samedi 5 janvier 2008

كلمات! كلمات! كلمات

ملحق النهار الثقافي، أيلول 2006
دقة الكلمات التي تقيّد العسف



من الواضح أن ثمة هوساً فعلياً لدينا، كما لدى بوش بإرهابه والإسلامو ـ فاشية، بإلباس الواقع لبوس الكلمات، على حساب الخراب الشامل وعلى حساب قدرة الكلمة على الدلالة، غير أن ذلك يجعل كل خطابٍ شيفرةً سريةً لا تخاطب إلا جماعة تتقاسم "الكود" وأسلوب فك الرموز. وإن كان هذا الأمر يسمح للجماعة ببناء اختلافها عن الأخريات، إلا أنه في شيوعه الحالي يمنع اللغة من تأسيس فضاء سياسي مشترك بين الجميع. كما أن فشو تمويه الواقع باللغة يمنع قيام أي دعوة للتغيير على أسسٍ واضحة، ويترك الناس أمام خيار تكذيب الجميع أو عبادة الأشخاص، أو الإثنين معاً على ما يشهد الواقع اللبناني.

هذا يستوجب التدقيق في استخدام بعض المفردات المرشح يعضها لأن يصير، بأقرب مما نتصور ربما، "الرمز" الجديد للتعارف وللتقاتل بين الجماعات اللبنانية.

الكرامة الوطنية

لا يبدو مفهوم الكرامة مفهوماً سياسياً بالطبع، فهو ليس أكثر من رداءٍ يخلعه السياسيون على قبح سياساتهم وعلى المصالح المخبأة وراءها. غير أن كل استعمال من هذا النوع لهذه المفاهيم إنما يفرغها من محتواها القانوني، ويقوّض بالتالي الأسس التي تواضع عليها الناس مرجعاً لحلّ النزاعات بطريقة غير عنفية. ومن المعلوم بالطبع أن تقويض القانون هو أيضاً تقويض السياسة، لأن القانون هو اللغة الأساسية التي يمكن للمطالب و التسويات السياسية أن تتجسّد فيها. والعمه في هذا الغيّ لا يبعث تالياً سوى على الوثوق بدنوّ النوائب.

هكذا مثلاً، حين يبتكر أحدهم مفهوم الكرامة الوطنية، غير الموجود في القانون الدولي العام، فإنه ينقل الكرامة إلى الوطن، وضمناً إلى الدولة، ومن ثمّ إلى أصحاب النظام فيها، وهو بذلك ينزعها عن المواطن و يمهد لسحقها لديه في الوقت عينه الذي يخرجها عن دائرة القانون. ذلك أن الكرامة، في القانون، مفهوم محصور بالكائن البشري، ومؤخراً تجري محاولات لبلورة مفهوم كرامة الجنس البشري بكامله، انطلاقاً من كرامة الفرد، وذلك بهدف منع ممارسات كالاستنساخ، دون أن تصبح بعد متماسكةً.

على الصعيد السياسي إذن، كان الأولى اشتقاق كرامة الوطن من كرامة المواطن، وليس فرض العكس، أي أن تكون كرامة الوطن في بقاء المواطن في ظل عيشٍ ومعاملةٍ كريمين وفي حريةٍ وأمنٍ في نفسه وأهله وماله ورأيه، وهو ما قلّما عرفه مواطن في أوطاننا الكريمة.

إسترهان لبنان

تتوالى الانتقادات، من أطراف داخلية وخارجية، لحزب الله لاسترهانه لبنان في حربه مع إسرائيل، أي أخذه له رهناً ورهينة. وكان لسان العرب ذكر عن ابن سيده، قال: "الرَّهْنُ ما وُضِعَ عند الإِنسان مـما ينوب مناب ما أُخذ منه".

غير أن مثل هذا الوصف كان يليق بالطبع بالنظام السوري، إن صدق في زعمه أنه يبتغي استعادة الجولان، لا اتخاذ لبنان منه بدلا. أما أن يصدق في حزب الله فموضع شك، لأن الجزء لا يستطيع استرهان الكل، ولا يسع فئة أن تسترهن شعبها دون أن تسترقّ نفسها. كما أن مثل هذا القول مردود لأن ليس من أمر أُخِذ من يد الحزب حتى ينوب لبنان منابه. لا يسع مثل هذا القول أن يكون في محله إذاً إلا إن يقل المرء أن هدف حزب الله لا يزال استرجاع وحدة المسلمين وفرضها دولة واحدة لأمة واحدة، غير أن لا شيء في خطاب الحزب يذهب مثل هذا المذهب.

إذن ليس لبنان رهينة، منذ الانسحابين السوري والإسرائيلي، ولا الحزب يهدد بتقويضه أو يتخذه درعاً (بما أن الخراب واقع أساساً بمنطقة الحزب نفسه) إن لم تنفذ مطالبه في مزارع شبعا واسترجاع الأسرى! بل الحزب يعلن دوماً وصادقاً السعي إلى تجنيبه التقويض والوقوف في وجه ضربات العدو.

وليست المصادرة بأدق تعبيراً، خصوصاً أننا لم نجد لها أثراً في معنى الاستملاك لعينٍ ما، إلا إن يكن أصلها بمعنى الرجوع إلى الأصل الذي صدر العين عنه، أو نقله إلى موقع الصدر والصدارة، وفي المعنيين هذين تقدير فائق للدولة ولموقعها لا نفترض أن الفردانية الليبرالية الصميمة في النظرة اللبنانية للدولة تحتمله. كما أن الاقتطاع أيضاً لفظة غير وافية بالمقصود، إذ أن اقتطاع جزء من الأرض وتسويره لا يشمل القدرة على استجرار الأذى على ما سواه. أما تعبير "الطائفة الإثنية" فيضيف إلى تعقيد وضع الأولى غياب دقة الثانية، إن لم نقل باستحالة العثور عليها في الواقع، ناهيك عن تدافع التعبير وتنافي اللفظتين، إلا إن يكن صاحبه يقصد اختصار "الإثني عشرية"!

تسوير جزء من الأرض واقتطاعه، والقدرة على القتال انطلاقاً منه، على أن يشمل الضرر عن القتال ما ليس في الأرض المقتطعة ولا في أرض العدو، والتعامل مع هذه الأضرار على أنها "أضرار جانبية"، وفي المقابل فإن المطالب التي يرفعها الحزب في وجه الجميع لا تقتصر على استرجاع الأرض والأسرى من العدو، بل على إثبات العدو لنيته في الاستسلام النهائي الذي لا قائمة له بعدها، بما أن طبيعته في الجوهر عدوانية وهذه العدوانية تبرر كل ما سبق من استعدادات: في كل هذا لا يبدو أن الحزب يأخذ لبنان رهينة، بل أنه يتعامل معه فقط كما تتعامل معه إيران أو أميركا، أي على أنه ساحة لم يستطع اقتطاعها كاملة، فاقتطع ما أمكنه، وترك الباقي لوظيفة الساحة. المشكلة ليست في استرهان الحزب لبنان، بل كونه أول طرف لبناني في تاريخ لبنان الحديث يسعى إلى أن يكون لاعباً ـ فعلياً ـ في ـ لبنان ـ الساحة، خلافاً لكل أطراف الحرب اللبنانية الذين كانوا بيادق هنا أو هناك واستفادوا من الساحة دون أن يربطوا وجودهم ببقائها على حالها، إذ أن لبنان المزرعة كان ولا يزال بيئة مؤاتية أيضاً لهم. لكن حزب الله ربط وجوده بقيام الساحة وبقيامه لاعباً "اقليمياً" فيها، في حين بدا أن المال "النظيف" والعقيدة الطاهرة منعاه من استحلاب الدولة، وهو ما يزال مصراً على تجنبه في ما يبدو. تعففاً؟ ربما. لكن ذلك وحده يسمح له بالاستمرار في تسوير "منطقته" ومنع أبنائها من مخالطة الآخرين، في حين أن لعبة الدولة، بما في ذلك المحاصصة، دخول في سراديب لا يسعها إلا أن ترسخ علاقات (وبعضها علاقات فساد بالطبع) تقفز فوق هذا السور.

في هذا المعنى، وحيث أن الساحة هي الباحة، بحسب القاموس المحيط، فإن المشكلة مع حزب الله هي في "استباحة" الوطن اللبناني (في المعنى الدقيق، ولا حكم قيمة فيه، أي اتخاذه باحة)، لا في استرهانه. ونزع ذرائع حزب الله في الاحتفاظ بالسلاح يغدو بالتالي مطلباً هزلياً لأن الذريعة الأولى له، والأصدق والأعمق (فالذريعة في لسان العرب هي الوسيلة، وليست الكذبة)، هي هذه "الاستباحة" والتي لن تعدم مسميات أخرى. ولما كانت "الاستباحة" تحمل شحنة سلبية فإن المفضل ربما نحت تعبير "الإستساحة" (على وزن الإستساغة!) أو استعمال تعبير آخر مثل "إقليمية" الحزب، ما دام كل طرف في هذا الإقليم السعيد يتعامل مع لبنان على أنه ساحة ويرى في نفسه قوة عظمى إقليمية!

إن نزع ذرائع حزب الله في هذا المضمار، مثل نزع سلاحه، لا يمكن لأحد أن يقوم به، سوى الحزب نفسه، وطوعاً ، حين يقتنع الحزب نفسه أن المسميات لا تنضب، ولكن قدرة الجمهور على البقاء خلف السور، وإن يكن حائط برلين أو سور الإتحاد السوفياتي الحديدي، إلى نضوب قريب لا تجدي معه مترادفات اللغة. وحين يدرك، بمساعدة اللبنانيين واحتضانهم له، أنه، مهما كبر، يظل يستظل، وأهله وجمهوره، سماء هذا الوطن ويوارى في ثراه.

اختطاف المجلس النيابي

في المقابل، تبدو مفردة "الاختطاف" المرشحة الأوفر حظاً للرد على أصحاب "الاسترهان"، وتلوح منذورةً لمستقبل باهر. ويعتبر أهلها أن الأغلبية الحالية اختطفت لبنان مستغلة الدموع الشعبية على اغتيال الحريري، وتسعى إلى نقله من موقع إلى موقع آخر. وهكذا يضيف القائلون بالاختطاف هزلية لبنان ـ قطعة الأثاث المتنقلة بين الحجرات، إلى إخراجهم الشعب من سوية اختيار من يريد إلى فرادة الابتزاز العاطفي سلاحاً شهرته قوى 14 آذار على قلوب اللبنانيين المرهفة!

ينكر هؤلاء على الغالبية النيابية صفتها هذه، تارةً بابتكار مصطلح "الأكثرية المؤقتة" (وكل أكثرية في نظام ديمقراطي مؤقتة وينبغي أن تكون كذلك) وأخرى بصك تعبير "الأكثرية الحسابية" أو "الوهمية" (وكل أكثرية في نظام ديمقراطي يقوم على احتساب أصوات الناخبين حسابية بالطبع، ووهمية لأنها لا تقوم على تصويت متواصل بل على تفويض يمنح في لحظة معينة ويفترض، أو يتوهم، القانون استمراره حتى التصويت المقبل)، وطوراً باستمرار احتساب أصوات الناخبين من المسيحيين دون المسلمين (على ما درج عليه صاحب الأغلبية المسيحية، مخالفاً الدستور الذي لا يمنح أوزاناً مختلفة لتصويت الناخب، ولا يفصل بين الناخبين على مثل هذا الأساس)، وطوراً برأي أحد خريجي كليات الحقوق أن تغيير التحالفات الانتخابية يبطل فوز النائب! وأخيراً بافتراض أن لا شرعية للغالبية لأن الناخب كان مكرهاً تحت سلاح الابتزاز العاطفي! ولا رأي لحاقن...ضحكه.

يغفل هؤلاء في محاولاتهم المختلفة أن مبدأ الانتخابات في حد ذاته يقوم على تحمل الناخب، بنفسه، لمسؤولية اختيار ممثليه في لحظة حاسمة لمدة ولاية كاملة. أي أن كل انتخابات تعبر بالضرورة عن مزاج آني، وليس في هذا ما يشينها في حد ذاته، وإن كانت قلة الوعي لدى الشعب، كما تبدت في الانتخابات المشكو منها، تثير الأسف لحال الشعب ولحال طبقته السياسية بأكملها تقريباً. وهذا يضاعف تلقائياً أهمية احترام قواعد الدستور وحقوق الإنسان لأنها وحدها تشكل الثقل الموازي الذي يحد من كوارث أهواء الجماعات المتلاحمة.

إقامة القوة على مبعدة والإقامة في الأمان

هكذا، تاريخياً، فقط بعدما رسخت قواعد القانون العام أصبحت العودة ممكنة إلى القول بسيادة الشعب الذي لا سلطة إلا منه. ذلك أن قواعد القانون العام في هذا المجال إنما تقيّد عسف الجماعة وتقولب طرقها في التعبير والفعل، وتقيم القوة المطلقة على مبعدة، مقيمةً الأفراد في الأمان، حين تُحتَرَم بالطبع. والبعض ربما يسوؤهم الأمر، إلا أن الرد المفحم على عشاق التهاب القلوب بالحماسة، وانصهار الجماهير الذي لا يحتاج إلى قنوات للتعبير عنه، يأتي من حنة أرندت التي رأت بنفاذ بصيرة إن الأنظمة الديموقراطية تقوم على احترام دساتيرها أكثر من احترام قاعدة الأكثرية، في حين أن الجماهير، المنصهرة دون تمايز والمنصبّة سيلاً موحداً، هي عماد الأنظمة التوتاليتارية وركيزتها.

الدساتير، وإن صاغها أفراد في لحظة ما، ليست من وضعهم. إنها، والقوانين، الاتفاقات المعقودة حين تضع الحرب الأهلية، الباردة أو الساخنة، أوزارها. وهي تالياً ليست في معزل عن الشعب أو عن تاريخه، لكنها لا تأخذ بمنطق الهرجات الشعبية، بل تشكل غالباً مناراته وشطآن نجاته. وهذا يضاعف من خطورة تجويف مضامينها وانتهاك لغتها وإفراغ كلماتها من مضامينها الدقيقة، لأن ذلك يعني النكوص عن تقييد القوة الهوجاء وإعادتها، متعسفةً بطبيعة الحال، إلى عقر الدار لتعيث فيها تخريباً وإرهاباً.

Aucun commentaire: