jeudi 3 janvier 2008

ساحر البهجة والابهار

مقالة نشرت في ملحق النهار الثقافي في ربيع 2003


لا يبدو ان العلاقة الملتبسة بين العود العربي والغيتار (الاسباني والفلامنكو تحديداً) آيلة الى استقرار ووضوح في المدى المنظور. هذا الالتباس الذي قام مع العائلة البشيرية (جميل بشير خصوصاً، لكن منير وابنه عمر ايضاً في عمله الاخير "الاندلس") كانت له امتدادات اخرى اشهرها في اقتباس فريد الاطرش لمقطوعة استورياس ودخولها في تقاليد التقسيم الشائعة إثره. للالتباس هنا بعدان اساسيان. بعد ايديولوجي يرتكز على فكرة الاندلس العربية، وبالتالي ان جذور الفلامنكو عربية وان الغيتار حفيد العود (الحفيد الذي شاخ قبل الجد بحسب احد المعلقين على حفلة شارك فيها منير بشير مع احد عازفي الغيتار) وان هذه بضاعتنا ردت الينا، الامر الذي يفسر غياب تأثيرات الغيتارات الاخرى (الكلاسيك، الروك، الجاز، الكاونتري) وكذلك، وهو الاكثر مدعاة للاستغراب، غياب تأثير العود الباروك Luth Baroque. البعد الآخر تقني. ثمة انبهار عربي ساطع بالغيتار الفلامنكو، اذ يجمع الى ميلوديا قريبة من منطق الميلوديا العربية، تطوراً تقنياً هائلاً اذا قورن بالعزف التقليدي على العود، إن لجهة العزف بأصابع اليد اليمنى، والايقاع والائتلافات، والسرعة والاوضاع. وربما فاقم هذا الانبهار ان عربياً لم ينبغ في مثل هذا العزف بخلاف ما حصل مع آلات اخرى كالبيانو والكمان والتشيلو. وهذا الانبهار تحديداً ما دعا العرب، كعادتهم، الى الانتباه الى سبقهم الحضاري والى القول انها "بضاعتنا...". اي الى اختراع جَدّ بمفعول رجعي، حاسبين، كالعادة ايضاً، ان تقليد التقنية كفيل اثبات صحة من النسب، قاطعين التقنية عن محيطها الاجتماعي وفضائها الثقافي والتاريخي، بما في ذلك فضاء تذوقها. عزف نصير شمه لا ينجو من هذا الالتباس، او على الاقل لا ينجو تذوقه من هذا الالتباس. اذ بينما يردد شمه بذكاء ان التقنية تقنية ويجوز تطويعها واستخدامها دونما عُقَد، ومن أي مصدر أتت، حين يريد ويقدر (من دون ان يذكر الغيتار تحديداً، لكن ايضاً من دون ان يوضح لمَ الاتكاء على هذا المصدر، وارادته هو دون خيارات مغايرة!)، لا يكل جمهوره عن اقامة المقارنات، ولم تفتأ صديقة تردد اثناء عزفه في بيروت في الاسبوع الاول من هذا الشهر، ان الغيتار يغدو نكتة اذا قيس بهذا العود. الا ان الالتباس بالغيتار، في ذائقة جمهور شمه، لا يعدو كونه جزءاً بسيطاً من خصائص عزفه المتنوعة تقنياً ومسرحياً وموسيقياً. العزف المسرحي يجمع نصير شمه الى ما سبق ذكره من سرعة غير مألوفة، وعزف ايقاعي بالاصابع بدل الريشة احياناً، والاكثار من الائتلافات والاربيجات (الائتلافات صاعدة او هابطة)، وابدال الاوضاع، خصائص المدرسة العراقية في العود، بخاصة ما يعرف بالتريل Tremolo او الترجيف، وتزحيط اليد على زند العود وصولاً الى صدره، وحب الطبقات الحادة، ويضيف الى ذلك تقنيات طوّرها واستملكها كالعزف باليد اليسرى وحدها من دون ريشة، او حتى بإصبع واحدة منها، وكذلك ما يعرف بالـHarmonics او الطبقات الهارمونية الناتجة من نقر الوتر في مواضع تقسمه تقسيماً رياضياً كالنصف والثلث ونصف النصف الى آخره، حتى صار في مقدوره ان يرتجل لمدة طويلة نسبياً وهو يعزف بعدما تخطت يده اليسرى "القمرة" اي فتحة صدر العود، وهو أصعب انواع العزف على العود وادقّها. يصهر شمه هذه الخصائص ويحولها الى قدرة فذة على التنويع والزخرفة، والارتجال الايقاعي (وهو في هذا افضل منه في الارتجال الحر). ويحيله هذا عازفاً مرعب الإبهار على المسرح. فبين القدرة على التنويع على الحان معروفة "حوار مع الكبار" الى الاهداءات السياسية ("حدث في العامرية" او "بنفسج ارواحهم" البديعة)، الى الايقاع والسرعة ("رقصة الفرس") الى العزف بيد واحدة ("المخالف" الرُكباني)، او حتى باصبع واحدة ("رسالة الى بغداد")، الى الذكاء في ادراك ذائقة الجمهور فيعزف الدلعونا في لبنان وبليغ حمدي في القاهرة، ويخفف من منسوب الخصوصية العراقية في ربع التون لدى استقراره في القاهرة من دون ان ينقطع عنها تماماً، ويعزف بشامية ما في بيروت. ذلك كله يطرح اشكالات عديدة نقدياً، لكنه بالنسبة الى المستمع في المسرح، مصدر متعة وانبهار فائقين، اذ لا يخرج احد من حفلة شمه قبل نهايتها، بل لا يرفع احد عينيه عن "رقصة أنامله" على زند العود طوال ساعتين واكثر. واحد عناصر الإبهار المسرحية التي لم يتسنَ للجمهور اللبناني اكتشافها في عزف نصير شمه قدرته على الحوار مع آلات اخرى في فرقته "عيون" التي أسسها في مصر، كما أسس ايضاً "بيت العود العربي" وسنعود الى ذلك، قادماً من تونس إثر مغادرته العراق بعد الحرب الثانية. ففي اعمال عدة، مكتوبة على شكل جملة واحدة او اكثر، تتكرر كلازمة تفصل بين حوارات مرتجلة عديدة، يتحول نصير شمه الى قائد فعلي ومحاور شيّق لآلات فرقته، سواء الايقاعية او الوترية (من كمان او قانون او عود آخر مع نهاد السيد) او النفخ (مع ناي هاني البدري، الشاب المعجزة في الفرقة). نجومية نصير شمه (في مصر خصوصاً) قائمة اذاً، كما كانت نجومية ليست، على المسرح قبل ان تقوم على التأليف. الا ان هذا، عكس ما قد يتوهم البعض، لا ينقص من قدر العازف ولا من قدر الآلة. وتاريخ العود تحديداً مليء باستدعاء ارض مشتركة مع المستمع، حتى لو ذهب ذلك الى حد اداء اغان معروفة على العود، كما كان يفعل جميل بشير، او مارسيل خليفة في "جدل"، او نصير شمه في حواراته مع الكبار. اذ ان ألفة هذه الذاكرة المشتركة شرط اساسي في ما يبدو لسماح المستمع بابداع العازف وقبوله به، ومنذ اللحظة التي طالب بها العراقيون باحتلال الآلة صدر المسرح، وتحويل الآلات الى عازف منفرد، تضمن هذا المنطق احتمالات عدة من الاغواء، الاغواء بالحكمة والصمت والاغواء بالاستعراض. والمسرح متسع لكليهما ولسواهما. قراءة في الموسيقى تطرح هذه الاعمال مسائل عديدة سنقتصر على اثنتين رئيستين: التسمية والاهداء من ناحية، والشكل من ناحية اخرى. الاسم معبر اساسي للمستمع الى المقطوعة، وكذلك الاهداء. ومن الملاحظ في اعمال شمه كثرة الاهداءات الى جميل بشير او غارسيا لوركا، والاهداءات السياسية الى المقاومة في لبنان، او فلسطين او اطفال العراق. بالطبع، فإن القراءة السياسية لعمل فني قراءة محتملة ومشروعة، الا أنها في الموسيقى تحديداً اصعب بكثير. وباستثناء "العامرية" المتكئة على محاكاة لاصوات القصف والطائرات وعويل سيارات الاسعاف والنشيد في الختام، فإن الموسيقى البحتة لا تبدو قادرة على مثل هذه القراءة المباشرة والمجانية في عدد من الاحيان. والمحاكاة كانت في اصل اطلاق اسماء على المقطوعات الموسيقية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر مع جانكين خصوصاً، اما إثر ذلك فقد عادت الموسيقى الى تسمية المقطوعات باسم القالب سوناتا مثلاً او فوغة، كما هي حال الموسيقى العربية تقليدياً مع السماعي واللونغا وسواهما، الى بدايات العهد الرومنطيقي مع "بطولية" بيتهوفن ثم مع شوبان وليلياته وبعض مؤلفات ليست ثم تطورت مع الوقت الى الذروة مع رافيل خصوصاً. واذا صح ما يراه فوكو، فإننا لا نزال نعيش في القرن التاسع عشر. وهذا وحده ما يبرر اسماء كمثل "بنفسج ارواحهم" او "إشراق"، في حين تظل اسماء مقطوعات مؤلفين آخرين مستندة اما الى "هضمنة" ما واما الى صدفة. كأن تسمّى مقطوعة باسم المكان الذي واتت المؤلف فكرتها من دون اي ارتباط فعلي بالمقطوعة. إن قراءة سياسية تفترض، اول ما تفترض، نقداً للموسيقى نفسها ولقدرتها على التمويه والتضليل، وهذا ما نفتقده بشدة في أغلب المشاريع الموسيقية السياسية عربياً. ولا يشكل نصير شمه استثناء على هذا. فتآليفه تتكىء كثيراً على قوالب السماعي (سماعي على وتر واحد، او "تعاليم حورية" المستوحى، من دون ان يكون ذلك واضحاً موسيقياً، من قصيدة لمحمود درويش) او اللونغا في استعمال الدوبل كروش وتكرار المجموعات الايقاعية والنغمية على وتر أعلى او عرضها على المقام. كما تتكىء ايضاً على منطق مقدمات الاغاني المصرية خصوصاً في تغيير الايقاعات والانتقالات المقامية، ويضاف الى ذلك حب نصير شمه للنشيد، لغنائيته اكثر من حبه للحماسة فيه. ومن ضمن التأثر الغنائي الرومنطيقي، يطور شمه مفهوماً سبق ان أثاره الشريف محيي الدين حيدر، مؤسس المدرسة العراقية، في اعمال مثل "الطفل الضاحك" و"الطفل الراكض" و"ليت لي جناح" (رد عليها شمه في مقطوعة جميلة بعنوان "لو كان لي جناح")، وهو مفهوم الفكرة - الصورة في الموسيقى. أي ان يطلب من الفكرة او الجملة الموسيقية ان تخلق لدى المستمع صورة ذهنية ما، يقول شمه إنها تتخلق ما بين بصره واصابعه اثناء العزف. هكذا تنقسم تآليف شمه نمطين اساسيين: المقطوعة - الصورة والمقطوعة - الارتجال والتي قد تنحو حتى الى الارتجال الحر. اما النمط الاول فخير مثال له "حدث في العامرية" او "بين النخيل". لكن انتقادات عدة قد توجه اليه، ابرزها اتكاؤه على المحاكاة في اصدار الاصوات وفي تكوين الصورة وتثبيتها، وهو ما لم يعد شائع القبول في أذواق الخاصة والمثقفين منذ شوينبرغ وبيرغ على أقل تقدير. وكذلك يتنافى مع الابهار المسرحي لعزف شمه الذي يمنع المستمع من تخليق الصورة الذهنية لانشغال عينيه بمتابعة العزف والاستعراض. الا ان شمه قادر على مزج النمطين احياناً كما في عمل بديع بعنوان "شكت"، مستوحى من بيتين للاخطل الصغير، حيث تكرّ الارتجالات والحوارات مع عازفي الفرقة كما تكر لآلىء الدموع على خد الحسناء في بيتي الاخطل الصغير، تؤطرها جملة موسيقية مرحة وحيوية ورحبانية النفس بعض الشيء. بيت العود العربي أسس نصير شمه في القاهرة (ويتحضر حالياً لافتتاح فرع في الاسكندرية) ما اصبح يُعرف ببيت العود العربي، وهو مشروع شديد الطموح، على حداثة عهده. ويطمح هذا المشروع الى تكوين عازفين منفردين على آلة العود، يتمتعون بقدرات تقنية عالية جداً في علاقة تشبه علاقة الشيخ بالمريد، لا علاقة الطالب باستاذ الكونسرفاتوار تقليدياً. فالمناهج ليست محددة بعد، والدرس يعتمد على التسجيل والعزف والملاحظة ولا يتكل على النوتة الا استثنائياً، مما يسمح للمريد بالانتباه الى قدرة شيخه على التنويع والزخرفة في كل مرة، والمتخرج آخر الامر، وإن كان يحصل على شهادة معادلة لدبلوم الكونسرفاتوار، الا ان التخرج مرهون اساساً بتقدير نصير شمه لتمكّنه من الانفراد على المسرح، اي مما يشبه الاجازة بالاستقلال. صحيح ان العمل جار على إنجاز منهاج، يعتمد على تراث المناهج العراقية التي تركز منذ عشرات السنين على العاب الريشة المقلوبة والاوضاع على الزند، الا أن قدرة المنهاج الحقيقية هي في تمكينه الطالب من الاستمرار في تطوير نفسه. لهذا فإن علاقة المريد - الشيخ، عدا كونها متابعة لتراث حقيقي وفعال في الموسيقى العربية، اساسية في بناء رصيد من التقنيات والنقاشات التي تسمح بمثل هذا التطوير المستمر. خريجو هذا المشروع والذين يساعدون نصير شمه في مهمات التدريس، هم الى الآن خمسة: غسان نادر وأيمن حامد وثلاثي بيت العود نهاد السيد، اول الخريجين، وشيرين التهامي وحازم شاهين (وهو اسم سيكون له شأن كأحد أبرز العازفين العرب في زمن قريب جداً)، ولكل منهم شخصية عزفية مختلفة تماماً وثرية. ذلك ان هذا النوع من التدريس، عكس التعليم التنميطي الذي يطمس التمايزات، حريص على قبول التنوع ورعايته، كما سبق ان رعى في العائلة العراقية نفسها رقة جميل بشير وصرامة منير بشير وتأمله، ورعى وسيرعى تحول عزف نصير شمه الى ينبوع فرح وعطاء ومعه وحوله كوكبة من سحرة المتعة والبهجة والإبهار.

Aucun commentaire: