samedi 5 janvier 2008

خفة المدلل المسكرة

صفحة النهار الثقافية، أيلول 2006
صبري المدلل: للخفة قوة الخمر




غيّب الموت، عن عمرٍ دانى التسعين، شيخ مؤذني حلب ومنشديها ورئيس مدرستها الموسيقية، الأخير ربما، صبري المدلل. في ألقاب المدلل عبق شرق عتيق، باهر ومغوٍ، كما في غنائه، وعبق مدينة لا زالت في بلاد الشام اسماً خلاباً وأسطورياً، حلب قصدنا...

من المؤسف أننا لم نكد نسمع المدلل إلا عجوزاً، لندرة التسجيلات القديمة، وهو في ذلك يستفز ولع الهواة كما يطيل الغموض والتشوق إلى التحقق من طبيعة ذلك الصوت في صباه، فصوت المدلل كما سمعناه، على جودة أدائه وتمكنه، كان أشبه بنثر الأسطورة منه بشعرها الملحمي الأصلي، دون أن يخلو من الوحدات الأسطورية ومن ضروبها.

وفي الضروب أيضاً كان المدلل مبرزاً، على جاري عادة المدرسة الحلبية، أو الشامية عموماً في الموسيقى والغناء. فمن السمات الرئيسية لهذه المدرسة احترام الأصول والإيقاعات، والتصرف المحدود بحدود هيكلية الجملة اللحنية، على خلاف ما كانت عليه المدرسة المصرية التقليدية، ما قبل عبد الوهاب وأم كلثوم، ويراجع في هذا المجال نقد كامل الخلعي لجهل معاصريه بالإيقاع، والنكتة التي يذكرها الباحث فرديريك لاغرانج عن لوم عبد الحي حلمي، خال صالح عبد الحي، لضارب الإيقاع في تخته قائلاً له أنه، أي حلمي، ليس جندياً في جيش الدموم والتكوك (جموع دم وتك). ويجدر التذكير هنا بأن الموشحات دخلت مصر من بلاد الشام وليس من الأندلس، مع "سفينة المُلْك" للشيخ شهاب، كما أن أبو خليل القباني أسس لنهضتها المسرحية الغنائية لاحقاً.

وربما يعود الاختلاف بين المدرستين، المصرية (القاهرية) والحلبية، إلى قرب حلب من الآستانة التي كانت لفترة طويلة مركز الأرستقراطية والتجميع والصياغة الموسيقية للشرق كله، كما إلى غلبة أهل التواشيح الدينية والطرق الصوفية على منشدي حلب في حين أن كثيراً من المغنين المصريين كانوا من "خارج الإكليروس" كعبد الحي حلمي المشار إليه، أما من كان منهم منشداً في الأصل فيغلب عليه احترام إيقاع التواشيح والأذكار، إلا في حال تقطيعها على طريقة السؤال والجواب، وفي هذا فإن تسجيل الشيخ المصري إبراهيم الفران لقدّ "هيمتني تيمتني" الحلبي (ويقال أن واضعه هو الشيخ أمين الجندي، الحمصي!) واضح الدلالة على تقطيع القد بحيث يستعرض الشيخ في الجواب على بطانته التي تمشي بإيقاعٍ مضبوط. ومن المعلوم أن الإيقاع أمر حيوي، بيولوجياً، في السماع والنشوة الصوفيين.

وربما يعزى ذلك أيضاً إلى احترام أكبر للموشحات، التي صيغ أغلبها في بلاد الشام، وإلى استمرار الدراية بأصولها كما بالأبعاد النغمية الدقيقة، التي تراجع العمل بها في مصر سريعاً بسبب الرغبة في الضبط والتحديث والتقنية الجديدة التي غزت النهضة المصرية كأول نهضة في الشرق الأدنى، كما إلى الطبيعة الشعبية للقدود التي تفرض معرفة بالجملة اللحنية واحتراماً لإيقاعيتها.

ما يؤسف له أيضاً أن المدلل غاب قبل أن يستفيد منه الدارسون في بحث الإمكانية النظرية لتطوير الموسيقى العربية من داخلها، ذلك أنه، وهو تلميذ عمر البطش وبكري الكردي (الذي لحن له طقطوقة "ابعت لي جواب" الذائعة الصيت)، أضاف أيضاً تواشيح ومدائح من ألحانه كما فعلا. ويلاحظ أنهم، وعلى غرار المدرسة الحلبية عموماً، لم يحدثوا قطيعة عميقة في نسيج بنية الجملة الموسيقية العربية أو الأغنية فيها، بل لحنوا وأضافوا كما كان يفعل السلف من داخل الإطار المسبق الذي نشؤوا فيه. وإن كان التأثر بالغرب ليس عاراً (فسيد درويش الذي يتغنى به الجميع كان شديد التأثر بالموسيقى الغربية، كلفاً بها ومتشوقاً لدراستها في الوقت عينه الذي كان يلحن فيه تواشيح ومدائح رائعة مثل "ميلاد المصطفى" للشيخ علي محمود) والامتناع عنه ليس فخاراً، فإن العكس أيضاً صحيح، غير أن المطلوب هو تقييم جدي وعميق لقدرة هذه الموسيقى، التي يفترضها البعض، على التطور من دون عوامل خارجية، وهو ما نشكك به، بدليل أن المدرسة الحلبية نفسها لم تقدم إضافة فعلية على إرثها، ولم تقوَ على الاستمرار فيه، وأسلوب غناء صباح فخري نفسه لمقطوعات شامية ومصرية، وتنظيم فرقته وصولاً إلى تقاسيم العازفين، تدل على ذلك.

صبري المدلل بقي يهز قلوب سامعيه طيلة حياته، خشوعاً متى شاء وطرباً، ومع غيابه يأفل أحد آخر الأسباب التي كانت تحمل على القول بأن الموسيقى العربية لم تمت، لأنها كانت لا تزال تبتدع في كل مرةٍ الطرب والخفة في النفس وتلعب بالرؤوس، كأن الخفة فيها قوة الخمر، ولا خمر، ولأنها معه كانت قلب البهجة و"مقام المسرة" (عنوان فيلم عن المدلل)، لا هامشهما المشين. ولأنه أخيراً كان يقنعك بأنه فتيّ، مثلها، ومثل من يستمتع بها معه وتشغف قلبه. مع غياب المدلل، تشعر أنك ازددت شيباً، وأن لا طربوش لتخفي تحته اشتعال رأسك، وأن منتديات الموسيقى العربية على الانترنت ما عادت تجمع سوى محترفي الحنين، الذين يضمون شغفهم بالفصاحة إلى المنمنمات الموسيقية المشغولة بالدماثة وبالصبر العتيق الذي أفل مع المدلل، ويحلمون بزمان الوصل... في حلب.

Aucun commentaire: