jeudi 3 janvier 2008

برغمان، قارة الوحشة











ملحق النهار الثقافي، 5 آب 2007




انغمار برغمان : قارة الوحشة تعصف بها رياح الحرية والغبطة



فضّل غودار، منذ صعقة البداية، برغمان على فيسكونتي، المبدع المؤلف على المخرج الممتاز، لكن برغمان نفسه كشف، بعد عقود طويلة من المهنة، أنه إنما يفخر بكونه "حرفياً يصنع ما قد يفيد الناس". برغمان، الذي انتقده "أهل الحرفة" طويلاً، أثبت أن تنفس صباحاته وأماسيه وغاباته وجزره ورياحه وممثليه إنما هو معجزة الصنعة والحرفة. وبات معلماً. في هذا، وإن تجاورا في موضوعة اللاتواصل بين البشر وقلق العيش، إلا أن برغمان يتخطى أيضاً أنطونيوني، الفيراري، الذي لم يملك إلا أن يكون إيطالياً، أي رساماً بالألوان للوحات بديعة، (راجع مثلاً الانفجارات في "نقطة زابريسكي" أو مشاهد مدينة فيرارا في "أبعد من الغيم") حتى اعتبره البعض مثل الناقد ألدو تاسوني متحدراً من راسمي عصر النهضة. أما برغمان فكان رساماً للروح نفسها، ولأحوالها. الكتابة عن برغمان قد تتحول مطارحة داخل جمعية سرية أو حزب مغلق، لقصور انتشار أعماله (وأعمال السينما عموماً في لبنان). لذا لا تسعى هذه المقالة إلى استعراض تاريخه وحياته الشخصية، على أهميتها في ولادة أعماله وليس في استقبالها، ولا للجوانب التقنية في لائحة لا تنتهي تعداداً من الأعمال على مدى ستين عاماً. قصارى الهدف هنا هو الاعتراف بالدين الذي يدين به لبرغمان كل من رأى قلق روحه اللامتناهي مصوراً في دقة المشهد، فعاد من غرقه إلى حب الحياة.




كانت الأيام الماضية قاسية على فن السينما. لن نشاهد جديداً لأنطونيوني أو لانغمار برغمان، لكن من يستطيع القول إنه شاهد كل أعمالهما، وهما من أبى إلا الإدلاء بشهادة أخيرة، قبل اغماضة النهاية، أنطونيوني في مشاركته الكلوسوفسكية (نسبة إلى لوحات بيير كلوسوفكي الحية) في "ايروس"، للدقة في ثلث الفيلم، حيث صاغ الجزئين الآخرين تكريماً له سودربرغ ووانغ كار واي، وبرغمان في تحفته الأخيرة "سربند". بالأخص، أعمال برغمان التي لا تنتهي مشاهدتها إلا بالموت، مثل قراءة ألف ليلة وليلة، وفيها أيضاً مثل ألف ليلة وليلة رواة وحواة وسحرة وعشق وفراق وخيانات وأسماء لا تني تتردد وتتكرر وجوهها.

من النافل الحديث عن "الوجوه" واللقطات القريبة لدى برغمان. لكن الغريب ربما أن برغمان، الحالم بفيلم طويل من لقطة واحدة قريبة، لم يكن شغوفاً جداً بالوجوه "الجديدة". مثلما تتكرر أسماء الشخصيات والعائلات في أفلامه، حتى يكاد المرء يرسم لها شجرة عائلة وأنساباً، فهنالك نفس "القطيع"، مثلما كان هيتشكوك يسمي ممثليه، نفس الوجوه التي تعود، "عصابة برغمان" (مثل عصابة فاسبيندر أيضاً): ماكس فون سيدوف، ارلاند جوزفسون، اندريس ايك، وقبلهم بيرغر مالمستين وغونار بيورنستراند، والنساء: هنرييت أندرسن، بيبي أندرسن، انغريد تولين، ليف أولمان وقبلهن ايفا داهلبك وماي بيريت نيلسون.

يناقض هذا تماماً مفهوم روبير بريسون عن شخوص أفلامه، لا يريد لها وجهاً سبق أن ظهر على الشاشة، ويكاد يشترط ألا يظهر الوجه مرة أخرى. إذ من سيصدقه؟ كيف سيكتسب جسداً جديداً ونبرات وحركات أخرى؟ إلا أن برغمان "يشكّل" ممثليه بمخيلة لا تنضب وبحس ايقاعي لا مثيل له، وهو لا يأبه كثيراً لتصديق المشاهد للحكاية. بل إنه لا ينفك يفرض عليه مسافة إضافية، مثل بريخت.


هذه الوجوه إذاً مجرد "أسطح" يسيل عليها الضوء وماء الحياة، وما المسافة التي يضعها برغمان بيننا وبينها سوى تأكيد على دقة المشهد الذي يرسمه مانحاً بذلك هياج المشاعر إطاراً محدداً يجعل الألم محتملاً، والعيش محتملاً، رغم أنه، دون لحظات الحب الضئيلة وسكنه، والتماعات السحر والخيال، يزداد هذا العالم قبحاً وقيحاً، ويظهر الزمن في حقيقته الدفينة: تكات ساعة دون عقارب، تنادي على الشيخوخة والموت والقلق وشياطين الروح. يظل أن عبقرية برغمان تستعصي على تلخيصٍ مخلٍ كهذا، لأنها تظل تعرف كيف تبتكر حريتها وغبطتها الباخية (نسبةً إلى العظيم باخ) والتي يليق أن نصفها بالشعر الخالص.






أسطح سينمائية تطل على مشاهد الروح

يرى تاركوفسكي، ملتبساً بالطبع، في برغمان "سطحاً جديداً ومضموناً تقليديا ـ تقليدياً على الطريقة الاسكندينافية، متأثراً بكيركغارد ـ ما يمنح المجموع رنة خاصة ... مدهشة، وهو هنا، في رأيي، يظهر شيئاً جديداً تماماً". يدرك تماماً أهمية السطح الخارقة. السطح الذي هو بشرة الممثل أو الممثلة، شاشة الصالة أو التلفزيون، خد المرأة الذي لا يطال مثلما لا يطال وجه "الأم" العملاق الذي يلامسه الولد في Persona، الجدار الرابع الذي يقفله برغمان بكاميرا لا تتنزه في العالم، كما لدى جان رنوار، بل تغلق بابه الأخير لتضع المرء أمام شياطينه وأمام تاريخه.

حين يصور برغمان مواجهةً ممثلته الأثيرة ليف أولمان في فيلمه الأخير أليس يصور مواجهته أيضاً مع وجه تاريخه، مع ما تراكم على وجهها من آثار الصور السابقة التي أنتجها، بما في ذلك وجهها "المهروس" و"المجبول" بوجوه أخرى، خاصة مع بيبي أندرسن في
Persona ?
ليس وجهها إذاً سطحاً بكراً، حتى في ذاكرة المشاهد، وهذه إحدى أسباب عدم التماهي مع شخوص برغمان، بالمعنى المألوف، رغم كل جهوده الهائلة في إدارة ممثليه و"تشكيلهم". قد يحلم المرء طويلاً بأن يسمع الكلمات التي يقولها برغمان لممثيله إبان التصوير. لكن إدارة برغمان لهم، بحسب بعض المشاهد التسجيلية، لا تعتمد على الكلمات أو على التوجيهات "النفسانية" (التي كان بونويل أيضاً يستعيذ منها). يدير برغمان ممثليه بالضحكة والثقة، وبحيوية لم تنضب حتى وهو في الرابعة والثمانين من عمره. وهو يحدد لهم غالباً حركاتهم لكنه، بصورة خاصة، يمنحهم الإيقاع، إيقاع الشخصية، تنفسها، بلهاثه ويده الممسكة بنبض الممثلين ومعاصمهم، يطلقهم برغمان من ثم إلى حرية يسجل على وجوههم أماراتها وندوبها.

لا نتماهى كثيراً مع الشخوص، لأن في كلّ منهم بعضاً من برغمان وبعضاً منا، وفي كل منهم ما يتجاوز المرء ويختلف عنه اختلافاً لا لقاء فيه. ولا نتماهى معهم لأنهم شخوصه التي يبتكرها، كما يقول، ليفسر صوره. إنه من القلائل الذين تولد الصورة أولاً لديهم!

هكذا، يدعونا برغمان إلى صندوق "الفرجة"، لنشاهده يحرك شخوصه ودماه (من ينسى "عن حياة الدمى" ؟). وهو لا يفتأ ينبهنا إلى أننا

في السينما، في اللعبة التي نبحث عن قواعدها، سواء من خلال استخدام الـ
voix off


، أو الإعلان "هذه كوميديا للبالغين" (في "درس غرامي")، أو استدخال الحوارات مع الممثلين بأسمائهم الحقيقية في وسط الفيلم في "شغف"، أو في تلك النظرة، الأولى في تاريخ السينما، لهنرييت أندرسن في عين الكاميرا في "مونيكا"، أو في تكرار الأسماء والعائلات
Persona مع اختلافات بسيطة، أو تكرار عنوان الفيلم في منتصفه، أو في
جميعه بكل ما فيه من جرأة على كل شيء وكل قاعدة وكل منطق، بكل ما فيه من حرية.

نتفرج إذاً على "صندوق" برغمان للحكايا. لكن اللوحات التي يقدمها على سطحه تشبه كثيراً زجاجيات الكنائس أو ائتلافات الموسيقى: إنها الرسم الأدق لحالات الروح. هذه المباعدة التي يعتمدها ليست عبثاً، إنها شرط لنا كي نرى اللوحة لوحة، ونرى الألم والعشق والعار والكراهية واليأس والنعمة في أطر دقيقة التكوين.
يمنح برغمان المشاعر "شكلاً"، لا تتمرد عليه. في هذا يمنحنا القدرة على النظر إليها كما قد نرنو إلى جني في فانوس بلوري شفاف. القدرة العارمة للمشاعر على العصف بنا مشروطة بمنظور لانهائيتها وغياب القعر لها. ها هو يقول لنا، على لسان جوزفسون في سربند، "ضئيل أنا إزاء قلقي"، أو يكتب "استطعت أن أربط شياطيني إلى عربتي لتجرها، وإن كانت لا تزال تعذبني في حياتي الخاصة".

بعد مرحلة البدايات، عرف برغمان كيف يطوع اللون، سواء في أفلام بالأبيض والأسود أو بالألوان الحية، ومن ثم الموسيقى و"الصمت"، لا سيما موسيقى باخ الذي "يعزينا عن غياب الإله" على حد قوله، في رسم لوحات المشاعر والأهواء العاصفة هذه. هو الذي لم تفارقه "الغبطة" التي يتحدث عنها باخ (الذي شكر الله على استمرار غبطته، لدى علمه بوفاة امرأته)، كان أيضاً صنو هذا الأخير، في ملء العالم بأصداء غبطته ورنين عزائه، مثلما كان نسيب موزار في عشق الحياة الجارف، وليس فقط في اخراج "المزمار المسحور". لكن هذه الأدوات، التي قلما اكتملت لدى فرد، وضعها برغمان في خدمة اقامة هذه المسافة بيننا وبين "الهدر" الهائل الذي نبدد فيه حيواتنا.

إن كان البعض يعتبر أفلام برغمان محاولته للعلاج من شياطينه الكثيرة، فلا شك أن هذا الدواء هو ايضاً مقدم إلينا، فنحن من يريد برغمان، آخر الأمر، تنبيهه إلى ضآلة الحب وضيق الآمال، وضرورتهما رغم ذلك، ونحن من يمد إليه صوراً ومشاهد كي تنتشله من لجة الأهواء والمشاعر التي لا شكل لها قبل أن يمنحها بلمسته شكلاً وإطاراً ويمنحنا عنها المسافة اللازمة للنظر ولاحتساب الوقت.

لا يملك الكل فصاحة غودار الناقد الخطابية والرومنتيكية آنذاك: "فيلم لبرغمان هو جزء من أربع وعشرين من الثانية يتحول ويتمدد على ساعة ونصف. إنه العالم بين رفتي جفن، الحزن بين نبضتي قلب، غبطة الحياة بين تصفيقين باليد". لكن، لنقل إن برغمان رسام شياطين الروح، لأن في منحها هيئة، كما في منحها أسماء، قدرة سحرية على إعادة الجني إلى القمقم، على منحنا الأمل بأن يكون العالم أكثر احتمالاً لهنيهة.


لحظات حب ضئيلة، حياة أكثر احتمالاً

الأحمر، وبالأحرى النبيذي، لون الروح، لون باطن الجسد، يقول برغمان. لذا لم يخلُ، في سربند، المشهد من لمسة حميراء، حتى في الكنيسة المتشحة بالزرقة الناعمة، مثل ثوب المسيح في اللوحة، فقد ظلت كتب حمراء الغلاف توشح بعض المقاعد، وحملت لوحة المسيح وتلاميذه، نفسها، مثل هذا اللون، كأنما تعبر عن توق لملامسة الروح، بجرعات خفيفة. في الكنيسة أيضاً، في حركة نعمة، سترفع ماريان يديها أمام وجهها، منقبضة كالصلاة. لقد لمسها النور، لكن هذا النور لن يتبدى إلا لاحقاً، في رسالة مجهولة تبعث بها من وراء القبر امرأة محبوبة، آنا، أو ربما انغريد فون روزن، امرأة برغمان الأخيرة التي أهداها فيلمه الأخير.

في رسالتها، تقول آنا إن قلبها كان سكناً لحب زوجها، ملجأ له من عصف الحياة ومن شدة الحب وعلاقة الأبوة أيضاً. ربما كان فيلم برغمان أيضاً رسالة من هذا النوع، وهو حين لم يكن يكف عن إعلان أن بوسعه العيش دون سينما، لكن ليس دون مسرح، اختار السينما للإهداء، تماماً للسبب الذي يجعله يفضل المسرح: المسرح لا يترك أثراً، أما السينما فبلى. يصر الزوج المكلوم إذاً أن يترك عن هذا الحب الأخير أثراً، علامة، لكن الفيلم لن يكون نشيد الهوى، بل رسماً تفصيلياً لثقب الغياب الأسود.

في الجلسة الأولى مع معاونيه، يشرح برغمان أنه مقتنع بأن الموت هو المضي إلى العدم. لكنه يتألم لأن ذلك يعني أنه لن يرى انغريد مجدداً. فيميل إذاً إلى الخيار الثاني، الأمل الطالع من قلب الألم. لكنه في تصويره حياة الأزواج لم يكن يوماً مهادناً أو غنائياً. "سربند" ربما كان، رغم بعض الاختلافات في ثنايا الحكاية، استكمالاً لمسلسل تلفزيوني سابق، خرج فيلماً أيضاً، هو "مشاهد من الحياة الزوجية"، أي أنه مثل سابقه تشريح شديد القسوة والإيلام للعلاقات بين اثنين. لكنه أيضاً مجبول بنور النعمة الأنثوية، في طلة ليف أولمان، التي تنشر حولها ضياءً هي شخصياً، في عمقها، لا تطاله إلا لماماً، في الكنيسة أو في رسالة آنا التي أعادت لأولمان إحساس الأمومة. حب آنا الجارف يمنح بعض لحظات من السكينة والهدوء لكل من حولها، لذا كان من المفهوم أن العالم، بعد غيابها، يغدو غير محتمل بصورة أشد.

كل ارتباط إذاً أليم، لدى برغمان، بل ربما كان الألم مقياس قوة الارتباط، رغم ذلك لا مفر من الوحدة إلا إلى لحظات حب قليلة. ربما كان هذا مغزى الصورة الأخيرة التي تعرضها علينا أولمان، الجالسة إلى مكتبها، في سربند، الصورة المستحيلة في نظر الفيلم: صورتها وارلاند جوزفسون عاريين في السرير في لحظة الشيخوخة الباكية. إنها لحظة نعمة وسكن وارتجاف، لكنها أيضاً، بلونها الرمادي وصخرية أحجامها، صورة من "بومبيي" المترمدة، حجر النعمة والشقاء الإنساني. بعد تلك اللحظة، التي تحجرها الصورة، عادا فافترقا. كأنما القدرة على العيش والحب إنما تأتي فضلاً وكرما، على قول توشيح قديم، للحظة فقط، حين "نمسك بأيدي بعضنا ونتفادى الحديث عما يؤلم". ربما، فقط، نتفادى الحديث، كعجوزي كالفينو في بالومار. لكن أنى للشباب مثل هذه الهناءة؟ يعلم برغمان بإيلام تجربته كم تلي الجراح أحلام الهوى والشباب، وكم تتحول الكلمات والنكات نصالاً تجرح، لا إرادياً، وتسيل نسغ كراهيات متراكمة من لحاء الحب. لكنه يدرك أن لا مفر من هذا الجحيم الدائم سوى إليه، إلى لحظات ضئيلة منه، إلى يدين على رسالة، أو على صفحة خد.

لكن انجاز الفيلم عن الغياب هو أيضاً مصالحة الزوجين الأخيرة، رسالة أخيرة أن لا امرأة بعدها، أي هو ايمان أخير يقدمه إلينا، هو الأمل الذي ظل يشد برغمان طوال حياته إلى الارتماء مجدداً في أحضان العشق والفن، جامعاً بين وهمين ليولد منهما شرارة الحقيقة.


هول العالم وحقيقة الزمن

رغم أهمية السحر والخداع، والأقنعة، والوهم، أي التمثيل آخر الأمر في أفلام برغمان، بوصف الإيمان بالوهم فعل شجاعة يجعل الحوار ممكنا (ضع قناعك كي أعرفك) ويوسع مطرحاً للأمل، إلا أن برغمان أدرك، منذ الصبا، أن لا خداع يستطيع مخاتلة الشيخوخة، التي يظهرها أخيراً عارية، في المشهد الرائع في سربند، حين يتعرى ارلاند جوزفسون وليف أولمان، وفي السرير الضيق يحضنان شيخوختهما الباكية ويحنوان عليها من قبح الحياة وقسوتها وهول العالم، قبل أن يعود تيارها فيجرفهما مجدداً إلى الابتعاد.

منذ "الفراولة البرية"، ومشهد الجد في "درس غرامي" (الكوميديا التي مهدت لـ"الفراولة البرية")، كان برغمان يرسم جيداً مشهد شيخوخة لا يسعها أن تكون ضياءً دون ظلال، أو عتمة دون ذكريات مشرقة. لكنه كان أيضاً يصور الوقت بأقسى ما يمكن: تكات الساعة، وغياب عقاربها في "الفراولة البرية"، أو فقط أبدية الدقيقة التي لا تنتهي، كما في "همس وصراخ" و"سوناتة الخريف" و"سربند".

لكن هنالك، في ظني، مشهد أشد مركزية في قراءة لاحقة لعمله: عقارب الساعة في "صراخ وهمس"، متأرجحةً إلى الأمام، فارتداد بسيط إلى الوراء قبل المضي قدماً. لا يمكن ألا نرى في هذا التصوير المطول علاقته باستخدام الفلاش باك، ومن ثم، في مرحلة أخرى، بتضمين الماضي في قلب الحكاية الراهنة، في توتر درامي هائل بقدر ما هو غير معروض. كأنما يرسم هذا المشهد الفائق البساطة تعقيد الحاضر الذي لا يسير إلا مصحوباً بترجيعات الماضي، دائم التردد.


حرية برغمان وشعره

ينبغي الإصرار على ذلك مجدداً. لا يمكن اختصار برغمان. تعداد أعماله يملأ صفحات، وإحصاء تيماتها عمل لا نهاية له، من العلاقات العاطفية إلى العائلة وعلاقة الأبوة والبنوة، والنسوة فيما بينهن، والصورة والذاكرة والصمت والفن والتوتاليتارية والقسوة والهواجس والوساوس والاله وغيابه والموسيقى والوجوه والأقنعة والحب والزمن والغياب والأيدي والرسائل وشفرات الحوار الجارحة....

ما يمكن أن يختصره، ربما، هو حريته، وجرأته في الخروج على كل القواعد، بما في ذلك ما وضعه بنفسه، والانتقال من الدراما إلى الكوميديا إلى التجريب، ومن حبكات قصص الحب والزواج إلى الفسيفساء العائلية الضخمة، ومن تصوير القسوة إلى توليد الغبطة، كما في في ملحمته "فاني والكسندر" التي تحولت في البلدان الاسكندينافية إلى فيلم الميلاد المفضل. ينبغي أن يضاف إلى ذلك نفس برغمان في الكتابة، كما في كتابه "أبناء الأحد". هنالك دوماً اتكاء ربما على حكاية عائلية، نجهل أين تبدأ حدود مخيلته فيها، لكن برغمان الذي أخفق شاباً في أن يكون روائياً عاد فصار كاتباً كبيراً حين تعلم من السينما حريتها، فكتب بحرية لا حدود لها كتباً لا تكاد تلتزم بنسق واضح، أو براويةٍ ثابت، أو بزمن أكيد. تهبّ الكتابة لدى برغمان مثلما تعصف الريح بجزيرته فارو، حرة طليقة. كل هذا، ولم نقرأه، أو نستمع إلى حواره بلغته الأصلية لتقدير ثراء تنوعه!

إذا كان لا بد من مشهد أو مشهدين يكونان، لا تلخيصاً بل تقديماً لبرغمان، ربما جاز اختيار مشهد الساعة المذكور آنفاً، كأحدهما. أما الآخر، فقد يكون في رأيي ذاك الذي يظهر وجهاً آخر لبرغمان، انغمار الشاعر:


حين تغفين، يستكين وجهك
فمك رخو، وبشع،
تجعيدة شريرة على الجبهة
رائحتك من نعاس ودموع
أرى النبض في عنقك، وندبة تخفينها بالماكياج
اليزابيث
إنه ينادي من جديد،
سأمضي لأرى ما يريد ـ هناك، بعيداً عن وحدتنا.

Persona من فيلم


أي الشخص أو القناع

Aucun commentaire: