jeudi 3 janvier 2008

الآنسة أم كلثوم

نشرت في ملحق النهار الثقافي، 18 شباط 2007، واستعادتها أخبار الأدب المصرية في زاوية "جسر الحنين" في 4 آذار 2007
كيف نقرأ "الآنسة أم كلثوم" اليوم؟
فادي العبد الله



ما بين "التعبير" و "التطريب" و "الغناء الطربيّ" و "الغناء" في صورة عامة، نلاحظ اختلاطاً في المفاهيم و قلقاً في المنظور الذي يسعنا منه تقييم حال الغناء و الموسيقى في أيامنا هذه. من أجل التمييز بين المعايير المختلفة لا بد من وضعها في سياقها الفني و التاريخي واستقراء ولاداتها و تشكّلاتها الأول، و هذا ما تسعى إليه هذه المقالة، متخذةً لها بؤرةً بحثيةً من فترة بدايات أم كلثوم، التي نحيي في هذه الأيام الذكرى الثانية والثلاثين لغيابها (في 3 شباط 1975). نهدف إذا إلى التدقيق في دورها البارز، والملتبس و المنسي، في صياغة وبلورة هذه العوامل على الوجه الذي نعرفه اليوم. في هذا المعنى فإن مساءلة وضع الموسيقى اليوم لا تنفصل عن مساءلة نظرتنا إليها و تاريخ تشكّل هذه النظرة، لذا فإن المساءلة تبدأ لا مناص من التدقيق في طبيعة قراءتنا لمن هي المطربة الأبرز في موسيقانا الغنائية: كيف نستمع أو، للدقة، نقرأ اليوم أم كلثوم؟

ثمة من يقرأ اليوم، كما بالأمس، أم كلثوم اكتمالاً ما بعده كمال، وطرباً لا يجاوزه آخر، وابتداعاً لم يسبقه أحد إلى مناهله. هكذا تعلو أم كلثوم عن النقد و عن التحليل معاً، فلا يطالها سوى التسبيح المرفوع إليها. و هكذا أيضاً تخلد أم كلثوم أيقونةً بلا وظيفة، لا نستعيدها إلا لماماً وفي صورها الأكثر شيوعاً و الأقل تطلباً لأي جهد منا، فتخلد صورةً وتمحى شيئاً فشيئاُ صوتاً ومشروعاً وجهداً وتاريخاً معاشاً لا أسطورياً. اللهم إلا أن تكون وظيفتها تحديداً التنزه عن كل عيب و شائبة. وإذ ذاك نفهم تشابه مفارقة الخلود والامحاء المشار إليها مع مفارقات العروبة و الوطنية و القومية و الإسلامية حيث أيضاً نرى ماضياً تُمَجَّد صورته و يمنع كل بحث في تفهم حقيقته و جهوده ومعاشه. مثل هذه القراءة، التي يصمها حازم صاغية عن حقٍ بالنرجسية، تنطلق من المماهاة بين صورة أم كلثوم و صورة الذات عن نفسها (سواء كانت هذه الذات مصرية أم عروبية أم مزيجاً من الإثنين)، فتتنزه أم كلثوم عن كل عيب كتنزه العروبة من كل شائبة أو وضر، و تزهو مصر بصوتها كالنتاج الأتم و الأكمل للمصرية الصميمة…الخ.

في مقابل التهويم النرجسي هذا يقدم حازم صاغية في "الهوى دون أهله" قراءة تسعى إلى نقض الأولى وفضحها، في "النص" الكلثومي ذاته، فيبحث صاغية فيه عن عناصر التطابق، العظامي والجنوني، بين المطربة والذات العربية، ساعياً من وراء ذلك إلى إثبات العلاقة بين الطرب عموماً وبين الصوفية، بين أم كلثوم والناصرية، وبين الكلثومية وتريّف الحياة العربية وانطواء عهد المدينة الكوزموبوليتية. في سبيل ذلك، يعتمد صاغية اعتماداً هائلاً على مضمون "بعض" النصوص التي أدتها أم كلثوم ( فيسقط مثلاً كل الأغاني الوطنية وكل أغاني المناسبات). ولكي يجيز لنفسه مثل هذا الاعتماد فإنه يفترض تقدم الكلام على اللحن في فن الطرب، و تماهي المطرب مع الكلمة، ثم تماهي المستمع في وحدةٍ حلولية مع المطرب، حيث أن الطرب "التكراري" بحسبه لا يترك للمستمع مسافة و استقلالاً عن الغناء تسمح له بالإعجاب الواعي والمقدّر، على خلاف ما يفترضه في الغناء الغربي. في مثل هذا الإطار يغدو من السهل إذن القول بغياب الدلالات وشيوع الكلام الإلهي واللا تاريخي في النص الكلثومي، و غياب السيرة الحقيقية لها، بالمقارنة مع بياف وبيلي هالليداي، و نصوصهما.

لكن أليس ما يفعله صاغية هو عين ما ينتقده؟ أي المماهاة بين أم كلثوم و صورة معينة سابقة التشكل عن الذات، بحيث لا يتم في ما بعد سوى اسقاط نقد الصورة في حالته (أو لا نقدها في حالة النرجسيين) على أم كلثوم نفسها.

هكذا يرى اكتمال الكلثومية في العهد الناصري في حين أنه هو نفسه يرصد تفكك النموذج الكلثومي في الفترة نفسها، و يحسب أن نظام توحيد الأذواق الناصري أيضاً ألغى إمكانية منافسة أم كلثوم، في حين أن ذلك قد تم في الواقع قبل عشرين عاماً على الأقل، منذ بدء الحفلات الشهرية في 1935 وحتى قبل ذلك بالنسبة الى "السمّيعة". و يستشهد بمقطع من "أهل الهوى" دليلاً على الليل الكلثومي، الليل الزمني و الدنيوي في مقابل الدين الصارم في النهار، ليل غياب الحبيب و حضور الحياة الحسية في مقابل خواء اللقاء معه، في حين أن المقطع التالي من الأغنية عينها ينقض مقولته. هكذا أيضاً يجري مقارنة مع مغنيات غربيات من خارج السياق الاجتماعي والفني المختلف. أما الإسقاط، غير المشروع، الأبرز فهو أن يرى في نجاح أم كلثوم دليلاً على انتصار الريف على المدينة الكوزموبوليتية، وهو ما يراه في المشروع الناصري و في الحياة العربية عموماً، في حين أن أم كلثوم باتت منذ منتصف الأربعينات على الأقل وحيدةً معزولةً في مشروعها، في ظلّ نهم عبد الوهاب و فريد الأطرش، وحتى السنباطي في غير كلثومياته، ثم عبد الحليم و ملحنيه لاحقاً ، للسامبا و الرومبا و الايقاعات و الآلات الغربية، وصولاً إلى أيامنا التي تضع أم كلثوم في خانة الذكريات المجيدة في حين تستمع إلى آخر المنقولات عن الفلامنكو و الآر أن بي معرّبةً! فلم لا يرى في ذلك انتصاراً لعبد الوهاب القاهري و للمدينة على الريف الذي لم تبقَ منه سوى امرأة وحيدة مهما بلغت قوتها في ساحة الغناء؟

والحق أننا لا نجادل في مدى دقة توصيف صاغية للسياق التاريخي العربي السياسي والاجتماعي في القرن العشرين، لكننا نرى أن قراءته ذلك في "النص" الكلثومي قراءة مغلوطة و مفخخة من الداخل بالعديد من التناقضات كما رأينا. ففيما عدا نقد كتاب سيرة أم كلثوم، و هم أغلبهم بلا شك مداحون أكثر منهم كتاباً مدققين، لا يسمح "الهوى دون أهله" بنقد الفن الكلثومي نفسه. نظن أن أساس التناقض في كتاب صاغية هو في اتخاذ "النص" دليلاً، و في قراءة عمل أم كلثوم انطلاقاً منه، بمعزل عن اللحن و عن سائر العوامل المتداخلة في انتاج الأغنية الكلثومية. في هذا المنظور، لا سيما افتراض المماهاة بين المغني و النص، و افتراض غياب المسافة الواعية بين المستمع وغناء الطرب "التكراري"، نلمح فكرة عن الطرب هي فكرتنا اليوم عنه، أي الطرب ما بعد أم كلثوم وعبد الوهاب، وهي فكرة تخلط أيضاً ما بين الطرب كنوع من أنواع الغناء وبين الغناء ككلّ كما ورثنا نموذجه (الذي بات اليوم شبه أوحد) من الفترة الحليمية و النجاتية والفيروزية. مثل هذا الاختلاط في النظرة لا بد أن يخلق اشكالاتٍ كثيرة في الرؤية إلى أم كلثوم و في محاولة قراءة جهدها و مشروعها، لا سيما جهد البدايات الذي لا يجوز إسقاط رؤية اليوم عليه دونما تدقيق، بل ينبغي أن نحاول وضعه في سياقه الأصلي. لذا نجد أن لا مناص من التفكر في مفهوم الطرب و أحوال أهل الغناء ما قبل أم كلثوم، تمهيداً لمحاولة تحليل بعض عناصر مشروعها و بداياته.

الطرب، و أهله

الطرب في لسان العرب و في الصحاح وفي مقاييس اللغة خفة تعتري المرء من سرور أو حزن. أما الطرب في الموسيقى العربية فهو في الحقيقة الخفة نفسها. خفة العازف أو المغني وخفة المستمع. لذا كان التطريب لغةً هو مدّ الصوت وتزيينه و كان الطرب بالتالي الإعجاب بهذا التزيين. يخطئ كثيراً من يظن أن الطرب "التكراري" يعمل وفق نفس نظام الزار أو الهارد روك، أو لطم عاشوراء، أي التكرار الإيقاعي العنيف الذي يسري في نفس المشارك فيه حتى الذهول و الغيبوبة عن النفس. مثل هذا الافتراض لا يشبه في شيء حقيقة الطرب. ففي نماذج الموشحات، وهي من أبدع إنجازات الموسيقى و أكثرها تطريباً، نجد إيقاعات بالغة الطول بحيث يعجز عن فهمها من لم يتخصص بها، مثل هذا الطول كفيل بأن يخلق تفاوتاً داخلياً في الإيقاع بحيث لا يسري، ظاهرياً، على الأقل، في شكل رتيبٍ متكرر، وهذا الطول يمنع التأثير البيولوجي لتكرار الإيقاع العنيف، ثم ماذا نقول عن طرب الموال حيث لا إيقاع مصاحباً أبداً؟ كما يخطئ من يحسب أن الطرب ينبع من تماهي المطرب مع نصه و من تماهي المستمع مع الإثنين. فنصوص الموشحات تكاد تكون أحياناً مستغلقة الفهم لغةً، و نصوص الأدوار القديمة بالغة السطحية إلى حد أن التماهي معها لا يغني المرء شيئاً ولا طرباً. ثم إن من المعروف المشهور أن من الآلات من هو كالعود سلطان الطرب، و الطرب للعازفين كثيراً ما يفوق الطرب للمغنين. بل إن سطوة اللغة في العربية هي تحديداً أحد أسباب تحريم الموسيقى و الغناء، و ضعف الموسيقى البحتة طويلاً و أحد أسباب غياب القصائد الكبرى عن الغناء، ذلك أن الموسيقى و اللحن بالغا القوة إلى حد أن كل كلام سيكون لهما تابعاً و مسحوقاً أمام مضاء الجملة اللحنية و تقطيعاتها، و كثيرة هي نماذج تقطيع الكلمة و تكرار أحرف أو مقاطع منها في الغناء القديم.

الطرب هو خفة اللحظة لا ثقل كثافة الفكرة. الطرب هو إعجاب المستمع بقدرة العازف أو المغني على تطويع آلته، وعلى قدرتهما على اللعب مع الإيقاع والزمن والتحايل عليه والإلتفاف على صرامته، وعلى قدرتهما على مفاجأته في الإنعطافات المقامية (التي تحدسها الأذن حتى غير المتخصصة) وما تستتبعه من اختلاف مفاجئ في "نكهة" الصوت أو النوتة، و هو أخيراً الإعجاب بالقدرة على الزخرفة و التنويع (لذا كان التكرار مطلوباً في البداية لترسيخ الهيكل الأساسي الذي سيتم التنويع عليه). في مطلق الأحوال، الطرب يتطلب انتباهاً عالياً، لا "ذوباناً و غياباً"، و استقلالية ناقدة للمستمع، و هو بهذا يتنافى كلياً مع التماهي مع المغني، إذ يتطلب من المغني أن يدهش سامعه في اللحظة، ومن هنا ارتباطه بالمسرح، لا أن يهدهده. الطرب دعوة مستمرة من المؤدي ومن المستمع ـ الذي ليس أبداً متلقياً سلبياً ـ إلى لعب ممتد إلى ما لا نهاية كالخطوط الهندسية المجردة للزخرفات العربية.

ذلك لا يعني أن التعبير لم يدخل من بعد كقيمة في الموسيقى العربية لكنه دخل كقيمة مختلفة عن الطرب، قد تضاف إليه أحياناً (في أدوار سيد درويش مثلاً) و قد تستقل عنه (في الكثير من أعمال القصبجي مثلاً)، إلا أنها ليست جزءً من عناصره الأصلية. ومن الملاحظ في هذا الإطار أن المشايخ من أهل الغناء، بحكم نشأتهم في تجويد القرآن وتصوير معانيه، كما حلم بذلك مثلاً الشيخ سيد درويش، أكثر اهتماماً بالكلمة و تعبيرها من المطربين ممن لم يتمشيخوا، و هذا بادٍ مثلاً بالمقارنة بين ألحان المشايخ، وألحان عبده الحمولي ومحمد عثمان وداود حسني مثلاً. كما أن هذا الإختلاف يتضاعف في حالة المطربات ما قبل أم كلثوم، العوالم، اللواتي كونّ ذوقاً خاصاً يعتمد على خفة الطقطوقة وإيحاءاتها، وابتعدن غالباً، لضعف ثقافتهن اللغوية و الموسيقية، عن الأدوار والموشحات، باستثناء قلائل مثل منيرة المهدية التي سجلت بضعة أدوار، و التي يروى أنها كانت تغني الطقطوقة فحسب في "الحريم"، و تغني الطقطوقة و الدور أمام الرجال. في هذا السياق شكل سيد درويش جسر انتقال فعلي من قرن الحمولي و عثمان إلى القرن العشرين. ليس هنا بالطبع المجال لتفصيل الجوانب الثرية في عمل وثورة سيد درويش، لكن تنبغي الإشارة بإيجاز إلى ثورته في مجالي الأغنية الوطنية و الأغنية المسرحية، في حين أن المسرح الغنائي قبله كان أغنيات منفصلة تقريباً تغنى أثناء عرض المسرحية. وفي المجالين كان التركيز على الكلمة و تعبيرها أساسياً، أياً يكن القالب المعتمد، و كذلك التعبير عن جو المشهد و طبيعة الشخصيات و انتماءاتهم و لهجاتهم. بالطبع أغلب كلمات أغاني سيد درويش المرتبطة بهذا اللهجات غير مفهومة للمستمع العادي اليوم، كما أن الجانب الإجتماعي من مشروعه انتهى تماماً مع موته، غير أن رشاقة الجملة التي فرضها و قيامها بذاتها منذ تلحينها و بمعزل عن الصوت الفردي ـ وهذا أيضاً أثر من ضرورات المسرح ـ وتخففها من ضرورة اللجوء إلى الزخرفة لملئها، كل ذلك عوامل أصبحت مؤسسة لطريقة التلحين مذذاك، مثلها مثل الاستدخال الواسع للتعبير، والرغبة في التفاعل مع الموسيقى الغربية وليس تجاهلها. في هذا الإطار الذي رسمناه سريعاً يمكن فهم الخصوصية الكلثومية التي سمحت لها بفرض مشروعٍ مغاير عن السابق على الغناء، منذ بدايتها و صعودها القاهري السريع.

الشيخة أم كلثوم

كنا فكرنا في "الآنسة أم كلثوم" عنواناً لهذا اللقاء، تدليلاً على رغبتنا في البحث في بدايات أم كلثوم. ثم لاحظنا أن عدداً من التسجيلات القديمة يبدأ بتعريف "الست أم كلثوم" التي لم تكن تبلغ الخامسة و العشرين. يروى أن سبب هذه الغرابة هو رغبة منيرة المهدية بالإنفراد بلقب "الأسطى" و بحرمان أم كلثوم منه مما جعل الشركة تسعى إلى لقبٍ آخر. ثم بالتنقيب أكثر عثرنا في كتاب نعمات فؤاد على لقبين أقدم بعد، يعودان للفترة التي كانت أم كلثوم فيها لا تزال في قريتها طماي الزهايرة، و هما بارزان خطياً في مراسلاتها: "مقرئة السيرة النبوية الشريفة"، و قبله "الشيخة أم كلثوم".

الشيخة أم كلثوم ابنة الشيخ ابرهيم البلتاجي، منشد المدائح النبوية، مغايرة إذن تكويناً ونشأةً عن العوالم، إذ أنها بدأت على غرار المشايخ، الذكور حصرياً، في حضن القراءة القرآنية و الغناء الفصيح الذكوري، قبل أن تتم مع أبو العلا محمد ثم صبري النجريدي والقصبجي تمرسها في الغناء الدنيوي من أدوار و طقاطيق وقصائد. فسبق وصول أم كلثوم إلى القاهرة حصولها على تنشئة و ثقافة لم تكن متاحة لمنافساتها من الإناث، مما جعلها تصبح، وبسرعة فائقة، الصوت الذي يحمل مشاريع الفنانين الطموحين في حين اكتفت الأخريات بتكرار ما يعرفونه، من الطقاطيق خصوصاً.

هكذا كانت الشيخة أم كلثوم تغني في البداية أغاني الذكور، الأصعب و الأكثر تطلباُ، وكان هذا متناسباً مع حضور عائلتها حولها و طبيعة جمهورها الرئيسي آنذاك، أي شبكة الوجهاء الريفيين و أذواقهم المتقشفة نسبة إلى "الخلاعة و الدلاعة" القاهرية (وهذا عنوان أغنية غنتها أم كلثوم و لاقت سخط مستمعيها). من المفيد بالطبع الإشارة إلى أن هؤلاء الوجهاء المحليين هم أنفسهم من سيشكل حلقة الإتصال التي ستؤمن لأم كلثوم علاقة بالأرستقراطية القاهرية، إلا أنها على خلاف عبد الوهاب القاهري ستتصل بالأرستقراطية ذات الجذور والإرتباطات الريفية القوية، لا سيما آل عبد الرازق، و من الطبيعي القول بأن هذه الجذور وهذه الإرتباطات تركت أثراً واضحاً على ذوق هذه الشريحة، التي شكلت دعامة رئيسية لحضور أم كلثوم في القاهرة، فتشكل هذا الذوق من رغبة في التحديث والتطوير تحدياً للمحتل، و على ترسيخ معطيات التراث المحلي تحدياً له أيضاً، و على تقشفٍ و تعففٍ و رصانةٍ بالغة الأهمية لدى أناس مثل علي عبد الرازق و إخوته. هذه العلاقات مع نمطٍ معين من الأرستقراطية شكلت عامل تطور أيضاً في ذوق أم كلثوم وحضورها في المسرح و في الحياة العامة، كمثل دور شوقي في تكوين عبد الوهاب. وهذا ما سمح لها بعد سنتين فقط من وصولها إلى القاهرة بأن تمتلك جمهورها و بلاطها، و حضوراً طاغياً في الحفلات الحية، ونوعاً من أناقةٍ محافظة لم تتخل عنها يوماً.

السنوات القاهرية الأولى

السؤال الذي تطرحه، بدقة، فيرجينيا دانيلسون في "صوت مصر" هو عن كيفية تقاطع ثقافة نخبة مع الغناء الريفي الكلثومي في بداياته. إلا أن ذلك يتوضح بالتأكيد متى انتبهنا إلى اشتراك الاثنين في ثقافة موسيقية دينية واحدة، من القرآن و المدائح. حتى بإزاء العامة، ورغم بعض المساومات و التنازلات التي قدمتها تحت ضغط شريحة من الجمهور، إلا أن أم كلثوم في النهاية نجحت أيضاً في استغلال هذه القاعدة الثقافية واللغوية المشتركة مع العامة أيضاً في سبيل إنجاح غناء القصائد، لا سيما الدينية. من بين هذه التسويات بالطبع غناء أم كلثوم لآخرين أكثر شهرة منها آنذاك، إلا أن ذلك سمح لها أيضاً، لمحاسن الصدف، بِلِقاء من سيصنعان لها وفي فترة قصيرة صاعقة الانقلاب الأخطر في غناءها و في أسس الغناء كما نعرفه اليوم، أي أحمد رامي الذي قابلها بعد أن غنت قصيدته من ألحان أبو العلا محمد "الصب تفضحه عيونه"، ومحمد القصبجي الذي قابلها بعد أن غنت، دون إذنه، لحنه لنعيمة المصرية "قال ايه حلف ما يكلمنيش".

في 1926 على ما يروى كان التغيير الكبير في غناء أم كلثوم بمصاحبة التخت بدل الإنشاد بمصاحبة عائلتها وهو ما كان تسبب لها في انتقادات كثيرة، وصاحب ذلك تغيير في المظهر و في العناية بالحضور على المسرح، وفي التفكير الموسيقي الذي بدأ محمد القصبجي يخطط له مستفيداً من رومنطيقية رامي وموضوعاته. في تلك الفترة أيضاً بدأت أم كلثوم تقوّي علاقتها بأصحاب النفوذ والمشاريع، وتفرض شروطها على الشركات المنتجة للأسطوانات وعلى متعهدي الحفلات وكانت أم كلثوم في تلك الفترة أيضاً حريصة على أن تنال أعلى الأجور عن أسطواناتها مقارنة بمنافساتها ومنافسيها، منيرة المهدية وفتحية أحمد وعبد الوهاب، معتبرة ذلك دليلاً على كونها الأولى بينهم ما دامت الأولى في الأجر.

والحق إن انتشار أم كلثوم و نجاح اسطواناتها يعود لأسباب متعددة، منها إنشاؤها لشبكة ريفية من المستمعين الذين غنت في مناسباتهم و أفراحهم والمتباهين بأسطوانة تخرج للفتاة التي غنت صغيرة في دارهم، ومنها الأسعار المخفضة التي بيعت بها أسطواناتها الأولى كي تتمكن من المنافسة، ومنها ابتداء انخفاض أسعار الغرامافونات في تلك الفترة بعد أن كانت حكراً فقط على الوجهاء. بالإضافة بالطبع إلى صوت أم كلثوم و جديدها المتناسب مع حاجة ذلك الزمن إلى جديدٍ يجمع ما يعتبر أصيلاً أو صميماً مع التطوير والانضباط الضروري في التحديث. وفي الواقع فإن انهيار المسرح في أواخر العشرينات، وتلازم ذلك مع الأزمة الاقتصادية، أنهى هيمنة منيرة المهدية على الغناء الأنثوي، بعد منافسة قاسيةٍ مع أم كلثوم، التي لم تعمل في المسرح الغنائي أبداً، أما فتحية أحمد فقد انحصرت في لونها مفتخرة بالتأثيرات الشامية والتركية في غناءها مما حد من قدرتها على الانتشار وإن حفظ لها معجبيها. هكذا باتت أم كلثوم بلا منازع تقريباً منذ مطلع الثلاثينات، وهي الفترة التي بطل فيها ظهور منافسات لأم كلثوم، سوى المرور الخاطف لأسمهان، وبدأ فيها ظهور ما يسميه كمال النجمي بأمهات كلثوم، أي المتشبهات بها أو بجزءٍ من تكوينها وسماتها، وتكرست أم كلثوم مذذاك مدرسةً في الغناء لا مناص لكل مطربة من بعدها أن تتهذب بذوقها و تتمرس بتقنياتها كي تعد من المطربات. شيئاً فشيئاً اختزلت أم كلثوم الطرب إلى مدرستها حتى تنبأ عبد الوهاب بانقراضه بعدها وهو ما لم يبخل الزمان بإثبات صحته.

أم كلثوم و أسس الغناء كما نعرفه اليوم

ثمة افتراض بالغ الشيوع والخطأ في القول بأن أبو العلا و سيد درويش ثم القصبجي خلصوا الغناء العربي من عجمته في حين أنهم في الواقع تفاعلوا مع زمنهم وتأثيراته (كالحضور الكبير للموسيقى الكلاسيكية و للأوبرا في القاهرة آنذاك) و قدموا جديداً نحسبه اليوم جوهراً. ليس من عودة إلى الخلف إذن، إلى نقاء مفترض، بل إضافة وتأسيس جديد. في هذا، يشكل عمل الشيخ أبو العلا محمد، أستاذ أم كلثوم، الخطوة الأولى في تطوير القصيدة. فرغم إلقائه كل بيت منفرداً، إلا أنه كان حريصاً على متانة البنيان العام و على وحدة المناخ الموسيقي في العمل، وكما أشرنا من قبل فإن تكوينه المشايخي يجعله يستدخل عنصر تصوير المعنى أو جوه في اللحن. وإن كان الدكتور صبري النجريدي، ملحن أم كلثوم الخاص الأول، مجرد مقلدٍ بارع في القصائد، إلا أن عمله في المونولوجات (الحب كان) و الطقاطيق (الفل و الياسمين و الورد) كان أيضاً أساسياً في شهرة أم كلثوم في البداية. هذه الخطوة الأولى في القصائد ستشكل الأساس الذي سيبني عليه السنباطي، الذي كان شغوفاً (كما يبدو من مقالٍ لخيري بشارة عنه) بمقارنة اللحن بالبنيان و العمارة، قصائده اللاحقة، بعد نحو عشرين عاماً على وفاة أبي العلا، في عودة نحو ضرب من الرصانة والإيقاعات العريضة والجمل الدرامية، بعدما كان عبد الوهاب قد انتقل بين 1928 و 1933 في سنواتٍ تعد على أصابع اليد الواحدة من "يا جارة الوادي" إلى "جفنه علّم الغزل".

بموازاة تطوير عبد الوهاب لقالب الموال الذي لم تغنه أم كلثوم (باستثناء نموذجين لا يشيع فيهما جو الموال فعلاً)، ساهمت أم كلثوم في تطوير القصبجي لقالب المونولوج المعروف قبله، ولكن الذي لم يكتسب خصوصيته إلا معه. فالمونولوج الكلثومي، مستوحى من الآريا الأوبرالية، دون التخلي عن نمط الغناء العربي المثقل بالزخرفة الصوتية المتوالية. وقد أضاف القصبجي، المتضلع من الموسيقى الشرقية و المطلع على الغربية، نفحةً دراميةً تنسجم مع رومنطيقية رامي الموروثة من فرنسا القرن التاسع عشر. هذا المزيج سمح للمونولوج بأن يحقق نجاحاتٍ خيالية (إن كنت أسامح) لكن إجهاده المتواصل للمطرب و للمستمع، ثمّ تغير نمط ووسائط غناء أم كلثوم لاحقاً أنهى هذا القالب تقريباً الذي كان قد تمكّن قبل ذلك من إنهاء هيمنة الدور كالشكل الأكثر تطوراً و علماً (كما يقال الموسيقى العالمة)، على الرغم أن أم كلثوم كانت غنت ما بين 1930 إلى 1932 عشرة أدوار لداود حسني وأن أدوارها الجميلة مع زكريا أحمد لاقت نجاحاً إلا أن هذه الأدوار التسع تناثرت على سنواتٍ تسع أيضاً ما بين 1931 و 1939.

لزكريا أحمد أيضاً كان الفضل في تطوير قالب الطقطوقة، بالتنويع في الألحان والإيقاعات، بدل التكرار الرتيب للأغصان.كما كان لزكريا أيضاً الفضل في الحفاظ على نوعٍ من الأغنية الجماعية، والحوارية المرحة، المأخوذة من المسرح الدرويشي، وفي تطعيم السينما الكلثومية منذ أواسط الثلاثينات بها وبمرحها وإيقاعاتها العربية وجملها الخفيفة، بالتوازي مع جهود االقصبجي، وتلميذه آنذاك، و إن على سلاسة أكبر بلا منازع، السنباطي، في الأغنية السينمائية الأوبرالية وفي تطوير التخت إلى فرقة أوركسترالية بالتعاون مع الموزع، والمؤلف الموسيقي العائد من أوروبا، ابرهيم حجاج. يتساءل المرء لماذا تأخر تعاون أم كلثوم مع زكريا أحمد، إلى العام 1931، في حين أنه يعرفها منذ 1919 وكان صاحب اسهام كبير في التحضير لانتقالها إلى القاهرة، ويبدو لبعض المؤرخين أن السبب هو انغماس زكريا في المسرح الغنائي، مستكملاً إرث سيد درويش. فيكون انهيار المسرح مع الأزمة الاقتصادية وصعود الكباريه كصالةٍ تقدم عروضاً متنوعة لفنانين كثر في السهرة الواحدة، هو ما أتى بزكريا نحو أم كلثوم التي ستقدم معه أعمالاً هي من أجمل ما قدمت و أمتعه، و لكن هذا الانهيار هو أيضاً ما سيمحو كل أنواع الغناء سوى الغناء الفردي العاطفي، سيقطع من الإرث الدرويشي جانبه المصور للفئات الاجتماعية، ويأسر الغناء العربي في الأغنية الفردية، العاطفية غالباً.

في الفترة عينها كان للانتشار الكبير للأسطوانة، التي لم تكن مدتها تتجاوز دقائق معدودة، أثر كبير في تقنين الحرية الارتجالية للمطرب و للتخت، وفي دفع الأغنية القصيرة إلى البروز كالشكل الأهم في صناعة الموسيقى و اقتصادها، إلى حين تنبه أم كلثوم، بعد عشر سنوات من الغناء الحي المنقول على الإذاعة، إلى إمكانيات الإذاعة في التسجيل غير المحدود زمناً للأغنية، وتنبهها إلى طبيعة الحضور الكلثومي على المسرح و صورتها، في الأربعينات، كالمطربة الأفضل في التنويع و الزخرفة و الإعادة في مقاطع الأغنية، مما جعلها تتجه مع السنباطي و زكريا إلى الأغنية الطويلة. وهذا ما يجعل تطريبها مرتبطاً جداً بوقوفها على المسرح وعلاقتها بجمهورها. ويشير البعض هنا إلى أن توجه أم كلثوم نحو السنباطي وزكريا مرتبط بتغيير في الذوق العام ناتج عن الخيبة من آمال التطوير والعودة نحو هويةٍ انغلاقية مضادة للمستعمر وفنونه، وذلك منذ بداية الأربعينات إلا أن هذا القول في نظرنا لا يصمد للتدقيق، إذ أن أم كلثوم واصلت التعاون مع القصبجي، خلافاً للشائع، بعد "رق الحبيب" في أغاني الأفلام (فاطمة)، كما أن عبد الوهاب و فريد الأطرش كانا يحققان نجاحاتٍ كبيرة مستعملين إيقاعاتٍ و آلاتٍ غربية ومتنافسين في ادعاء السبق إليها، ومثل ذلك كان أيضاً في أساس نجاح عبد الحليم في الخمسينات. حتى ليلوح أن أم كلثوم في توجهها الجديد نحو زكريا والسنباطي كانت تبتعد عن الجو العام آنذاك لا بل تسير عكسه. النموذج الكلثومي هنا ليس المؤشر الأفضل إلى حراك المجتمع، وإن كان تمسك الناس وتمثلهم به دليلاً على صورة هذا المجتمع في عيون نفسه، لا على واقعه. لذا يلوح لنا أن سبب التوجه الكلثومي هذا يعود إلى أسبابٍ فنية في الأصل، هي سعي أم كلثوم إلى التفرد بلون لا يشبه الآخرين، وإلى التخفف من إجهاد تلحين القصبجي لها وللمستمع ومن ضبطه الصارم لها في أسر الشبكة اللحنية و التوزيع الأوركسترالي، ثم إلى رغبتها بالخروج من طراز أحمد رامي في الكلمات، وذلك في اتجاهين، الكلام المباشر والشعبي دون أن يكون شعبوياً مع بيرم التونسي، والشعر الفصيح قديماً و حديثاً ولكن بشروط قدرته على التأقلم مع غنائها على المسرح، أي أن تكون قادرة على التكرار والتقطيع والإعادة فيه، وهذه هي الشروط التي يبرر فيها صلاح جاهين أسباب ابتعاد أم كلثوم عن القصائد بالعامية لـ"والد الشعراء" فؤاد حداد. ويمكن القول، بعد أن كانت الأسطوانة قد أنهت مفهوم الوصلة المتتالية المقاطع (مقدمة آلية من المأثور و تقاسيم و ليالي و موشح ثم دور أو قصيدة) وفككته، أن الأغنية الطويلة شكلت عودة إلى وصلةٍ من طرازٍ جديد.

صاحب كل هذه الجهود، جهد مماثل في تهذيب الغناء، على طريقة أم كلثوم وبحسب ذوقها وأناقتها وحبها للقفلة، وفي تهذيب العزف. فبدل التمهيد الموسيقي بالدواليب والتقاسيم والسماعيات، أنجز القصبجي ورفاقه بدايات إدخال الموسيقى البحتة في نسيج الأغنية، سواءً في المقدمات، القصيرة في البدء قبل أن تطول في الأغاني المصنوعة للأمسية الكلثومية، وفي اللوازم الموسيقية بين الكلمات أو بين المقاطع المغناة. هذا التطوير، وضرورة ضبط زمن الأغنية في الأسطوانة القصيرة وكذلك عمل القصبجي وتفكيره في الانتقال بالتخت إلى الفرقة الأوركسترالية ومحاولاته الهارمونية والبوليفونية البارزة، أدى كل ذلك إلى تغيير في طريقة العزف نحو انضباط كبير و تضييق هامش الحرية الارتجالية للعازف وحصر، إن لم يكن انهاء، الرنين الهيتيروفوني الناتج عن هذه الحريات، ونحو توحيدٍ لأساليب العزف. كما كان لكل ذلك أيضاً أثر، يضاف إلى أثر الإعداد في المعاهد و حضور الموسيقى الغربية في القاهرة، في تغيير أبعاد بعض السلالم العربية البالغة الدقة وفي انقراض الكثير منها.

الطرب و الغناء بعد أم كلثوم و عبد الوهاب

ختاماً، نحسب أن الدلالات لا تُقْرأ إذن في "النص" المغنى، بخاصةٍ في ثقافةٍ مجبولة بالدين لطالما خافت من غياب النص في الموسيقى أو انسحاقه في مواجهتها، بل تقرأ في تطور العلاقات بين العوامل المختلفة، العلاقات بين الكلمة و اللحن، العلاقات الاقتصادية مع الشركات و الوكلاء، العلاقة مع التطور التقني واختلاف الوسائط الناقلة للعمل الفني... الخ. وهذا ما حاولنا بإيجاز الإشارة إليه في معرض هذا التفكر في الأعمال الأولى، التأسيسية، لأم كلثوم.

على الصعيد الفني، ربما يجوز الافتراض مع عبد الوهاب أن الطرب انتهى بعد أم كلثوم. ولكن للدقة فإن ما انتهى معها هو نمطٌ معين من الغناء (طرب بطيء، جمل و إيقاعات عريضة، تأتي هي لتصوغها، وذلك بالمقارنة مع الطرب الأسبق عليها حيث الزخرفة المتواصلة، و ضعف الجملة اللحنية مجردة من الصوت، وسيطرة الهنك و الرنك أي الترديد و الترجيع في الحوار مع الكورس... الخ)، ساهمت هي و ملحنوها في شكل رئيسي في تشكيله وفي احتلاله مكان الطرب القديم الذي كان صالح عبد الحي آخر المدافعين عن استمراره، والذي أصبح اليوم نوعاً من الفن المتحفي الذي تقدم فرق التراث أو بعض المطربين النادرين نسخة معدلة بالتأكيد عن صورته الأصلية. وبدوره انتهى الطرب الكلثومي أيضاً إلى نسخٍ معدلة و معدة للاستهلاك السريع في خواتيم الحفلات الراقصة، أو للتباهي في بعض المهرجانات. في مقابل ذلك لا يزال خصوصاً في الموسيقى البحتة وعازفيها، من يطرح صوراً متعددةً و متجددةً و حيةً نضيرةً للطرب والتطريب كالجزائري علا (بتشديد اللام) والمغربي سعيد الشرايبي والمصري عبده داغر، أمد الله في أعمارهم. لا يعني ذلك أن أحداً لا يحاول أن يغني الطرب الكلثومي بحسب قواعده، و لكنهم يكتفون بتكراره و لا يتكفلون باستمراره حياً أي فناً قابلاً بموارده على التجدد. هكذا بدا و كأن أم كلثوم كانت خاتمة المطربين بعد أن استجمعت ذوقاً وقدراتٍ كل موارد هذا الفن العظيم. أما النموذج الوهابي المعتمد على أناقة الجملة ورشاقتها فقد تطور في اكتماله الحليمي والنجاتي والفيروزي إلى ما نسميه اليوم التماهي وإلغاء المسافة بين الشاعر والمغني والمستمع، وهو ما يجد آخر معاقله في تشبث المطربين الذكور به وبرومانسيته في مقابل موجة عارضات الأزياء القادمات إلى غناء (أشبه بالصامت من شدة جهد مهندسي الصوت في إخفائه) بجمالٍ لا يوازيه في الإدهاش إلا قراءاتنا حول تطور الطب التجميلي ونجاحاته!


Aucun commentaire: