بالعناصر ذاتها، بانية علاقات جديدة، بالغة الشكلية، بحيث أنها لا نقاوم أي صدمة، ولكن لا صدمة تكسرها.

رسمت صحيفة لوموند مؤخراً صورة لتشكل التحالفات اللبنانية، منذ 1975 إلى اليوم، والنتيجة بالطبع مذهلة، فباستثناء حركة أمل التي لم تقف يوماً في صف مناهض للتدخل السوري، فإن الجميع قد تقلب في كل التحالفات الداخلية المتخيلة. كان يكفي أدنى حادث في منطقة الشرق الأوسط، كي تنقلب الصورة والألوان في لبنان من نقيض إلى نقيض، وكي تتمدد الخنادق بين شارعين، إلى مجارٍ بين أخرى، حتى عمت الخنادق، والمجارير، كل الشوارع، وأصبح لدينا الوطن الوحيد في الدنيا الذي تساوي مساحته مساحة انقساماته.

إنها الهشاشة عينها التي تسمح، اقتصادياً، بعدم التأثر سلباً بأي أزمة اقتصادية عالمية أو بأي انهيار في الأسواق، من الشرق الأقصى إلى أميركا. نحن محصنون لأننا لم نبنِ ما قد يتضرر. وإذ نحيا فإنما نحيا من الإبحار على موج اللحظة، لا من الكد في الإنتاج المستدام.

صحيح أن لبنان يعيش أزمة اقتصادية خانقة، لكنه كان يعيشها منذ وعود الحريري الربيعية، ويداويها بحقنات كبيرة من الأمل. وصحيح أنه يعيش أزمة هجرة فادحة، لكنه لم يعرف سواها منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى، وربما ينبغي أن نرى في سوى أزمة العمل مبرراً لها.

لا يغادر المغادرون فقط بحثاً عن عمل، بل بحثاً عن سكون، وعن رسوخ في أرض راسخة، وعن حرية فردية، وعن طبقة وسطى لا تتشكل تعريفاً من بحبوحة مادية نسبية بل من تغيير فعلي في العلاقات الاجتماعية وفي طريقة النظر إليها. لذا تراهم كالإنسان على القمر، قادراً عضلياً على القفز والارتفاع عالياً، لكن ذلك يعكس أيضاً فقدان الوزن. ومثله أيضاً لا تفارق عيناهم وجه مسقطهم. إنها لعنة لبنان مجدداً.


حصاد العام: تقويض كل مكونات الوطن

لم يقم العام الماضي، 2006، أي عام ما بعد زلزالي اغتيال الحريري وانسحاب الفرق العسكرية السورية، سوى برسم هذه الخطوط بالأحمر، وببدء إعادة الحفر فيها تمهيداً لملئها مجدداً بالدماء.

لئن لم يكن للوطن ذات لتحسب ما عاد به عليه حصاد العام، فليكن لنا أن نبحث في ما أتى عليه.

إن كان الوطن، أرضاً وشعباً ومؤسسات، فقد بتنا اليوم، بحمد الله ونعمته ومنته علينا، في شعوب وقبائل تأبى التعارف وتهوى الاستعداد لتفحّص الهويات واختبارات الدم. كما أننا أبينا أن يوحد العدوان الإسرائيلي الغاشم، حرباً وحصاراً، أرضنا، كما فعل في 34 يوماً، حين طال القصف كل المناطق والجيش، الجامع تعريفاً، وخنق الحصار كل الأراضي، بما فيها تلك التي سبق أن خنقها أيضاً إقفال المعابر السورية. لذا أصررنا على أن نعاود تقسيم الأرض اللبنانية أراضٍ، بل وعلى احتلال بعضنا بعضاً، إذ ما يمنع من أن يقرر تيار المستقبل غداً دعوة أهل طرابلس، التي يتم التعامل معها على أنها الضاحية السنية، إلى الاعتصام في المربع الأمني للحزب اللاهي؟

أما عن المؤسسات، فقد تم الرد على غيبوبة الرئاسة، بشلّ الحكومة، ومنع المجلس النيابي، المنعقد حكماً ودستوراً في دورة عادية، من الاجتماع. بل إن التحضير جارٍ، كما تقول زلات لسان صاحب إحدى الحكومتين، للعودة إلى تجربته السابقة، في حين يذبل خصمه السابق متأسفاً لدور المال السياسي، وكأنما إقطاع الجنوب والضاحية لحزب الله وأمل لم ينتج عن المال السياسي أيضاً وأيضاً.


وقاكم الله شر الاختراع والخيال

المحصلة إذاً أننا أمام تهديد يطال في وقتٍ واحدٍ معنى الوطن، ومقوماته. ولئن بات استعمال مفردات الخيال، السياسي، والتخييل والاختراع، سارياً اليوم على كل شفة ولسان، فإننا نسأل المولى أن يقين شر الاختراع (وهو في لسان الرعب الخيانة وأخذ المال، والكسر والشق) ومن شر الخراعة (الرخاوة، والدلاعة وهي الدعارة) والخُراع (الجنون) والنساء الخُرّع (الناعمات مع فجور)، ثم إننا نعلم أن أصل الاختراع في اللغة الإفرنجية إنما هو من "الوقوع على"، فعسانا لا نقع على خيال، ولا على خازوق وقاكم الله، ولسنا في ما نخترع سوى واقعين على ما كنا فيه ونعلمه.

ذلك أن الخيال الذي نحن مدعوون للتهويم فيه، ليس سوى وسيلة للوساطة بما لا يمس الواقع الأصلي. إنه مجرد هزّ لصورة الكاليدوسكوب، لكنه لا يمس أسس انتثار العلاقات اللبنانية، ولا يعالج انكسار معنى الوطن، ولا تصدع مكوناته الأس.


حدود المقاومة

رغم ذلك، نستطيع القول بأن العام الفائت أتى، رغم فداحة التضحية وفظاعة المجازر الإسرائيلية، بفائدة وحيدة، لا تزال تنتظر استغلالها، ذلك انه فتح الباب أمام نقد جذري لفكرة المقاومة (وليست المقاومة الإسلامية الشيعية للحزب اللاهي محتكرة التوصيف)، وعلينا أن نلج من هذا الباب إن شئنا ألا تكون كل العذابات قد راحت هباء.

ليس ها هنا، ولا في آن العيد، مجال للتوسع في هذه الفكرة، لكن الإشارة السريعة إليها تستوجب توضيحاً. ليس المقصود نفي شرعية مقاومة المحتل، بل المقصود أن علينا التفكر جدياً في أوان المقاومة، وحدودها، وجدوى أساليبها ومشروعيتها، وكيفية الاحتياط لانعكاساتها، وأخيراً كيفية الخروج من زمنها.

لقد رأينا أن المقاومة الجزائرية قدمت مليون شهيد، وفي المناهج الجزائرية يتضاعف العدد، في حين أن عشر هذا الرقم كان كافياً لتحرير أفريقيا كاملة، لكن الأخطر أن المقاومة بنيت واستمرت على أساس من الإقصاء المتواصل، ومن التصفيات الداخلية. كما أسست لحكم عسكري متواصل أفضى بالبلاد إلى حرب أهلية مديدة. مثال ذلك كثير في تاريخ حركات التحرر، لكنه ليس حاسماً. فقد عرف السود في جنوب أفريقيا، وفي الولايات المتحدة، كيف يتحررون من دون دفع البلاد إلى الدماء، وألقت المقاومة الفرنسية سلاحها أمام بناء الدولة، وانتهى الاستعمار في معظم أنحاء العالم، دون أن يخلف بالضرورة حروباً أهلية لا تفتر همتها.

كما أننا نرى رأي العين أن ما يسميه البعض مقاومة، وإسلامية، في العراق، ينتهي إلى حرب أهلية شديدة النهم إلى دماء الأبرياء، وإلى عنف مجنون لا عقال له، ولا عقل.

لذا بعد أن زال المحرم حول السلاح، ولم يبق سوى في بعض تصريحات مجانينه مقدساً وإلهيا، وهو ما ابتكر وصنع في معامل أحد الشيطانين، الأصغر أو الأكبر، أو مقلديهم، من الضروري، بناء إصلاء فكرة المقاومة نقداً فكرياً وسياسياً، يبت المشروع منها من المشوه المسيء، ويقرر مدى ارتباط المقاومة بمشروع فكري من جهة وبالعمل العسكري، وبغياب آفاق العمل السلمي والدبلوماسي مم الجهة الأخرى، ويعطي الأولوية للسلم على الحرب، ولا يكتفي بتقرير أن عشق السلاح انعكاس للخوف على الذكورة من الخصاء، ويشير إلى أن مشروعية أساليب العمل العسكري، بعد ذلك، محدودة بوجود إجماع وطني عليها، وليس بانحصارها في عصبية، لا سيما مذهبية، تستفز الأخريات، وفي اندراجها تحت سقف مشاريع الوطن، وألا يصبح اعتمادها على دعم خارجي مجلبة لاحتلال آخر أو وصاية جديدة، وأن تكون عملياتها فعلية، لا يجوز لها استخدام أساليب الإعلانات عن عمليات دعائية و "تذكيرية"، بشرط أن يتحسب الوطن كله، إذا ما ظل الوطن، لانعكاساتها. وأخيراً، ينبغي الفهم بأن المقاومة والسلاح ليسا أشرف، تعريفاً ولا أطهر ولا أنزه من الاجتماع ولا حتى من السياسة، بدليل تصفيات الحركات المقاومة بعضها البعض. لذا فإن على السلاح أن يلقى، لا أن يخفى عن الأنظار، حين يعرقل السياسة والاجتماع الوطنيين.

التوله بالشعوب وبملح الرجال

والحق أن أكبر ما يعرقل شرف السياسة وضرورتها هو الشعبوية من جهة، وفشو الكذب، ملح الرجال، من الأخرى. وليس أخطر منهما سوى رفض القول بحقوق فردية قانونية سابقة على تنظيمات الدولة كان دوماً ديدن الدول الكلانية التوتاليتارية على ما أشار ليو ستروس في كتابه "الحق الطبيعي والتاريخ".

ومن المعروف المشهور الواضح غرامنا، شعباً وساسة، بهاتين الخصلتين، أما الثالثة فهي في صلب تكوين دولتنا التي لا تنزع بنفسها إلى الكلانية، بل تمنح هذه الصفة للعصبيات الطائفية.

ولئن كانت، نظرياً، قواعد القانون العام لا تزال تقيم على مبعدة، حين تُحتَرَم بالطبع، قوة وعسف والجماعة التي ورثت سلطة الملك. (والبعض ربما يسوؤهم الأمر، كالحصيف روسو الذي كتب:"الشعب الإنكليزي يحسب نفسه حراً، مخطئ هو كثيراً: إنه ليس حراً إلا وقت انتخاب أعضاء البرلمان; ما إن ينتهي الانتخاب حتى يكون عبداً، لا شيء" قبل أن يضيف مرير السخرية: "في لحظات حريته القصيرة، طريقة استعماله لها تجعله حقيقاً بفقدها")، إلا أننا في مأمن من عسف الدولة اللبنانية، حتى الآن، في ظل تهافتها، لكننا لا نزال نأمل قواعد تقينا عسف الجماعات. ولا يتحججن أحد لا ببدعة "الديمقراطية الطائفية التوافقية"، التي تعني استدخال وصي أجنبي دائم كما يقول أحمد بيضون، أو التعطل المديد للحياة بقضها وقضيضها كما تظهر الأزمة الحالية، ولا بجموع الشعوب الهادرة في الشوارع المتناقضة (ما دامت لم ولن تصبح شعباً واحداً، ولا مجموعة "أفراد" ذات مطالب سياسية واضحة وقابلة للتحصيل قانوناً وواقعاً). فكما يلاحظ دوغي والعميد جيز أيضاً، إن لفكرة القانون الذي هو منبثقٌ عن الإرادة الشعبية طابعاً أسطورياً، وإن كان في صلب رؤيتنا الحالية للأمور. ويقول دوغي إن القوة الإلزامية في قانوننا الوضعي متأتية في الواقع من موافقتها للمبادئ الموضوعة أكثر مما هي ناجمة عن الإرادة الشعبية. إلا أن الرد المفحم على عشاق الإرادة اللحظية للشعوب و مفعولها الذي لا يقهر ولا يحتاج إلى قنوات للتعبير عنه، يأتي من حنة أرندت التي رأت بنفاذ بصيرة إن الأنظمة الديموقراطية تقوم على احترام دساتيرها أكثر من احترام قاعدة الأكثرية العددية، في حين أن الجماهير، غير المتمايزة و المنصبّة سيلاً موحداً، هي عماد الأنظمة الكلانية التوتاليتارية و ركيزتها.


أما فشو الكذب، ولنا في وعود الصادقين، وخطابات السياديين من كل الجبهات السيادية، وكل المتواجهين صراعاً على الوحدة، نماذج أكثر من أن تحصى، فإنه يمنع اللغة من أن تكون تواصلاً، فكيف يبنى التواصل؟ وكيف يبنى الرأي؟ وكيف يدعى الناس إلى الاجتماع على قولٍ أو قرار؟ فشو الكذب يمنع وجوباً إنشاء فضاء سياسي عام، لا لأن كل فضاء عام صادق بالضرورة، بل لأن فشو الكذب يمنع السياسة من أن تكون، كما ينبغي لها، دعوة إلى الغفلين من الناس إلى تقديم خيارات وتأخير أخرى، وبناءً للأولويات، وشرحاً للمخاطر وللمنجزات، ويحولها، كما نرى، شيفرات سرية ورسائل دموية بين أطراف تعرف بعضها البعض، وينكر كل منهم لأتباعه صفة غير صفة القطيع الذي يضبطه إما بالعصي أو باستنهاض أدنى الغرائز و العصبيات.

الأولوية الآن للغواية

الحفاظ على اللغة وفضح طريقة التشفير هذه تشكل ربما الوظيفة الأولى للمثقفين، وليست وظيفتهم تأويل خطابات المتخاطبين والشرح على شروح هوامشها بما يمنحها غلاف الهدية المسمومة المشع، كالبولونيوم، ولا وظيفتهم أن ينقلوا الرسائل على صفحات الجرائد. وإنه لمما يدعو إلى الخشية أشد الخوف على الصحافة وعلى الوطن كله أن تتكاثر، كما نشهد في هذه الأيام، أقلام الكتبة، الناقلين عن مصادر أو المطلعين على أسرار، لا يعلمها إلا الراسخون في وحول القذارة السياسية والاستخباراتية الحالية، بالإضافة إلى أولئك المقدمين غير المقدامين، الذين يقولون في مقالاتهم شيئاً، وفي جلساتهم الخاصة نقيضه.

إلا أن فضح التشفير وفرض حد أدنى من نقاء اللغة، لا سيما الدستورية منها والتي كثيراً ما أشرنا إلى أن انتهاكها إنما يفضي إلى دنو النوائب والحروب العارية، لا يستنفد مهمة المثقفين. إذ أن المثقفين، لا سيما في بلادنا، ليسوا سلطة ولا هم بقادرين على حشد الحشود، ولا حتى على الفوز في انتخابات نيابية بالغة النزاهة. وليس هذا من مهامهم على أي حال. لذا فإن عليهم أن يسألوا أنفسهم، عن فائدة الكلام إن لم يكن له صدى، أو قارئ مستعد للنقاش، في زمن بات لكل فريق أبواقه، ولكل قارئ متحزب ما يرضي فخره الذاتي وكرهه لشريكه في الوطن. لذا لا تنحصر مهام المثقفين في الذكاء، ولا في الكتابة للخارج، ما دام لا داخل يكتبون له، بل إن أولها هو صوغ هذا الداخل، بإنشاء مساحة لنمط مختلف من الحياة والتفاعل والانفتاح والنقاش.

صحيح أن المثقفين والفنانين اللبنانيين حاولوا صياغة نمط من العيش مختلف، لكنه كان، في الأغلب، نمطاً طارداً للآخرين، متشاوفاً و"خارجياً" إلى حد ما في اهتماماته. المطلوب مختلف تماماً.

يستغرب رئيس تحرير إحدى الصفحات والملاحق الثقافية في صحيفة لبنانية وجود عشرات النشرات ودور النشر والمطابع في الضاحية، قبل تسويتها بالأرض. لكن الواجب الاستغراب ليس وجود هذا العالم الثقافي الذي غاب عن بال أستاذنا، بل في أن هذا العالم الثقافي لم يعتبر أن عليه أن يحظى بالاعتراف، أو على الأقل أن يطلع الآخرين، على نتاجه. المرعب في الأمر أن الثقافة الظاهرة والمعلنة لا تمارس الغواية على من هم خارجها، بل الغرور. من مهامنا الأهم، والأكثر أولوية في الوقت الراهن، أن نكون مغوين، نتاجاً وعيشاً. حينها فقط قد نجد من يهتم لهذا النتاج، ومن يستمع للقول فيختار أحسنه، ومن يبني الأسس لمجتمع مدني (أي مضاد تعريفاً للأهلي)، نستطيع فيه أن نلتقي على سوى الغرائز وشهوات تدمير الآخر. .

jeudi 3 janvier 2008

لبنان وآفاقه

ملحق النهار الثقافي، كانون الثاني 2007
آفاق لبنانية في صناعات الرأي والقيم والثروة


استشراف المستقبل لنقض حتميته




لم يكد مساء الثلاثاء يحل إلا وكانت الأخبار تزف إلى أصحاب الحماسة والروؤس الحامية أن دماً لبنانياً قد أريق بيدٍ لبنانية. يجدر بقلوب هؤلاء أن تهلع، لو كانت لهم قلوب، أمام هذه التضحية التي لا طائل من ورائها. كان جورج باتاي في كتابه "الشطر الملعون" يعتبر أن التضحية وسيلة للتطهر من فائض الطاقة والثروة كي لا ينفجر المجتمع. لكن على حساب أي فائض قد نضع هذه الدماء المهدورة؟
لا فائض لدينا اليوم سوى فائض الكراهية والتعصب والاعتداد بالذات، وهيهات تبرّد الدماء، المهدورة سدى، رؤوس "مقدمينا" الجهولين، فقد سبقتها سيول من دماء من قضوا حرباً واغتيالاً، دون جدوى.
لا فائض لدينا، بل انكماش اقتصادي حاد. بالمقابل، للتذكير، يتضاعف الاستثمار في إسرائيل من 9,9 مليار دولار في العام 2005، إلى 21 مليار دولار في 2006، بسبب عبقرية أصحاب نظرية تخويف إسرائيل وتهجير سكانها واستدرار العطف عليها من كل حدب وصوب، بدل حصر العمليات بالأهداف العسكرية والامتناع عن ارتكاب جرائم حرب!
لا فائض لدينا، حتى لنظن أننا نتساوى مع جياع الصومال، في الاقتتال على فتات الفتات، لكننا نؤمن أن لدينا دوراً في المنطقة والعالم، وأن لدينا فائضاً من الأمل المتبقي في المستقبل. ولا أحد يستطيع، بالإفراط في القوة، تغيير مسار هذا المستقبل والدور، وحده وعي مساراته قد يسمح بالتأثير فيه. لا يستطيع حزب الله، الذي يلوح وراء عداوته لأميركا الهلع من فكرة لبنان ـ الكباريه، أن يمنع هذا المستقبل، الكاريكاتوري والذكوري والموهوم على أي حال، بالثلث المعطل ولا بالإضراب الإكراهي، الممنوع قانوناً، بل فقط بأن نفهم عوامل هذا المستقبل (في توجهه العام، وفي صناعة القيم والرأي والثروة فيه) لنحاول صوغه أكثر عناية بخصوصيات الأفراد وحياتهم.

الاتكاء على موج اللحظة

في حين ينصرف ساسة العالم إلى إعمار البلاد، ينصرف اللبنانيون منهم إلى "البهورة"، وليس من جيب أحدهم المبلغ الموعود. فحين يعد سماحته بأربع مليارات دولار، فإنما هي من قوت الشعب الإيراني، المجوّع في بلد يعوم على بحيرة نفط سينضب استخراجه، بعد بضع سنوات لا أكثر، لانشغال ساسته بمغامراتهم الخارجية. الحكومة أيضاً موعودة بدعم مماثل، وقد يكون الوعد أصدق لا لشيء غير ملاءة الواعدين.
من أجل المساعدات، قدمت الحكومة ورقة حول إصلاحات رآها أغلب الخبراء غير كافية وإن غير ضرورية. المعارضة تجتاح الشارع مطالبة، دون أن تطرح بديلاً، بالمشاركة... في تطبيق السياسة التي يصنعها من تعارضهم!
لقد كان هنالك، لبرهة قصيرة، ما يشبه، زوراً، النقاش الاقتصادي في لبنان، على خلفية الورقة الإصلاحية. خرج البعض أحياناً بالنغمة المعتادة، حول نسيان دعم الزراعة والصناعة اللبنانيتين والاتكال الكامل على القطاع الثالث، أي على الخدمات. يستحق هذه الموضوع وقفة سريعة للإشارة إلى أن الإنتاج في مجالي الزراعة والصناعة كان في الأصل أيضاً "خدمات"، تتم المقايضة بها (إنتاج أنواع الأطعمة أو الثياب) أو القيام بها شخصياً (التنظيف، الطبخ)، وتم تحويلها إلى نسق إنتاج غير حرفي، أي إنتاج بالجملة، وكان هذا أساساً لحياتنا اليوم منذ إنتاج الخبز، بل والقمح، وحتى الآلات الكهربائية اليومية الاستعمال. يعني ذلك أن مسار الرأسمال والسوق هو دوماً تحويل ما كان في السابق "خدمات" إلى صناعة (من حيث كمية الإنتاج، وانتظامه، وتوحيد مواصفاته). ما يتم إغفاله حالياً هو أن قطاع "الخدمات" أيضاً يتم تحويله إلى صناعة، منذ صناعة الترفيه إلى "بيع الرحلات السياحية" إلى طريقة عمل المصارف... الخ.
طبعاً لا نسعى هنا إلى الدفاع عن مشروع أحد الأطراف، وهو لا يحتاج إلى دفاع ضد من لا يهاجمونه أساساً، بل إلى محاولة استشراف الدور اللبناني المحتمل، والحيوي على اي حال، في المجالات الرئيسية كما تبدو لنا، في المرحلة الحالية من التحول العالمي. أي صناعة الرأي، والقيم، والثروة، في إطار العالم العربي. وهذا يمر عملياً عبر الصحافة، والترفيه، وقطاع الاقتصاد الرقمي، أو اللامادي، أي "صناعتي" التأمين والمصارف.
قبل الالتفات إلى كل من هذه الموضوعات، لا بد من الإشارة إلى أن الدور اللبناني فيها سيكون مشروطاً بالطبع بعدم دخول البلاد في حرب أهلية، تتقاتل فيها الطوائف على فتات دورة اقتصادية تظل هي، ولبنان، خارجها. وهو ما لم يعد يبدو مستبعداً في ظل ما رأيناه من حماسة شبابية للهجوم بالعصي على الجيش من أجل تجاوز عناصره إلى "الأعداء" اللبنانيين المطلوب منهم "الاستسلام التام ".
لكن، حتى في هذه الحال، فإن التأخير الذي ستفرضه الحرب لن يتمكن من مقاومة مسار واضح عالمياً. فخلال الحرب الأهلية المديدة، لم تخرج قطاعات المصارف ولا الترفيه ولا الإعلام أضعف من السابق، وهي استعادت بسرعة دورها العربي. بل من المستبعد، حتى وإن حاول أحد أطراف النزاع اللبناني تحقيق نصر سريع على الآخرين، أن يعرض عليهم خطة مختلفة، تتجاوز سد جزء يسير من الحاجات الغذائية. فهل سيقترح على مناضليه زراعة وسط بيروت أم أن رفضه لتجارة المال (الربا، في حين أن التحقيقات الغربية والأفريقية والأميركية الجنوبية تشير إلى تورطه في التهريب وتبييض الأموال والمخدرات!) سيمنع نزف اللبنانيين المهاجرين؟ أم أننا سننشئ مصانع ثقيلة للسلاح مزودين خبرات رجالنا الأشاوس؟
تستطيع بعض القوى أن تؤخر مجيء حدث ما، لكنها لا تلغيه. في المقابل فإن استعجال المسار، وتسريعه، على ما رأت حنة أرندت في النازية والشيوعية، لا يؤديان إلا إلى الكوارث، وهذا ما نراه أيضاً في العراق اليوم. بدل ذلك، ربما علينا الاستفادة من نظريات الصين في الاستراتيجيا، أي السير في ركاب خطوط القوة الصاعدة في وضع ما، وليس خوض معارك خاسرة ضدها. فبالاتكاء على بداية الحدث يحملنا السيل، ولا رادع يصمد في وجه السيل. في هذا المجال، فإن لبنان الذي يطفو على موج اللحظة منذ إنشائه، ويحيا على قلق وخوف دائمين، قد يكون أكثر المؤهلين للاستفادة من مد عالمي لم يعد يعيش سوى في قلق اللحظة وهاجس الزمن، في حين يترك شأن "الحياة" والصناعات الثقيلة لـ"الخدم" في البلدان النامية التي يترك إليها الغرب القيام بصناعات الصلب والحديد، مصدّراً إليها التصميمات، والتكنولوجيا التي خف حملها وغلا ثمنها، ومصدّراً إليها أيضاً نتائج المضاربات الكارثية.

لماذا ثالوث صناعة، الرأي والقيم والثروة؟ لأن صناعة الرأي قد تحسم بقاء الإنسانية بأكملها في المستقبل في وجه أخطار الحروب والانهيارات البيئية والتقييد المقبل على الحريات الشخصية، ولأن القيم ضرورة للمجتمع كي لا يفقد تماسكه ويتحول إلى إنتاج منتحرين وفارين بكميات صناعية، وأخيراً لأن صناعة الثروة ضرورية كي لا تقوم حروب أهلية خالدة خلود رسالات أهليها. فالحروب الأهلية غالبا ما تقوم حينما يحيا المجتمع على اقتسام الريوع وليس على إنتاج قيمة مضافة، وهذا ما يجري التقاتل عليه في الصومال ولبنان والعراق، وما قد تنجي التحولات في بنية الفكر والاقتصاد الخليجي بلدان الخليج منه إن لم يسبقها إلى النيل من هذه البلدان فيض الصدمة النفطية الجديدة (نظرية باتاي مجدداً)، فالثروة والوفرة السهلة كانت دائماً نقمة على المجتمعات، ووحدها انتصرت تلك المضطرة إلى تجاوز نفسها وطاقاتها الأولى.

الصحافة اللبنانية إلى أين؟

كانت الصحافة اللبنانية تبدو صامدة، وقادرة على المنافسة وتطوير المجال الإعلامي، دون تفريط بالقيم الحيوية لها، قيم الحرية والمصداقية. من هنا، فإن بعض الأقلام تشكل خطراً فعلياً على قدرة الصحافة على الاستمرار على قيد الحياة، ومواجهة الوسائل الأخرى، ذلك لأن هذا البعض، بالكذب المكشوف والتحريض العلني يضرب ما سنرى أنه يشكل العامل الرئيسي في استمرار حاجتنا إلى الصحافة، أي ثقتنا في مصداقيتها. (أمثلة؟ اتهام الحكومة، قبل إحدى المظاهرات المليونية، بالاستعداد للقضاء على حصة المسيحيين من المدراء العامين، أو اتهام فرنسا، قبل يوم "التعطيل الشامل" بتحضير قرار يغير تفويض قوات الأمم المتحدة ويتجاوز دور المجلس النيابي في إقرار اتفاقية المحكمة الدولية).

لم يستطع التلفزيون أن يقضي على الصحافة المكتوبة، ولا استطاعت ذلك شبكة الانترنت حتى الآن. كما أن هذه التقنيات الجديدة لم تقض على الكتاب المطبوع بدوره. لكن ما كان العامل في هذه القدرة على المقاومة، وما ثمنه، وإلى أين تذهب هذه الصحافة في تطورها؟
بدأت الصحافة في الأصل مشروعاً حضارياً، يسعى إلى نشر الحضارة والمعارف في أوساط شرائح ظلت تتوسع بفضل انتشار التعليم. وهذا الدور كان حاضراً في الصحافة العربية منذ تأسيس اللبنانيين لصحفهم في مصر أولاً، ثم في لبنان. ويفترض هذا الدور أيضاً استقبالاً للنخب النشيطة والساعية إلى التجديد، من حيثما أتت، وهذا أيضاً ما شهده لبنان في تاريخه، وكان عاملاً أساسياً في نهضته. كان "الخبر" يحتل مساحة هامشية بالمقارنة مع مساحة "مشروع التنوير".
لهثت الصحافة وراء الخبر، الذي يردده التلفزيون دونما عناء، في تنافسها مع وسائل الاتصال الأخرى، حتى باتت صفحاتها خليطاً مستغرباً من السياسة والعلم وأخبار الرياضة والزفاف والكلمات المتقاطعة، سعياً إلى إغراء كل القراء المحتملين. وافترضت أن وضع المعلومة في أيدي الأفراد كفيل السماح لهم بالقيام بخياراتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية بحرّية. في هذا اللهاث، تخسر الصحافة باستمرار، لكونها لا تستطيع منع الوسائل الأخرى من ترداد المعلومات، ولا تستطيع مجاراتها في السرعة والمتابعة المتواصلة لما يجري. رغم ذلك، لم تمت الصحافة، وظلت إلى حد ما مرهوبة الجانب من الساسة، وضرورية للرأي العام، لأنها خلافاً للوسائل المرئية المسموعة تملك القدرة على الإصرار وعلى الديمومة. الإصرار على فتح الملفات وإثارة القضايا من زوايا مختلفة، وهذا ما لا طاقة للتلفزيون به، وعلى الديمومة في وصفها أيضاً وثيقة وحاملة للوثائق والاتفاقات والتصريحات التي لا تراجع عنها ما دامت قد حُفِظَت، سوداء على بياض الصفحة.
تختلف الصحافة عن وسائل الإعلام الأخرى بقدرتها على تنظيم المعلومات، تبويباً وترتيباً وهيكلة، وفي صدقيتها أمام الناس، خلافاً للتلفزيون وللانترنت إلى الآن، حيث يقوم فيها صحافيون محترفون على التثبت مما يكتب، وصحته ودقته، ويتعرضون للمساءلة لدى نشر الأكاذيب المضللة، أو هذا ما يفترض أن يكون الحال عليه.
أخيراً، تتميز الصحافة عن التلفزيون خصوصاً بقدرتها على إفراد مساحة منتظمة لرأي فردي لهذا الصحافي أو ذاك المفكر. ومع تطور الوسائل الأخرى، بات القراء غالباً يستمعون إلى نشرة الأنباء في الراديو أو التلفزيون، وكثيراً ما يتم ذلك من خلال الانترنت الذي لم ينتج بعد مؤسسات موثوقاً بها، لكنهم يظلون يشترون الجريدة أو يذهبون إلى موقعها الالكتروني ليقرأوا رأي فلان أو فلان في حدث ما.
في هذا الإطار، يبدو مؤسفاً بشدة تحول بعض الصحف اللبنانية منبراً للشائعات والتسريبات الاستخباراتية، أو بوقاً للدعاية لهذا الطرف أو لذاك. لا لأن الإقتناع بفكرة ما يمنع من المساهمة في تشكيل الرأي العام، بل لأن الصحافي، حين يمتنع عن المساءلة واستعراض الآراء والاحتمالات المختلفة، يكون يخاطب حشداً من التابعين، لهذا الفريق أو ذاك، أو يهدد زعيماً أو ينشر تهديده لآخر، وهو بذلك لا يخاطب أفراداً غفلين، لا تسبقهم انتماءات "بيولوجية" أو قَبْلية تدفعهم إلى إغفال المصالح في سبيل انتماء جمعي "مقدس" أو موروث، علماً بأن الرأي العام لا ينتج إلا من خلال تأطير الأفراد في جماعات يتفقون فيها ويضغطون من أجل مصالحهم المباشرة.
رغم ذلك، لا يبدو أن مثل هذه التجارب قادرة على العيش طويلاً، وهي ستنتهي بسرعة مثلما آلت إليه كل أبواق الدعاية الحزبية التي عرف لبنان عدداً منها في السابق.
في المقابل، ستضطر الصحافة اللبنانية الجدية أولاً إلى البحث عن أصداء أوسع لها في العالم العربي. وسيسمح انتشار الانترنت بذلك، بدون تكلفة تقريباً. وستضطر في طبيعة الحال إلى تعميق صلاتها بالانترنت، بحيث لا تقتصر صفحاتها على عرض موضوعاتها المنشورة كما هي، بل ستضيف إليها صلات، وملفات مرئية - مسموعة. وستضطر أكثر فأكثر الى الاعتماد على الشبكة العنكبوتية عينها كمصدر للمعلومات. حصل في فرنسا أخيراً نقاش مشابه حيث أن المعلومات المتعلقة بتسديد المرشحة للرئاسة سيغولين روايال وصديقها الضريبة على الثروة كانت متوافرة ومتداولة على الشبكة قبل بضعة أشهر من تشكليها قضية في الصحافة المكتوبة. المثال هنا مزدوج الأهمية، فالصحافة تلام على تأخرها عن ركب مصادر المعلومات الفعلية التي باتت تشكلها مواقع الانترنت، إلا أن الانترنت بمفردها عاجزة عن تشكيل "قضية" أو فضيحة، ما لم تصنعها الصحافة المكتوبة في الدرجة الأولى، والمرئية في درجة ثانية (بحسب طبيعة القضية، فيديو اعدام صدام حسين شكل فضيحة من خلال التلفزيون وليس الصحافة المكتوبة أولاً).
شيئاً فشيئاً أيضاً، ستضطر الصحافة إلى الاعتماد على القراء أنفسهم في "صياغة الخبر". بين الملفات التي سترفق بالمقال على الانترنت، سيكون هنالك المقابلات والصور التي سيلتقطها أفراد غير محترفين، مدججون كما هي الحال اليوم بآلات التصوير والاتصال، التي سيختزلها نوع متطور من الهاتف الجوال. في صورة مشهورة، كان الحاضرون الذين عاينوا نقل جثمان البابا يوحنا بولس الثاني إلى مدفنه، يراقبون جميعاً شاشات هواتفهم أو كاميراتهم، ناظرين إلى الأعلى حيث يرفعونها، في حين كان الجثمان يعبر أمام وجوهم الملتفتة إلى وجهة أخرى. في المستقبل، وربما كان ذلك قد بدأ فعلاً، لن يلتقط هذه الصورة مصور محترف، بل أحد الموجودين هناك.
لا مفر للصحافة اللبنانية من الانخراط في هذا المسار، مع استمرار تشابك القضايا في العالم العربي، والتقارب الذي تفرضه التكنولوجيا والغاؤها الحدود التقليدية. أخيراً، لن تكون السوق اللبنانية كافية لإنتاج المردود الكافي، وخصوصاً أن الصحافة لن تستطيع الاستمرار في الاعتماد على تمويل سياسي تحت طائلة انهيارها الشامل. أخيراً فإن الفراغ الموجود سيدعوها بطبيعته إلى ملئه، في ظل القيود على حرية التعبير والتطوير التي تخنق الصحافة العربية الأخرى. ما قد نلتفت إليه متأخرين ربما، هو أهمية أسواق المغرب العربي، بدل الاهتمام الدائم والمبالغ فيه بالخليج.
الانخراط في مثل هذا المسار سيغير كثيراً في بنية المهنة نفسها، حيث ستصبح المهمة الرئيسية للصحافي هي في تبويب ملفات يبعث بها أفراد غير محترفين، تاركاً لهم مهمة صياغة الموضوع وابتكار اللغة الجديدة، لغة أفراد معزولين، يبعثون برسائلهم كي يشعروا بأنهم موجودون. أما كاتب الرأي فسيضطر إلى دخول المنافسة، دامجاً في صلب عمله وسائل أخرى غير الكتابة، من ملفات صوتية أو مرئية، وتشكيل غرافيكي لصفحته، إلى حد أن الفوارق ستنحو نحو الامحاء ما بين كتبة الرأي والفنانين.

صناعة الترفيه صناعة القيم

بعدما كانت الدراما المصرية وحيدة في العالم العربي، بدأت تبزغ منافسات لها، في سوريا والخليج، وربما المغرب العربي، لكنها، باستثناء السورية، لا تزال محدودة الانتشار خارج أقاليمها. ولا يبدو أن اللبنانيين سيلعبون دوراً كبيراً في هذا المجال، لا لشيء سوى لأنهم باتوا على ما يبدو خارج الحكايات الجماعية. فأغلب الروايات اللبنانية تقوم على أفراد، وحتى لدى الياس خوري الذي يجمع أطراف الحكايات الفلسطينية واللبنانية وينسجها في فسيفساء رواياتها، فإن من الصعب رؤية حكاية جماعية، اجتماعية وتاريخية، إلا في شظايا مراياه المتكسرة، بما لا يقوم بأود صناعة المسلسلات. ذلك أن الجماعات اللبنانية تجاوزت، في الحروب المختلفة، حكاياها العامة، وانصرف كل امرئ إلى حكايا فردية، من النجاة من الموت، إلى رواية الهجرة والصمت.
لا أحسب أن ملحمة حرب تموز ستغيّر في هذا الواقع شيئاً، ولا ملحمة الدواليب التي يطير مع دخانها آخر أحلام الشباب، وإن بدا من الاستنفار الطائفي الحالي أن هنالك استعداداً لمواصلة ملاحم سابقة وتواريخ للجماعات. فوصول النظام الطائفي إلى حالة الشلل هذه، واضطرار اللبنانيين الآن، تحت طائلة انهيار شامل، إلى الخروج من بوتقة التوظيف بالمحسوبية اقتساماً لما تناله الدولة من هوامش ثروات الآخرين، سيؤدي على الأرجح إلى الخروج النهائي من اعتبار الطائفة انتماء ومآلاً أوحدين، والاتجاه صوب الانتماء إلى المصلحة المباشرة والفردية. قد يكون ما نشهده آخر فصول الحروب بين الطوائف، المتلطية بكنيات ديمقراطية غريبة عنها وعن عقائدها، فغالباً ما تسفر الحرب عن انتصار من لم يخضها.
إذا ما نظرنا الى هذا الجانب الفني، لفاجأتنا المسيرة التي قطعها الفنانون اللبنانيون في هذا المجال. من إخراج الفيديو كليب، إلى صناعة المشاهير، والمغنين، ومنافسة مصر التي تعدّ عشرين مرة عدد اللبنانيين. بل ستكون السينما اللبنانية أيضاً مرشحة، حين يتخلى المخرجون عن دورانهم حول سرّة الحرب نحو رواية أقاصيصهم البيروتية، الى أن تكون "الموجة الجديدة" التي تفرض ذائقة ومعايير جديدة على السينما العربية، حتى وإن ظل إنتاجها كصناعة، مصرياً في الدرجة الأولى.
إضافة إلى ذلك، هنالك صناعة الترفيه التلفزيوني التي برز فيها اللبنانيون، بالجرأة والاقتباس، من دون خوف، كما كانت أمستردام تفعل في أيام عزها مكتفية بإضافة لون إلى منتج مستقدم من مكان آخر، أو بإضافة إشارة إلى أن المنتج هولندي، مستفيدة من فارق السعر الذي تنتجه شهرتها وقدرتها على التسويق.
لا تنافس القنوات اللبنانية قناتَي "الجزيرة" و"العربية" في مجال الأنباء والسياسة. لكنها في المقابل تفرض النموذج اللبناني التلفزيوني، بغض النظر عن مطابقته للواقع، مثالاً يحتذى ويقتدى به في أرجاء المنطقة العربية. مرة جديدة، ستكون السوق المغاربية هي ساحة المستقبل، وقد بدأت بالفعل.
سيجتذب نجاح النموذج اللبناني مجدداً نخب العالم العربي الساعية نحو عيش يليق بإمكاناتها. وفي حين تكتفي دبي بشراء صورة لها، فإن لبنان قادر على إنتاج هذه الصورة.
هنا أيضاً، سيؤثر توحيد شبكات الاتصال (الهاتف، التلفزيون، الانترنت) في جهاز واحد على تقنيات البث وكلفته، وعلى طريقة جني الأرباح، حيث سيضاف إلى أرباح التلفزيونات من الإعلانات نصيب من حصة شركات الاتصالات بالشبكات.
شركات الاتصالات هذه ستتولى هي أيضاً مسألة توزيع الأعمال الموسيقية والفنية الأخرى، حيث أن المستقبل، كما يلاحظ جاك أتالي، ليس لحق الملكية، بل لحق الوصول إلى الملف الموسيقي المنشود. ستتراجع بالتأكيد أرباح شركات الكاسيت والأقراص المدمجة، التي ستتحول إلى شركات لإدارة الحفلات، أو، وهو الغالب، شركات إنتاج تسوّق منتجاتها من خلال شركات الاتصالات وتتلقى من هذه الأخيرة نسبة من عوائدها ومن عوائد الدعايات فيها.
بدل تكديس كميات من الملفات الموسيقية والفيديو كليبات على الأجهزة الخاصة، سيكون ذلك كله مبذولاً على الشبكة. يمكن منذ الآن ملاحظة أن الشبكة باتت تضم، من خلال المنتديات والمواقع المختلفة، معظم ماضينا. وستشكل شيئاً فشيئاً مستقبلنا، في موازاة تطور آخر يقوم على الفرار من التكرار الخانق والذي لا يخطئ للآلة، نحو إعادة الاعتبار الى مفهوم الحفلة في وصفها المكان الذي يتم فيه الخروج على التكرار. سيختفي البلاي باك إذاً، وتعود أهمية الارتجال والتنويع في الغناء.
الموجود على الشبكة يحتاج أعماراً عدة لرؤيته والاستماع إليه. في مواجهة هذا اليأس القاتل، ستزداد مرافقة الموسيقى لنا من المهد إلى اللحد وفي كل مراحل اليوم. فالموسيقى وحدها قادرة على خلخلة الزمن وإحداث ثغر معلّقة في داخله.
الموسيقى أيضاً، والغناء، بالإضافة إلى النموذج التلفزيوني الذي سينتشر، تحمل منذ الآن حكايات فردية، حتى وإن كانت مواقف تتكرر في حياة الكثيرين. في معنى من المعاني، سيكون النموذج هو الإصرار على فردية الفرد، حتى وإن كانت هذه الفردية لا تسمح له بأن يعيش أيّ تمايز فعلي عن الآخرين.
سيقوم الفنانون وصناع مواقع الانترنت، وليس العائلات الآيلة إلى المزيد من اللااستقرار، بصياغة منظومة القيم الجديدة، وتشكيل المثالات، التي ستكون، شاء من شاء وأبى من أبى، فردية تقيم في الحاضر نائية عن الهذيانات الخلاصية الجمعية. في الواقع، هنالك بوادر على ذلك حتى لدى جمهور حزب الله الأخلص، فالمستمتع بالبقاء في وسط بيروت، حيث الحجر رفاهية خارج الزمن، لا يمكن أن يكون مثاله هو شظف العيش والكربلائية والندم الأبديين.
كل هذا يضيف إلى صناعة الترفيه بعداً خطيراً يجعلها الموازي الفعلي لصناعة الحماية من الأخطار (البيئية والإرهابية والكوارثية)، وخصوصاً أن الترفيه (الموسيقى خصوصاً) هو المكمل اللازم للحماية من الأخطار عبر فرض نسيانها والإلهاء عنها.

كلفة الأخطار

لا يحسبن أحد أنه أقوى من القطاع المصرفي في لبنان، فهذا القطاع قادر متى شاء على إركاع الدولة، التي يعيل عجزها ويقرضها ما يقوم بأود موظفيها وأهلها، وعلى نقل أرقامه وثرواته حيث أراد في العالم المعولم.
ولعل من أهم النتائج لهذه المواجهة العنيفة بين الطوائف أنها أخرجت إلى الحيز العام كتلة من المؤسسات والشركات والتجار والجامعات، لن تكتفي في المستقبل بالدعوة إلى العمل، بل ستفرض شروطها على كل المتعاملين معها من كل الطوائف، وعلى الدولة، ولا شيء، سوى تأسيس رأي عام نشط وفاعل، يضمن أن تتوقف شروطها عند حدود شعار "دعوني أعمل بسلام".
ليس من قبيل الصدفة، ولن يكون نافلاً، نشاط القطاع المصرفي اللبناني على المستوى العربي. فهذا القطاع أثبت، خلال الحرب الأهلية وبعدها، قدرته على التطور، ويتطلع نحو توسيع أسواقه، مشرقاً عربياً ومغرباً أيضاً، منطلقاً من نسبة ادخار لا بأس بها في لبنان، بحسب أرقام المصارف، وستضاف إليها أيضاً تقديرات الثروة العقارية في لبنان. بالطبع، لا تحتاج المصارف، ولا المدينون، سوى في وقت الأزمات الكبرى، إلى تسييل الثروة العقارية.
إضافة إلى ذلك، ستضطر المصارف اللبنانية، المنخرطة في منافسة شديدة مع المصارف العالمية على استدرار الثروات العربية، إلى تنويع "خدماتها" وتطوير تسويقها وطرق إدارتها، بحيث تشمل إدارة الثروات، وما يتطلبه هذا من تأمين على الأخطار، من أخطار البورصة إلى أخطار التجارة والكوارث الطبيعية.
سيتولى تحالف المصارف وشركات التأمين، بناء على ذلك، تنظيم المجتمع وطرق إدارة الثروة على أسس جديدة. لكن هذه الإدارة ستكون أيضاً "منتجة" للثروة غير المادية التي يقوم عليها الاقتصاد العالمي اليوم، والتي تتسبب له من جهة أخرى في أزمات دورية أيضاً. تتطلب هذه العملية الإنتاجية، على ما يظهر تاريخ تجارة المال منذ القرون الوسطى، جرأة وتصميماً ورغبة في المغامرة بحثاً عن الثراء. لكنها أيضاً، كما في كل مرة، تغير طريقة العمل في كل المراكز الاقتصادية الأخرى، منذ الصناعة الحرفية، إلى الثورة الصناعية وثورة فورد، وصولاً إلى الاقتصاد الرقمي والأسعار الخيالية لمواقع لم تدخل بعد دولاراً واحداً.
يترافق ذلك مع تقدم في معدل الأعمار، وانقلابات في البنية العمرية للمجتمع، ويؤدي ذلك إلى تشجيع الاستدانة على فترات طويلة، والمراهنة على المستقبل. لكن في المقابل، سيتزايد نفوذ شركات القطاع المالي، التي ستغطي الكلفة الرئيسية لمعظم ما يتخوف منه المرء والمؤسسات، من المرض والشيخوخة إلى انهيار الأسواق وحتى العمليات الإرهابية، مقابل دفعات متفاوتة في القيمة تبعاً لكل وضع. مما سيحتم أيضاً الجمع بين شركات المال والطب من جهة، ومؤسسات قياس الرأي العام من الجهة الأخرى، بحيث يتم فرض رقابة، ذاتية في الغالب، سواء من جانب المرء أو من جانب المؤسسة من أجل التزام معايير موضوعة وأوامر لا مفر منها، في الأكل والصحة والعناية بالصورة والانطباع ومراعاة الذوق العام والرأي العام. في ذلك كله، سيغدو كل امرئ "حراً"، بدليل أنه يُشهر انضواءه في إطار القواعد العامة، ويقبل الخضوع إلى الرقابة. أما المؤسسات العامة فسيجري تفكيكها وإيكالها إلى شبكات خاصة كما نشهد منذ الآن، في التعليم والاستشفاء وتأمين الحاجات الرئيسية كمياه الشفة أو الكهرباء أو الاتصال بالانترنت. سنشهد في الدرجة الأولى صناعتين كبيرتين جديدتين، تصنيع الصحة وتصنيع الصورة والاتصال بالآخر.
في مفارقة كبيرة، لا مفر من اللجوء إلى الدولة للحد مما يحمل هذا التطور في طياته من أخطار كبيرة على الحريات الفردية، رغم أنها قد تجيء في مقابل مساحة أوسع للحرية العامة ولوزن الرأي العام. الدولة التي لم يتم بناؤها بعد، ضرورة للأفراد الذين سنبدأ "انتاجهم" بشكل متزايد، وهي حصننا الأخير الذي نسوّره بمدينة بيروت، وبقدرتها على ضخ الحيوية وانتاج العيش الشهي والبهي.

يستطيع لبنان المساهمة، بالركائز الثلاث من صناعة الرأي والقيم والثروة، في جعل هذا المستقبل أقل قتامة، بل إن هذه المساهمة ربما تكون عماد دوره المستقبلي. في هذا المجال أيضاً، يبدو اللبنانيون، إذا ما اتعظوا، على ما نرجو ولا يبدو، من حروب أهلية تتوجه إليها معظم المجتمعات الأخرى اليوم، أفضل استعداداً، بعكس ما قد نحسب الآن، للمستقبل ولإمكانات الإفادة منه، في حين أن مزيداً من الوعي والاستعداد وحدهما قد يسمحان بتفادي أسوأ ما فيه. وما استشراف المستقبل سوى اعتراض، في الأساس، على حتميته وعلى صدق وعوده.