jeudi 3 janvier 2008

الطوائف المعسكرة من الداخل

ملحق النهار الثقافي، كانون الأول 2007
تهافت الديمقراطية التوافقية وعسكرية متنها


أثار فراغ سدة رئاسة الجمهورية مخاوف شرائح عديدة من المواطنين وساستهم وقلقاً على الكيان اللبناني ومعناه. تتجاوز هذه المخاوف المسيحيين من المواطنين اللبنانيين، الخائفين من أن يكون فراغ الكرسي المحفوظ لهم نذيراً بخروجهم من الدولة، إلى كل مواطن لبناني يعتبر الوجود والمشاركة المسيحيين ضمانة لقيام معنى وخصوصية للبنان تميّزه عن سائر المنطقة وتبرر وجوده. لذا، بدل التأكيد على المواطنة وبناء دولة حديثة ومؤسسات كفوءة، لا يفتأ بعض قادة المعارضة وألسنتها يتساءلون مستنكرين عن الدور المسيحي وقيامه مديراً لشركة لا يملك حصة وافية من أسهمها بدل أن يكون شريكاً "استراتيجياً" كاملاً. يقوم هذا الاستفهام الانكاري على اعادة التأكيد المتواترة هذه الأيام على خصوصية الديمقراطية اللبنانية في كونها توافقية، بافتراض أن هذه الديمقراطية التوافقية المانحة حقوق نقض للطوائف، لجهة كونها طوائف تحديداً، هي الضمانة لبقاء المسيحيين (والشيعة) ومشاركتهم بعد انفراط عهد السلاح والأمن الذاتي. إلا أن هذه الديمقراطية التوافقية ليست، في الواقع، إلا دعوة للعودة إلى مثل هذه العهود المسلحة، بسبب منطقها العسكري، ولتجميد الحراك الاجتماعي اللبناني ومنع تحويل دعوى التعايش، التي يجعلون منها معنى الكيان اللبناني، إلى حقيقة على أرض الواقع.

لم يكف الرئيس السابق والعسكري السابق اميل لحود عن التشدق بأمرين، حتى آخر ثانية في ولايته البائسة: التغني بالرجال ـ الرجال، وتنبيه فرنسا وأمريكا إلى أن لبنان ليس كمثلهما (وليس كمثله شيء أصلاً) بل هو "ديمقراطية توافقية". اما العسكري، السابق أيضاً، ميشال عون، فلا يكف عن التغني بنظافة الكف والنزاهة والصدق ونعت خصومه (دون حلفائه) باللصوصية والكذب، دون أن يكلف نفسه عناء أن يشرح لنا تناقض مواقفه وخطبه من سوريا وسلاح حزب الله والغرب، أو أن يوضح مصدر تمويل تياره وتنظيمه وتلفزيونه. إلا انه، دون الدخول في التفاصيل، يبدو أن للعسكرية، وحياة السلاح الميليشياوية أيضاً، ومنهجهما أثر معطل لمبادئ السياسة وفهمها، إذ تعلي من شأن الخطط والأسرار، لا الخطاب الصريح الموجه إلى الحيز المشترك والعام، وتجعل من الذكورة قيمة بحد ذاتها رابطة إياها بالشجاعة والاقدام، بشكل ممجوج وفج ومتخلف، وتفترض في العسكرية قيم النزاهة ومكارم الأخلاق بالمقارنة مع عالم المدينة والمدنية والسياسة، حيث الكذب والنفاق والفساد. ولئن كان في ذلك بعض الحقيقة، فإن الرد عليه لا يكون برفع الطهارة الانقلابية سلاحاً، سواء كانت دينية أم عسكرية، بل ببناء المؤسسات وتفعيل الرقابة ومنح المجتمع المدني القدرة على تطوير وسائله اللاعنفية. إلا أن هذا تماماً ما تناقضه فكرة الديمقراطية التوافقية، التي انتشرت في الإعلام اللبناني انتشار النار في الهشيم منذ انسحاب الوزراء الشيعة، وكانت قبله نطفة مضمرة في علم الغيب الدستوري المزعوم.

يلوح ظاهر الديمقراطية التوافقية متناقضاً مع رغبة القائد العسكري في الأحادية، إلا أن جوهرها هو تحديداً هذه الرغبة مربوطة إلى أمر واقع يمنع عليه الامتداد أوسع من طائفته. لذا فإن الديمقراطية التوافقية، في واقع الأمر، لا تعبر إلا إلى التوق إلى أحادية في داخل كل طائفة، وإلى تحطيم الدستور وعمل المؤسسات بدعوى التمثيل الجماهيري، فضلاً عن أنها تعقل كل امرئ، شاء أم أبى، إلى طائفته، أي أنها تعيد إنتاج المشكو منه من النظام الطائفي، رغم دعاوى العلمنة المزعومة التي سرعان ما تتهافت. كما أنها تضيف إلى مشكلاته واقع تعطيل دائم ومستديم ولامساواة بين المواطنين تقع من الديمقراطية التوافقية (وهو وصف كاذب في الكلمتين) في موقع القلب والصميم، على حساب قيام أي مجتمع مدني لبناني مشترك.

أحاديات داخل الطوائف

تفترض هذه الآلية المزعومة الديمقراطية بأن ديمقراطيتها تنطبق على ذوات هي الطوائف، طالبة منها التوافق بما يمنح كلاً منها حق النقض في السياسة العامة للبلد. إذا ما تغاضينا، جدلاً، عن صحة اعتبار الطائفة، لا الفرد، ذاتاً ينبغي أن تتمثل في مجال السياسة، دون أن ينفي ذلك فكرة الديمقراطية من أساسها، يظل أن تحديد ممثل، بشكل مؤسساتي واضح، لهذه الطائفة الكريمة أمر دونه خرط القتاد. أما القبول بتعدد التمثيل لكل طائفة فيطرح مشكلات أعوص بعد، فهل ينبغي منح الطائفة المنقسمة على ذاتها حقي نقض أم حقاً واحداً شرطه اتفاق طرفيها؟ وهل يحق لفعاليات الطوائف الأخرى التدخل في هذا "الشأن الداخلي" أم أنه تدخل غير مقبول ويستحق الحرب الأهلية رداً عليه؟ هل يمكن قيام توافق بين طوائف منقسمة وأخرى غير منقسمة على ذاتها؟ أم أن مجرد الانقسام سيكون اخلالاً بالتوازن الوطني بشكل يجعل التوافق مستحيلاً إلا تحت شعار الالتحاق؟


لا يمكن العثور على اجابة منطقية على هذه الأسئلة المنطلقة من فكرة غير منطقية، لكن يمكن استقراء الوضع اللبناني الحالي، حيث نجد في مواقف الداعين إلى مثل هذه "الديمقراطية التوافقية" مزاعم التمثيل الأحادي، والتكليف الشرعي، والبطريركية السياسية والدعوة إلى زعامة موحدة قوية في مواجهة الطوائف الأخرى غير المنقسمة، والتنديد بعلاقة طرف طائفي بزعامات لطوائف أخرى... الخ. إنها مجدداً نزعة الالغاء، أياً كانت ذرائعها، التي لا تقبل إلا بزعيم قائد واحد لطائفة موحدة، ولا ترى المجتمع إلا بمنظار ألوانه الطائفية، بما يجعل السياسة في واقع الحال تلفيقاً وتوفيقاً لا توافقاً وتسويات. إنه منطق هرمية الثكنة لا شبكة العلاقات المدنية والمدينية.

الجماهير مطرقة لتحطيم الدستور والمؤسسات

أهي محض مصادفة أن يطلق تعبير "قصر الشعب" على القصرين الجمهوريين في بلدين شقيقين حين كان قاطناهما من العسكر؟ ليس ذلك أكيداً. فتوالي الدلائل يشير إلى عمل دؤوب ومتواصل للالتفاف على المؤسسات، السياسية والدستورية والمدنية، بحجة العلاقة المباشرة مع الشعب. فيكرر العماد السابق، عون، مناورة دعوة الشعب إلى قصره، تارة في بعبدا وتارة في الرابية، متناسياً حتى كتلته النيابية الضخمة، من أجل تحطيم فكرة التمثيل السياسي، سواء الوطني عبر البرلمان أو الطائفي عبر المؤسسة الأقوى طائفياً أي الكنيسة المارونية. أما العماد الحالي، سليمان، فيردد إن تكليفه بالأمن هو ناجم عن إرادة عامة وشعبية، في حين أنه قانوناً خاضع لقرارات مجلس الوزراء، وهو كان ذكر شيئاً مشابهاً إبان مظاهرتي آذار الشهيرتين.

هذه العلاقة المباشرة مع الشعب، والتي يتوسل بها أيضاً بعض زعماء 14 آذار أحياناً، ناهيك بالتنظيم الحديدي الحزب اللاهي، تناقض مبدأ إقامة المؤسسات الدستورية، حيث يكون قيامها خاضعاً لاختيار أفراد الشعب لا لمزاج جماهيره المتقلبة، وهو المغزى الحقيقي لفرض مدد دستورية لولاية النائب أو الرئيس، ولفك ارتباط ولايتهما برغبة ناخبيهم المتواصلة، سواء من خلال جعل تمثيله لكل اللبنانيين، وليس فقط لمن انتخبوا فلاناً، ومن خلال منح الناخبين القدرة على إسقاط ممثلهم فقط بعد مرور عدد مفروض من السنوات.

يتوسل أصحاب هذه المقولة "الشعب العظيم" (وهم لا يستحون من وصف طائفتهم بهذه العبارة ومثيلاتها) لتحطيم اطر تنظيم الشعب الدستورية عبر أمواج الحشود. لا يعكس هذا سوى احتقاراً تاماً للدستور نم عنه، بوضوح بالغ، تصريح نائب حزب الله على عتبة قصر بعبدا أن لا دستور سوى ما يقرره الرئيس الآفلة ولايته والذي، للمناسبة، لا شعبية تذكر له في أي وسط.

الفرد والمدينة في مواجهة فيدرالية الطوائف

قد بات من نافل القول تكرار إن منح الطوائف حق النقض على السياسة العامة يعني التعطيل التام للحياة العامة ومنح بعضها دون أخرى هذا الحق لامساواة غير دستورية بين طوائف لم يفرق بينها الدستور، وكذلك تكرار إن "فيدراليتها" إنما هي أسر لكل مواطن يرفض أن يحتسب رغماً عن أنفه على طائفة ما، وأن في ذلك اخلالاً بالمساواة بين المواطنين، لجهة حقوقهم وربما (واقعاً) لجهة واجباتهم، كما لجهة "ثقلهم" الانتخابي والسياسي. إلا أن زعماء الطوائف لا يزالون يستنفرون الناس على قاعدة فهم خاطئ للدستور مؤداه أن "حصتهم" من الدولة مهددة. إلا أن الدستور لا يعتبر أن تخصيص هذا الموقع أو ذاك لابن طائفة ما هدفه خدمة أبنائها وتأمين حصصهم من "إعاشة الدولة". توزيع المناصب هو تقاسم للثروة الرمزية للدولة، أما حصص الناس من "خدمات الدولة" فتتأتى من خلال العمل الحكومي على أساس المناطق (لا الطوائف) والتنمية العادلة. لذا فإن تولي رئيس قوي مارونيا، أو رئيس حكومة قوي سنياً، لا يؤمن بشكل أوفى حصص هذه الطائفة أو تلك إلا من خلال خرق الدستور، لا تطبيقه. وليس بالضرورة أن يكون تولي رئيس ضعيف في طائفته وقوي في الدولة والسياسة أسوأ لجهة سير عمل الدولة وحسن توزيع مواردها.

في ميزان ديمقراطية الطوائف التوافقية لا ثقل لأي مؤسسة ليست طائفية صرفاً، ولا لأي مجتمع ليس منغلقاً على مذهبيته. في بلد كلبنان، تضم عاصمته نحو نصف أبنائه، تدعونا الديمقراطية التوافقية إلى النكوص عن فكرة المدينة والحضارة إلى بناء الغيتوات المغلقة سعياً إلى الحصول على ثقل سياسي، وتالياً على منفعة مادية. بهذا المعنى، يشكل الدفاع عن رئاسة ليست الأقوى في طائفتها، دفاعاً عن حياة "شعب" ليس منقسماً شعوباً. هذا الدفاع عن وحدة الشعب اللبناني ممكن شرط الاستناد إلى حياة المدينة القائمة وتفعيل مؤسساتها وأطرها، لا تفكيكها إلى مكونات طائفية، صلبة لكن مغلقة، وإلى شوارع مدببة الأرصفة.

Aucun commentaire: