jeudi 3 janvier 2008

بريغوفيتش وليفيناس الابن:الموسيقى والشموس

نشرت في ملحق النهار الثقافي كانون الثاني 2006
بريغوفيتش و ليفيناس: الموسيقى بين شمس المتوسط و شمس الفلسفة



قبل أيام قليلة أنهى غوران بريغوفيتش، الموسيقي البلقاني الذي اشتهر بموسيقى لأفلام "زمن الغجر" و "تحت الأرض" لأمير كوستوريكا، أو كوستوريتزا كما تُلفظ في يوغوسلافيا السابقة، سلسلة عروضه الباريسية و مضى في الترحّل يتابع عرض أوبراه "كارمن بنهاية سعيدة" المكتوبة للأوركسترا الغجرية التقليدية التي تعزف تقليدياً في الأفراح و المآتم في تلك البلاد التي يتقاسم أهلوها خبز الزمان مع الموسيقى. و قبله استضافت باريس ميكاييل ليفيناس ضمن سلسلة حفلات "جوابات". عن الحوارات المعقودة في نسيج هذه الموسيقات هذه المقالة.

حوار المتوسط
في "كارمن" بريغوفيتش ينطلق هذا الأخير من فرضيتين: الأولى أن الغجر كالجميع يهوون النهايات السعيدة. صحيح أن لا تأقلمهم مع المجتمع ما عاد كما كان في عهد بيزيه مؤلف أوبرا كارمن الأصلية شأناً رومنطيقياً إلا أنهم سيتساءلون بحق لم على الأوبرا الوحيدة التي بطلتها غجرية أن تنتهي بالمأساة؟ والثانية أن الاوركسترا الغجرية بأعضائها غير القادرين على متابعة دراسات أكاديمية عالية و تراثها الذي يغيب عنه السرد الروائي المغنى بحاجة لكتابة خاصة إذا ما أرادت استملاك الأوبرا «الغجرية" الوحيدة، لذا قام هو بتأليف العمل محاوراً بيزيه على أرضيةٍ غجريةٍ أي على أرضية الترحال الدائم و الاختلاط المتواصل و الإقامة الدائمة خارج المكان. وإذا كلن كافافي قد استشرف من قبل أن بنك المستقبل على وشك أن يعلن إفلاسه فإن بريغوفيتش يحسب أن الماضي هو البنك الذي تستدين منه دائماً و في ظنك أنك قادر على سداد الأصل مع الفوائد. قد لا تكون هذه حالنا جميعاً لكنه على ما يبدو قد نجح في سداد الأقساط.

مختصر العمل المرشح ليتحول فيلماً هو غرام العرّافة الغجرية كليوباترا التي تقدم برنامج تنبؤات و منوعات على التلفزيون التي ترى أن الملائكة يشبهون زبالين بشنباتٍ طويلة بالزبال الغجري باكيا الحليق عند تقدمه بأغنية من أوبرا كارمن الأصلية في برنامجها، غير أن باكيا يغرم براقصة الستربتيز نينا في البرنامج نفسه و يدس لها رقم هاتفه، لكن نينا يرميه بازدراء لينتهي في يد العرافة. و في اليوم التالي تبحث كليوباترا عن محبوبها لتجده في تشييع خاله فؤاد الموسيقي المعروف الذي كان مفتوناً حد الجنون بعاهرة تدعى كارمن، يتم تشييعها في اليوم نفسه. لأجل كارمن ترك فؤاد الأغاني الغجرية البسيطة وانكب على كتابة أوركسترا ما إن بدأت فرقته بعزفها حتى انتاب أفرادها قرف من هذه الموسيقى الهجينة التي لا تشبه شيئاً فانفضت الفرقة، قبل موت فؤاد و كارمن. في المأتم يسمع أحدهم كليوباترا مقاطع من العمل على سبيل الاستنكار و يروي لها العمل فتجن به، و تمضي على طرقات أوروبا تبحث عن أفراد الفرقة المتناثرين كي تقدم الأوبرا كاملة، أثناء ذلك تواصل الحديث الأليف و الحميم مع باكيا على التلفون موهمةً إياه بأنها راقصة الستربتيز. في الفصل الثاني نرى الأوبرا التي سمعنا منها شذراتٍ على المسرح و نفهم في النهاية أن شغف كليوباترا بها عائد إلى تقاطع حياتها مع حياة كارمن المسرحية و أملها بأن تفضي هي أيضاً إلى نهاية سعيدة كما في الرواية (المسرحية المغناة بحسب الإصطلاح المصري القديم).

من أجل إيجاد خاتمة سعيدة يلجأ بريغوفيتش إلى التحوير في بنية القصة فالصراع بين ضابط و مصارع ثيران في اسبانيا ما كان له أن ينتهي بغير الدم، لذا فمن يتصارع على كارمن في روايته إنما هم مؤلف موسيقى غجري و قائد جوقة الشرطة، و الإثنان عازفا ترومبيت و التحدي الموسيقي بينهما من أجمل المشاهد و أطرفها. أيضاً يبتكر بريغوفيتش عازفة أكورديون مغرمة بالشرطي هي التي في النهاية ستمنع استدامة النزاع بدخولها طرفاً رابعاً في المسرحية.

بالموسيقى تمنع المرأة أن تتحول الفتنة ممثلة بكارمن إلى معركة دموية و بالموسيقى أيضاً ينعقد الهوى ما بين كليوباترا و باكيا، في أثناء رحلة البحث الطويلة عن موسيقى لا تقيم إلا في الصدور. الموسيقى ها هنا ليست كما لدى بيزيه شديدة الدقة بسيكولوجياً على ما لاحظ نيتشه الذي كان شديد الإفتتان ببيزيه و أوبراه حيث أنها نقيض موسيقى فاغنر. لكن حوار بريغوفيتش مع بيزيه يتم دائماً تحت الشمس المتوسطية التي هواها نيتشه و رأى فيها خلاصاً من أمراض الموسيقى الرومنطيقية. هذا الحوار لا يؤدي فقط إلى امتزاج شذرات من بيزيه بنسيج موسيقى بلقانية غجرية، بل أيضاً إلى جعل جمل بريغوفيتش (أو فؤاد) الخاصة جملاً مفتوحة من داخلها و في بنيتها على حوار مع الخارج لا تنفك تناديه و تطالب به، و ربما كان هذا سبب رفض موسيقيي الفرقة لها بادئ الأمر، أي رفضها للانتماء النهائي و الصريح، إلا أن ذلك هو في الوقت عينه جوهر الموسيقى الغجرية التي لم تكف عن التبادل و العطاء مع مختلف الشعوب التي حل الغجر بين ظهرانيهم، و التي حملت معها الألحان و الجمل من أدنى العراق إلى أقصى البلقان فأوروبا الوسطى و في الاتجاهين، طابعة إياها بنوع من التراجيديا القدرية لم يستطع إلفترياديس التقاطها في التجربة الممتعة التي قدمها مع طوني حنا و فرقة غجرية بلقانية.

فلاسفة الموسيقى
إذا كان بريغوفيتش قد اختار بيزيه المتوسطي مثله ليحاوره، فإن ميكاييل ليفيناس، إبن الفيلسوف الشهير، الفرنسي ذو الأصول الليتوانية، قد اختار، قبل ذلك بقليل "ذلك الذي يدين الله له بكل شيء" بحسب سيوران، أي باخ العظيم الذي كان أيضاً مشغوفاً بالفلسفة و لا سيما الإلهيات، ليقيم بينهما تصادياً في حفل بالمدينة الجامعية بباريس، ضمن إطار سلسلة عروض "جوابات" Répliques
عزف ليفيناس نفسه مقاطع من تمهيدات و فوغاتPréludes et Fugues

clavier bien tempéré"الكلافييه حسن التسوية"
Itinéraire على البيانو ثم عزفت له مجموعة
lettres enlacées"المعروفة و التي كان من مؤسسيها رسالتين من "الرسائل المتعاشقة
contrepoint التي كتبها لعائلة الكمان. يري ليفيناس التمييز بين الكونترابنط
الذي لم يمارسه، بحسبه، باخ إلا قليلاً جداً و بين البوليفوني الحقة حيث إن باخ لا يتصور تأليفه نوطة في مقابل نوطة بل جملة ميلودية قبالة أخرى، و ينبغي فهم قبالة بالمفهوم الفضائي، أي بوجود جمل مستقلة تتقارب و تتباعد في إطار فضائي واحد يجعلها تخلق توترات هارمونية على حدود اللامقامية. قبالة باخ، أي بمعنى ما، جنباً إلى جنبه يحاول ليفيناس رداً.

يشير ليفيناس إلى بعض النظريات القائلة بأن "حسن التسوية" لدى باخ لم يكن يعني بالضرورة السلم المعدل المتساوي التقسيم إلى اثني عشر بعداً نصف طنيني و الذي ظهر قبيل ذلك ببضع عقود، بل كان يعني فقط السلم القادر على أداء ما سيكتبه باخ. رغم ذلك من المتفق عليه أن عمل باخ أدى في الواقع إلى الترسيخ النهائي للسلم المعدّل في أوروبا و إلى إلغاء السلالم الطبيعية و كذلك أرباع الطنين (و قد نشر نداء أبو مراد مقالاً هاماً مؤخراً في موسوعةٍ فرنسية عن النقاشات التي دارت في تركيا و البلاد العربية حول هذه المواضيع في القرن التاسع عشر و مطلع القرن العشرين). كما يشير إلى أن استعمال باخ لمصطلح الكلافييه الذي يشير لا إلى آلة محددة بل إلى لوحة المفاتيح في آلات كالأرغن أو البيانو، بدل الكلافيسان المنتشر آنذاك قبل انتشار البيانو فورتيه، أي أن ما كان يعني باخ هنا هو هندسة العمل و بنيانه و ليس تلوينه النغمي أو ثوبه. و يدعم ذلك نظرة ليفيناس إلى التدوين الموسيقي بوصفه نصاً هاجعاً يظل دائما أشمل من عزفه و أبقى من تسجيله و أوسع من أن يحصر بالعزف على آلات زمانه الأصلية فقط.

في مقابل ذلك، و متابعة لبحث باخ عن البوليفوني بما في ذلك من خلال آلات ميلودية منفردة كالفيولونسيل مثلاً، يحاول ليفيناس كتابة طيفية (كأطياف النور السبعة) لا تستغني في الآن عينه عن وضوح بنيتها، و تعتني أيضاً و بخاصة بالفضاء الذي تحدده هذه الأطياف و باحساس المستقبِل ( بكسر الباء) به و شعوره به. هكذا ينشئ ليفيناس بوليفونية المفارقة فنسمع انزلاقاتٍ نغميةٍ خادعة تنخفض في حين أن المكتوب هو انزلاقات صاعدة، و نشعر من خلال جمل نغمية مستقلة بأن فضاء الصالة نفسه يدور حول محوره، و ينشئ زمن المفارقة الذي يشي في نفس الانطباع بجموده و توقفه و بحركته الدائمة. يحاور ليفيناس صرامة باخ و انتظام عالمه و سلمه المضبوط على القسمة الدقيقة، من خلال الزيف الخادع و لمعة السراب، و هو في سبيل ذلك يلجأ إلى ائتلافاتٍ ناقصةٍ، إلى استدخال أرباع الصوت التي تكشف توتر النغمة و تفتحها أمامنا تماماً على تردداتها الداخلية و ارتجافها المتواصل حتى الغياب.

إذا صدق حسبان أتالي أن الموسيقى تستبق دائماً و تستشرف العصر الاجتماعي و التاريخي المقبل فأي جواب لنا، ولا يشير الجمع هنا بالطبع إلى منطقتنا التي لا تحور جواباً على شيء و العاجزة حتى عن أن تنصت إلى بنيها، على التاريخ سوى لمعة الإيهام و بريق الزوال و غواية الترحّل و العيش في زمن المفارقة؟

Aucun commentaire: