mercredi 21 mai 2008

أناقة اللغة الوقحة



عهر البلاغة

نشرت في ملحق النهار، 18 أيار 2008

ـ حين تنتشر شظايا القنابل وشرر الرصاص، يغدو تماسك الخطاب وقحاً إن لم يكن كذابا. ما يبقى من القول إلا كتل يفتتها أدنى لمس امرأة ثكلى، أو طفل خائف.
ـ من يسائل الآن عن منطق قرارات حكومية هوجاء، عن التوقيت وجدول عفن الشرق الأوسط، أو عن تمهل المنتصر، حين تطفح بسمته بثمل النشوة المظفرة، بسكرة السلاح؟ أليس السلاح ما يحرك نفوس حامليه، بحسب بورخيس؟ خفة الدم، في هذا المقام، أو أناقة الاقناع، ليستا غير فرع من شجرة النفاق. عهر فاضح تصير البلاغة حين لا تجهر بأن "الموت يدافع عن الموت" ؟
ـ في صيف 2006، حارب مقاتلو حزب الله مثل أشباح، في أرضهم. هاهم اليوم يطلقون النار على الأشباح. هل اعتراهم الرعب من نقاء صورتهم، أم هو وسواس الدم الخفي المنسي على الأيدي يستدعي دماً أوضح؟
ـ قتلى الحروب الأهلية ليسوا شهداء، بل شهود على الحمق والكبر. دمهم لا يصعد إلى السماء العكرة، بل يظل على الأرض، لا يغسله شيء، ينبت دوماً على جلود الناجين، وفي أعين القتلة كجفن معترض.
ـ حزب الله لم يعد حزباً، بل شعاراً، كالقاعدة، يحمله حتى أعداؤه، شارة في جبينهم. كل مقاتل لبناني في شارع لبناني أصبح مدموغاً به. كل مقاتل اليوم أصبح مقاتلَ الحرب الأهلية المتمادية منذ عقود، أو أكثر، القاتل على الهوية وعلى الثقافة وعلى الاسم، والمقتات من الغنائم والغصب. هل يدرك ذلك من يفرح باحتضان السلاح؟
ـ هناك من يشدد أن النزاع سياسي، وليس حرباً دينية. كي لا تكون الحرب دينية حقاً كان الأولى ألا يتحدث المشايخ والمفتون ونواب الغائبين والمغيبين، وكان يفترض أن يكون المنخرطون فيها سياسيين أو طالبي حق (محتكمين إلى القانون). أي أن يكون ولاء حزب الله لإيران ولاء سياسياً، لا فقهياً، وأن يكون موت الناس قتلاً لا شهادة، وأن يكون المقدس واللاعقلانية والفطرة (أي الغريزة) خارج أسباب الصراع ووسائله وذرائعه.
ـ مثل بثرات مزمنة، تتكرر مشاهد القتل في شوارع لبنان. هل هو غياب العدل الذي يعيد في كل مرة نسف السلم، الذي نقدمه على القصاص؟ من يأتي بالعدل إن لم يكن من غالب، عادل أم لا؟ هل هو غياب الرواية تُسكَب في روح اليافعين كي تكسر حماساتهم إلى الظفر الحربي وتُشكّكهم في وعود الملهمين والنجوم؟ أم أنها فقط ذاكرة مديدة، تسترجع، من حين لآخر، بعض الذكريات، دون أن تحفر في جلود الناس أي وجع؟
ـ قال أحد مشايخ الحزب إن بيروت الغربية لم تعد ذات أكثرية سنية. كم نرجو لو يتحقق هذا القول. كم نرجو أيضاً لو ينطبق نظيره على الضاحية البيروتية الجنوبية، ونرجو لو يسحب الجيش السلاح، بدل طلبه سحب المسلحين إلى يملكون السلطة الفعلية، أي قادة الزعران ومقدميهم، ولو ينتشر في كل المناطق بشكل متوازن، في انتظار انتشار الانماء. عسى أن تكرهوا شيئاً....
ـ الحرب خدعة، لا ريب. المقاتل ليس شجاعاً بل مخادعاً. أطهر الناس من يتمسك بشجاعة العيش الصعبة، لا من يتلمظ باقباله على الموت.
ـ بات الفصل المثلث ضرورياً بين الحزب (الذي بات مستغنياً في التعريف عن المضاف إليه، على جلاله) ومقاتليه وطائفته. لكنه أيضاً بات ناجزاً. الحزب المتطهر لا يلغ في الدم، عكس المقاتلين الذين يموتون ويعيشون في متخثره، أما الطائفة، المزهوة (بدليل الصمت العارم) بحلم القهر الموجه إلى خارجها، فستكون أول من يتنبه إلى كونه مجرد مقدمة لعودة النصل إلى روحها. كسابقاتها، سوف تستدعي، متأخرة، الآخر لينقذها من نفسها، من السرطان المتنامي في نسيجها. حكم الطبابة أن تكون يد حامل المبضع يد الغريب.
ـ طرابلس أيضاً تستأنف ذاكرتها، لأنها حاضرة فخور وليست ضاحية شمالية. مستقبلها لا ينفصم عن أزقتها، والرابط مع العاصمة الحديثة النعمة ليس بأوثق من الرابط مع ما وراء البحار، ما قبل العولمة. رهان وحيد لوقف "عرقنة" البلد؟
ـ بين مايو الفرنسي وأيار الانتصارات، بحسب إعلام الحزب المنتصر سرمداً، أن "المخيلة تنزل إلى الشارع" في باريس، في حين يصعد الشارع إلى المخيلة في بيروت. ربما لم يكن حصاراً، إلا أن شمس الحمراء تلح على مخيلتي كأميرات القصص. بينهما أيضاً أن أيام باريس عيد الأفراد المتحررين، أما أحداث بيروت فطوفان الرغبة في الانحلال في وحدة الجماعة، لذا كان التحرر سابقاً على مايو، في حين أن السلاح مصوب على رأس أيار يستعجله الانقضاء، نحو حزيران الشهير.
ـ لا يصنع من الفسيفساء اللبنانية زرد. المطارق تكسر، ولا تصيغ، والنار تحرق ولا تصهر. رغم ذلك، لا يجد الحزب خياراً سوى اتخاذ اللبنانيين درعاً! ولا يجدر بهم اسقاط مربعاته عنوة أو كرهاً، فاللوحة تتداعى إن لم تكن عناصرها "محشورة" ضلعاً إلى ضلع.
ـ حزب الله لاعب اقليمي، وطموح كوني، أو هكذا يظن. غير أنه لا يحلم بدولة له، تلقى مصير غزة، ولا بحكومة له خارج اقليمه اللبناني. ما قام به ليس غزوة، ولا غارة، بل طلب حار للحماية. يحيا الحزب من كون الطوائف عصية على الاقتلاع، ويموت لأنها ليست، على ساحة الدول، سوى كتل من أذى منتن لا يمس سوى بأعواد الموت القابض. كأنما النصر المحلوم على إسرائيل لن يكون إلا بثمن تحويل المشرق كله خلاء. أليس هذا أيضاً معنى القنبلة النووية الاسرائيلية؟
ـ حولت اسرائيل، رغماً عنها، الأرض اللبنانية موحدة. ها إن الحزب المعادي لسياساتها يحيل، رغماً عن مقارناته المتهافتة، بيروت مفصولة عن بنت جبيل بهوة مقدسة. كم حياة تلزم لردم المقدس؟!
ـ كيف تجيب رصاصة، أو تتحدث مع فوهة رشاش؟ كيف تعود إلى بلد تسأل فيه عن هويتك واسمك ومسقط رأسك (قبل أن يعاود السقوط) من عيون غريرة الشر؟ الخائفون لا يحارون جواباً، لأنهم يركضون، ويخفضون وجوههم. في مواجهة المقنعة وجوههم (للمناسبة، لم يتقنعون إن لم يكن حرصاً على علاقات الغد الذي يغتالون؟)، لا يسع المرء أن يرد إلا بسفور الوجه الهادئ على الرصيف. أن يكرر: لستُ أنت، لستُ أنت.

انصاف الشيخ سيد درويش


إنصاف الشيخ سيد درويش: اختراع الذات

(إلى أبي العلاء)

نشرت في ملحق النهار، مطلع آذار2008

في الذكرى السادسة عشرة بعد المائة (17 آذار 1892 على ما يقال)، ورغم مرور أكثر من ثمانين عاماً على وفاته، إلا أن الشيخ سيد درويش لا يزال يثير الاضطراب في النقاشات الموسيقية. ففي مقابل المديح الإعلامي والرسمي الجارف له، واعتباره أباً للتجديد والتحديث والموسيقى العربية في القرن العشرين، فإن بعض المعلقين والنقاشات الرصينة لا تتوانى أيضا عن تحميله مسؤولية ما آلت إليه أوضاع الموسيقى (وإن كان التحميل يتم أساساً على عاتق عبد الوهاب) أو أنها ترى في موسيقى الشيخ سيد قصوراً عن مجاراة الفطاحل سواء من سابقيه كمحمد عثمان أو من معاصريه كالقباني وداود حسني، دون أن تغفل الإشارة إلى ضعف صوته وعدم صموده للمقارنة أمام كبار المطربين كمثل عبد الحي حلمي ويوسف المنيلاوي وسواهم.

بين اعتبار سيد درويش فاتحة التعبيرية العربية ومخلص الغناء المصري من عجمته التركية، بعد الفتح الحمولي الأول، وبين الحكم عليه بتواضع نتاجه وغنائه في مقاييس الطرب الأصولي ومعايير الغناء الخديوي، كيف السبيل إلى إنصاف الرجل، دونما تقديس ودونما افتئات؟ المشكلة في هذا المجال لا تتعلق بمحبة شخصية أو عامة لهذا النتاج، إذ أن الشعبية والانتشار، على ما تشهد الأيام، ليسا المعيار الأوفى في الحكم. وراء حيرتنا في التعامل مع الشيخ سيد مشكلة تحديد المعايير التي ينبغي اعتمادها مقياساً للتقدير.

فبالإمكان التساؤل عن موسيقى سيد درويش بالمقارنة مع نمط الغناء المتقن السابق عليه والمعاصر له، أي نمط الغناء الذي قام به أمثال الحمولي وعثمان والمنيلاوي والشيخ علي محمود وحسني والقباني وسواهم. هل "أجاد" الشيخ سيد درويش بمقاييس هذه المدرسة؟ هل أضاف إليها جديداً من داخلها، مطوراً قوالبها ومضيفاً إلى مقاماتها؟ بهذه المقاييس يبدو نتاج سيد درويش أكثر تواضعاً مما تحمل عليه شهرته، فباستثناء الموشحات التي أجاد وأطرب فيها، كماً (رغم أن العدد ليس أكيداً أيضاً بالرغم من مئات المقالات والكتب عنه) ونوعاً، فإن أدواره العشرة (أو الأحد عشر في قول آخر) لا تغني البتة عن أدوار الحمولي وعثمان وحسني والقباني وغيرهم، أما القصائد فلم يصلنا منها شيء، وأما أغانيه المسرحية فلم يسر فيها على هدى الشيخ سلامة حجازي الذي جعل من قصائده الشهيرة عموداً راسخاً من أعمدة المسرح دون أن يخرج فيها عن الإطار الموسيقى العام لعهد النهضة الموسيقية التي يصفها الباحث فريدريك لاغرانج بالخديوية، ويسميها نداء أبو مراد بالفصحي. أما الطقاطيق والأغاني الخفيفة فليست ترسو عليها أسطورة، على ما نعلم، وهي، على جمالها، لا تداني طرب طقاطيق عبد الحي حلمي مثلاً.

هل نقيس نتاج الشيخ سيد بمعايير "ايديولوجية" غير موسيقية؟ لقد لحّن الشيخ أغنيات للطوائف والحرف والجاليات المتعددة في مصر الكوزموبوليتية آنذاك، وغنى للوطن ومصر وسعد زغلول منتقداً الخارج والاحتلال. لكن، ناهيك عن أن هذه الأسباب لا تجدي في الحكم موسيقياً على الرجل، وإلا لفاقته طائفة كبيرة من ممتدحي الأوطان وقادتها، فإن الاعتماد على الطابع "التقدمي" للرجل يحجب عنا اختلاط نتاجه (كما هي حالنا أيضاً مع نتاج ابن خلدون الفكري) ودعوته إلى الشعبوية والإكثار من الأولاد والانغلاق دون الخارج وبقاء المرء في دائرته القروية أو وسطه الاجتماعي المغلق وعدم الطموح إلى "بنات البندر" وامتداح العريس بماله... الخ. ثم إن امتداح تخليصه للغناء المصري من عجمة عثمانية وعودته به إلى أصالته لا يتوافق، من ناحية أخرى، مع رغبة الشيخ الواضحة في تلحين أغنيات تصور جاليات غير مصرية، ولا مع توجهه إلى إدخال آلات كالبيانو وتوزيع موسيقي غربي، حرمه قصر حياته من دراسته في إيطاليا.

هل يكون معيار الحكم على سيد درويش انتشار سمعته، بعد وفاته بعقود، انتشار النار في الهشيم (رغم أن أغانيه لاقت أيضاً انتشاراً واسعاً في زمنه)، والإجلال الذي كان يقول به تجاهه معظم الملحنين الذين تبعوه، كزكريا أحمد وعبد الوهاب والسنباطي وسيد مكاوي؟ ليس ذلك أكيداً بدوره. فاتجاه زكريا، باستثناء طقاطيقه المسرحية، ليس فعلاً متأثراً بسيد درويش، ولا السنباطي بطبيعة الحال، أما تغريبية محمد عبد الوهاب فهي تتلطى وراء "نوايا" سيد درويش المفترضة لا وراء نتاجه، في حين أن تبسيطيته أتت متأخرة، حين شاء منافسة فريد الأطرش ومن ثم الموجي والطويل وبليغ حمدي. بل لعل الأقرب إلى القول أن القصبجي كان أوسع تأثيراً في معاصريه من سيد درويش، فعبد الوهاب اتبع النهج الذي فرضه القصبجي من خلال أم كلثوم وتحويل "تختها" إلى فرقة وكتابة لوازم موسيقية ودمج الآريا الاوبرالية في الغناء الشرقي من خلال تطوير فكرة المونولوج... الخ، أما السنباطي، في بداياته، فكان شديد التقليد للقصبجي، وقد نقل عنه بليغ حمدي قوله: "يا ابني، احنا كلنا كنا القصبجي"، وإن كان يُفترض استثناء زكريا أحمد من هذا التعميم.

رغم كل ما سبق ذكره، لا يمكن إنكار أن أعمال الشيخ سيد درويش تلقى قبولاً واسعاً، حتى لدى متذوقي الموسيقى الخبراء، وسهولة في الاستماع إليها بخلاف الأعمال التراثية الأخرى الأقدم، ناهيك عن "خفة الدم" الاسكندرانية فيها وتنوع مناخاتها وأجوائها. لذا أحسب أن من الواجب التنبه إلى أمور ثلاثة، متفاوتة المجال والأهمية على ترابط في ما بينها، في شأن نتاج الشيخ سيد، ألا وهي الجملة الموسيقية الدرويشية، وتطور المسرح الغنائي إلى مجال السينما، واختراع الذات والأنا في الغناء.

فجملة الشيخ سيد درويش الموسيقية، حتى إذا ما غضضنا النظر عن علاقتها بالكلمات ذات الطابع المسرحي غالباً، تشكل ابتعاداً عن الجملة المطولة التقليدية في الطرب، مثلما تشكل مرحلة أعقد من الأغاني الفولكلورية الشعبية البسيطة. إنها تأليف غير مطوّل، ولا يتطلب، أغلب الأحيان، أصواتاً جبارة لأدائه حتى في الأدوار، وهي تنقسم غالباً إلى وحدات أصغر منها وتتفادى بشكل كبير عرض هذه الوحدات على السلم الموسيقي المستعمل، مفضلة التكرار الحرفي وتجاور الأجزاء المختلفة، الأمرين الذين يمنحان هذه الجملة حيوية لافتة وزخماً متجدداً. هذه الجملة، البعيدة مثلاً كل البعد عن جمل سلامة حجازي بعدها عن "شغل" حسني والقباني الزخرفي البديع الصنعة، باتت أساساً لجلّ ما أتى بعدها من جمل موسيقية، فكانت فاتحة لأفق استماعنا المعاصر. فكان من نتيجة ذلك أن استماعنا لما سبقها باتت يتطلب دربة واجتهاداً لتحصيل القدرة على تذوق سلس، وأن استماعنا لما تلاها يزيد من استساغتنا لها. هذه الجملة "الدرويشية" لا نجدها بالطبع عند القصبجي الرصين، ولا عند السنباطي في بداياته رغم سلاسته، ولا عند زكريا أحمد أو حتى عبد الوهاب حين كان يغني "جارة الوادي" والمووايل الطويلة. إلا أنها عادت بقوة لتشكل مرتكزاً عملياً ونظرياً لكتلة ضخمة من الغناء عند فريد الأطرش ومحمد فوزي، ثم محمود الشريف والموجي وغيرهم، مثلما عبرت أيضاً إلى الرحابنة وبعض الحلبيين (على فرادة مخيلة بكري الكردي). تزامن ذلك أيضاً مع ايديولوجيا التحديث التي تزعمها عبد الوهاب، ومن ثم مع الثورة الناصرية التي سمحت بإعادة تسليط الأضواء على أسطورة الموسيقي المجدد الميت شاباً والذي طمسه عهد الملكية لأسباب سياسية... الخ.

ارتبطت هذه الجملة وتشكلت على الأرجح في المزيج الاثني والحضاري والمتوسطي الذي كانته الاسكندرية، كما ارتبطت بشكل واسع بالتلحين المسرحي الذي قام به سيد درويش، وتحيداً بنظرته إلى المسرح والغناء فيه بوصف الغناء أيضاً "تمثيلاً" للحالة المقصودة ولهجاتها ومشاعرها، ويفترض به أن يكون صادق الوصف موحي الدلالة على الحرفة والطائفة واللكنة. ويمكن أيضاً متابعة هذا التوجه، حين انطفأ المسرح الغنائي المصري لتضاء صالات السينما بأنوار النجوم، مثل عبد الوهاب وليلى مراد، وأيضاً بأدوار ممثلي الصف الثاني وأعمدة الأفلام الراسخة، كاسماعيل ياسين ومحمود شكوكو وثريا حلمي وسواهم. صحيح أن المعطى الاجتماعي "التقدمي" التوجه قد خفت بشكل كبير، إلا أن تمايز ألحان الشخصيات ورشاقة الجملة الدرويشية ظلا ماثلين ومثالين لما ينبغي فعله في التلحين للسينما حتى في أغانيها العاطفية.

هذه الرشاقة المشار إليها، وعدم تطلب غالبية ألحان الشيخ سيد لأصوات قديرة، وسهولة تناولها وتنوع مواضيعها، تزامنت في الواقع مع بدايات حقيقة لتكوين الفرد في المجتمعات العربية في بداية القرن العشرين، الذي كان من دلائله العديدة بدء مسار سياسي وحياة حزبية مصرية، وترافق ذلك مع انتشار الصحافة وبداية ترسخ الرواية، وتخلخل الرسوخ الطبقي السابق، وانتشار الغراموفون أبعد من منازل الأثرياء، وازدياد النزوح نحو المدن... الخ. في هذا السياق، يمكن القول بأن الفرد الناشئ وجد في أغنيات الشيخ سيد درويش ما يتخطى الأغاني الشعبية الفولكلورية، مع السماح له في الوقت عينه بأن يؤديه بنفسه تعبيراً عن مرحه أو عن خلجات مشاعره. في هذا الإطار ربما يجب وضع "التعبيرية" لدى سيد درويش، الذي لا يعبر عن الكلمة بمرادف موسيقي لها (وإن صادف ذلك في "يا ساتر" في لحن الشيطان فإنما هو استثناء)، بل يسمح للفرد بأن يجد صوته الخاص المعبر عن أناه، سواء الوطنية أو العاشقة أو ذات الشجن. لقد طمس أداء أم كلثوم وعبد الوهاب الأول هذا الوجه من موسيقى سيد درويش، إلا أن ازدياد بحث الأفراد الناشئين عن أصواتهم، وتحول السينما أيضاً إلى مرآة يرغب الناظر برؤية نفسه فيها، أعاد بشكل خفي الاعتبار إلى التوجه الدرويشي. كما أن "مضمون" الاستماع الوهابي والكلثومي كان يبحث غالباً عن هذا التماهي مع المطرب، لا عن مسافة ضرورية للحكم عليه، من أجل تحويل المغني لساناً ناطقاً بحال السامع.

لقد نظّر نجل الشيخ سيد بمفعول رجعي لهذا الأمر حين اعتبر أن ادوار سيد درويش إنما تروي جزءاً من سيرته العاطفية (دونما اعتبار لتاريخ صدور هذه الأدوار أو تسجيلها). بهذا التوجه بات الشيخ سيد درويش الصورة الأولى الواضحة (بعد الصورة المشوشة لعبده الحمولي) لفكرة "المؤلف الموسيقي" من حيث كونه "شخصية فنية" ذات سيرة وليس حرفياً صاحب صنعة، مانحاً أيضاً المستمعين إمكانية أن تكون لهم سير وشخصيات تحتاج معبراً عنها ومتنفساً لذاتيتها من خلال التماهي معه وإمكانية توقيع الصوت الفردي على نتاجه.

يحسب للشيخ سيد أنه يلزمنا بطرح كل هذه التساؤلات وسواها، ويشكل بؤرة تتوجه إليها أنظار البحث في الوقت عينه الذي يشكل فاتحة لأفق وعهد جديد، ربما لم يكن ليتبناه شخصياً بحذافيره. إلا أن من المؤكد أن تقدير الشيخ سيد درويش والإنصاف فيه يتطلبان التنبه إلى عدم جواز الحكم عليه بمعايير ثابتة، سالفة أو لاحقة، بل يتطلبان التنبه إلى أنه عمل داخل إطار القوالب التقليدية الموروثة، فارضاً على هذا الإطار دوراً ومضموناً ووجهاً غير مسبوقين، في الوقت عينه الذي شكل فيه جسراً بين مرحلتين (على غرار لبنان جسراً بين عالمين)، الأمر الذي يحرمه من الانضواء بشكل كامل في احداهما. من بركات الشيخ، وهي لا تحصى، تنبيهنا إلى أن النسق الغنائي النهضوي لم يكن نسقاً مغلقاً، ولا ينبغي له أن يكونه، بل هو نسق حيوي قادر على التجدد وتطوير معاييره، وتنبيهنا في الوقت عينه إلى الثقل الرمزي والوطأة المادية حين تتحملهما قنطرة الجسر حتى لتكاد ملامحها تغيم تحتهما.

منتديات الموسيقى


الموسيقى والانترنت
نشرت في جريدة الحال الفلسطينية


بات من الثابت أن اختراع الأسطوانة القديمة غيّر عميقاً في بنية الموسيقى الشرقية التي كانت تقوم على مبادئ التتابع المنظّم في القطع (كما المقام العراقي، والوصلة المصرية). ذلك أنه اضطر الموسيقيين والمطربين إلى ضبط أدائهم في حدود الأسطوانة زمناً، مما فكك عرى هذا التتابع وفرط وحدته، باستثناءات قليلة في بعض الأسطوانات الأكثر قدماً.

إلا أن الاسطوانة غيّرت بشكل أعمق ربما هذه البنية حين استدخلت شركات الانتاج في عملية توليد الموسيقى، فظهر الملحّن، بمفهومه الحديث، وظهرت حقوق الملكية التي تستغلها الشركات. أدى هذا، وكانت مصر سبّاقة في التعرف على هذا التحول، إلى زيادة منسوب عمل الملحن بالنسبة إلى المطرب، وتقليل مساحة الارتجال، وإلى احتكار بعض الشركات لهذا اللحن أو ذاك ومنعه من التداول وتضافر مخيلات المطربين المختلفين على اغنائه، مثلما كانت الحال في السابق. شيئاً فشيئاً، ظهرت أيضاً الفرق التي حلت محل التخت، وكان عازفوها باطراد من خريجي المعاهد الموسيقية التي استقرت على ضرب من التعليم يختلف عن التلقين بالمشافهة والمعايشة ومصاحبة أهل الفن.

يدل هذا على أن ليس بالإمكان فصل الموسيقى، كنتاج فني، عن عملية الانتاج نفسها، وما يرافقها من شروط مادية أو تعليمية أو قانونية. ونحن ربما على عتبة تغيير غير مسبوق، سواء في فهم الموسيقى أو في تعلمها والاثنان يسيران جنباً إلى جنب، في عصر الانترنت هذا. فمن محاسن هذا الاختراع أن بعض العرب رؤوا فيه مجالاً نادراً للاستفادة من تقنيات "التخزين الرقمي" من أجل الحفاظ على تراث منقرض وتبادله. إلا أن موضوع المنتديات الموسيقية، وهي كثيرة مبذولة مجاناً لمن يشاء، يتجاوز فكرة التخزين والأرشفة، إلى كونه أيضاً يسمح باخراج كنوز مستغلقة من خزائن الجامعين القدامى، ووضعها في متناول من يحب هذه الموسيقى، ويسمح بالتالي بقراءة أفضل لتطورها واجراء المقارنات الدقيقة بين الصيغ المختلفة أو الحفلات المتعددة التي شهدت أداء أغنية أو قالب ما. وإلى جانب الفهم الأصوب للموسيقى، تؤدي المنتديات والمواقع الموسيقية خدمة ضخمة في تعريف أبناء كل بلد عربي بتراث البلدان الأخرى، من المغرب إلى اليمن، بما يتضمنه من قوالب وايقاعات وأنغام، فضلاً عن تقريب كل هذا ايضاً من الموسيقى الايرانية والتركية وغيرها.

المنتديات إذاً أداة فهم ودراسة للدارسين، وأداة "تثقيف" لأذن المستمع وأصابع العازفين وأرواحهم، لمن يجدّ. فضلاً عن أنها، في الحالة الفلسطينية تحديداً، تسمح بتجاوز أسيجة الحدود المسننة، أو المناسبات العالمية المتباعدة، لتعرف الفلسطينيين بالعرب والعرب بالفلسطينيين ومدرسة عازفيهم البازغة، في مجال العود خصوصاً. لا شك أنه لا يزال من المبكر الحديث عن نجوم عبر الانترنت، كما بدأ يحصل في الغرب كما الصين، إلا أن التثاقف الذي يفرضه الانترنت لا شك سينتج أمزجة جديدة وموسيقيين أوسع اطلاعاً على مسيرة الموسيقى الشرقية وأرسخ قدماً في الدرب التي سيقطعونها في اغناء هذا الفن.

الانحناء على جثة لبنان، حنو وليد صادق



الانحناء على جثة لبنان
نشرت في ملحق النهار في تموز 2007


في بينالي البندقية العالمي، وفي إطار المشاركة اللبنانية الأولى من نوعها، قدّم الفنان وليد صادق عملاً بعنوان "الحداد في حضور الجثة" طرح فيه ما يلوح لنا أسئلة بالغة الأهمية عن عجز اللبنانيين عن الحداد ـ معاً، وكيف تم إفراغ الدماء المؤسسة للوطن من وطأتها الرمزية وذلك من خلال الهرب إلى غنائية مظفرة عن الوطن الحلمي.

هذا العجز المزمن تبدى مراراً في التاريخ اللبناني القصير، وهو يهدد مرة جديدة لبنان المعاصر، بعد انتهاء معركة التحرير وفي خضم معركة الاستقلال، إلى حد أن الجثة التي قد يوجب علينا أن نبكيها قد لا تكون هذه المرة سوى جثة الوطن نفسه.

لم ينشر صادق بعد نصه بالعربية، لذا لا محيد عن تمهيد لا يخلو من بعض تلخيص، مخل وناقص ضرورةً، تمهيداً لمماشاته، وعجزاً عن مجاراته، إلى تخوم النقاش الذي نحسب أنه لازم للخروج من الزمن اللبناني الدائري والدموي.

الحداد زمن حضور الجثة

تبدأ الرحلة في قاعة عزاء حديثة البنيان، ناصع بياض جدرانها، خالية من شواهد آلام المسيح وقيامته. يغدو البياض إذاً أفقاً لا يسع الميت أن يتخطاه نحو خلاص نهائي. التابوت المفتوح يجعل حضور الجثة يخرس ألسن الحكواتيين اللذين، ما إن ينطوي على صاحبه، سيشرعون في الحكاية التي تجعل الميت ميتاً والفراغ الذي تركه بياضاً ما بين الكلمات.

في القاعة أيضاً، المترمّلة Not yet widow (تمييزاً لها عن وضع الأرملة الذي لم تبلغه بعد، ولن تبلغه قبل أن يغادر "زوجها" نحو الحكي). المترملة، في وصف صادق، هي التي أسقط في يدها اسمٌ لا تدري ما تفعل به. اسمٌ فائضٌ لا مسمى له، بعد الآن، هناك محرقاً في راحة اليد، وعلى رأس الأنامل.

يستعين صادق بحكاية هينريش زيمر ليثبت أن الصمت ضريبة الجثة. لا يسع الملك أن يأخذ الجثة لدفنها إلا متى غار في الصمت أمام سؤال شبحها. حين طرح عليه الشبح لغزاً أخيراً، بهت وتحيّر، وظلّ سادراً في صمته، عندها منحه الشبح الجثة. والحق أننا نرى في حالة البهت شلل الفكر، لا جداله مع نفسه، وعجز الأفكار عن تخطي تحدي التجربة ـ الحد، لا تناسلها من هواجسها.

أياً كان الأمر، لا شك أن المرء إذ يدخل زمن الحداد يتقدم مثقل الكتفين بحمل إضافيّ فائض، حمل الجثة التي لم تتبخر بعد في فضاء الحكايا.

منتقلاً من مستوى العائلة إلى الوطن، يتساءل صادق كيف يمكن للناس أن يساعدوا المرء على الاستعداد للموت والتهيؤ لقبوله (أي القيام بما يبدو وظيفة المجتمع الأساسية)، إن كان هنالك خلاف على قيمة الموت نفسه؟ لم يسمع أحد دعوات المثقفين الكثيرة إلى التوحد في ظل العذابات المشتركة. ذلك، في رأي صادق، أن للموت معاني كثيرة وقيمة متفاوتة بحسب الجماعات والطوائف. وفي ظنه، على ما يلوح، أن التوحد لا يتم سوى في حضور الجثة وزمنه. لكن الشهادة التي يرفع إليها المتحاربون المختلفون قتلاهم تحرجها الجثة.

وحده كان يسمح بمثل هذا الصمت الواعي، بحسب صادق، تمثال الشهداء القديم الذي نحته يوسف الحويك، مصوراً "مترملتين" لا تتلامس أصابعهما المحيطة بإناء الرفات المترمد. لكن سرعان ما تم استبداله، بما نحته الإيطالي مازاكوارتي الذي يصور، على العكس، الشهداء حشداً ومسيرةً (لا رفاتاً مترمداً) نحو النصر والحرية الظافرة. عنى هذا الاستبدال، في نظر صادق المستشهد بكتاب تويني وساسين عن ساحة البرج، انتقالاً من حالة الحداد إلى الاحتفاء بالنصر.

زمن الحداد الإيروسي

يبدو زمن الحداد في حضور الجثة إذاً زمناً "إيروسياً" بامتياز متى تذكرنا وصف سقراط في المأدبة لإيروس" ابن أبولون والشحاذة، ذاك المتقلب بين السعادة والأسى، بين الصحة والمرض، بين الوصال والجفاء، دون أن يبلغ حداً لأي حال.

فالمترملة هي الفقيرة التي لم تفارق زمن الزوجية ولم تفتح آفاق الآتي، والحاضرون بين التفكر في أثر المآل النهائي الذي ينهي بالإخفاق كل المشاريع وبين عافية يحسدون عليها. إنها، بخاصة، اللحظة التي تسمح بابتكار المعنى، وهي "قابلته" على ما يصف سقراط، نقلاً عن ديوتيم، "الشيطان ايروس". بيد أن المعنى هنا لا ينبع من لقاء وجه بوجه، على ما في عمل ليفيناس، بل من المثول حول الجثة، أي من الاجتماع في دائرة حول الحد النهائي لأي معنى. لا وجهاً لوجه، بل التحلق بأنظار مصوبة إلى مركز الدائرة. المعنى هنا يأتي من تلاز الأجساد التي يسمح لها حضورها معاً بالخروج من زمن الجثة إلى الحكاية، أي إلى زمن اللغة والتواصل، كأنما سؤال الموت يفتح أفق المعنى في الوقت عينه الذي يشكل فيه جداره الأخير.

إلى حدّ ما، يمكن القول أن وليد صادق يعمل، على مدى أعمال عدة وبصبر دؤوب، على نسج حكاية أخلاقية تبحث في بنى اللقاءات والمجتمع، عبر ردها إلى مفردات لا محل فيها للنفسانية: الأب والابن أو الابنة، الرجل والمرأة، الانسان والأرض، الجثة ومترملتها، الأجساد والجثث، الجسد والوجه... الخ.

لكن اللقاء الأصلي ليس لقاء وجه الآخر، بل لقاء أجساد حية في حضرة جثة في غرفة بيضاء ما بها من صورة خلاصية. في هذا اللقاء يجد صادق نواة الاجتماع، لكنه يجد أن ما يمنع اللبنانيين منه إنما هو اختلافهم في تقدير قيمة الموت. لذا يمكن الاستدراك عليه أنهم في حقيقة الأمر لا يختلفون على هذا الأمر. فصادق يعلم جيداً، وهو عالج ذلك في عمل سابق بعنوان "جاين لويز تيسيه"، أن المتحاربين جميعا يحيلون شهداءهم وجوهاً بارزة السفور الواضح، في حين يتلثمون هم بالأقنعة واللحى والكنى. أي أن شهداء المعارك، أياً كانت وأياً كانوا، هم دوماً وجوه حاضرة بل جثث. تختم أكفانهم وتوابيتهم على عجل، ليكون التحلق حولهم إعلاناً عن اعتزاز الجماعة بقدرتها على تقديم ضريبة الحرب، لا صمتاً في حضور الجثة على طريق المعنى.

الفارق بين اللبنانيين إذاً ليس في اختلاف قيمة الموت، بل في طبيعة الجماعة. فمنهم جماعة "محاربة" وأخريات ندعوها تجاوزاً "مسالمة"، أي أن الأخيرة لا تحل قتلاها الشهداء في إطار معركة تسوير الجماعة، بل تسوير الوطن، إذا صدقت بالطبع.

بالمقابل، حين كانت كل الجماعات اللبنانية متحاربة، لم تكن اجتماعاً موحداً. ينبغي إذاً البحث عن سبب آخر لهذا الافتراق المزمن.

زمن ما بعد الحرب، لا زمن السلم

يكفي ربما أن نتساءل عن مبرر هذه السهولة التي يميز بها صادق ما بين الوجه والجس، وبين الجثة والشهيد. يرجع ذلك حتماً إلى نقطة أصلية هي الخروج من زمن الحرب إلى ما بعدها، أي إلى ذاك الذي يسميه صادق تجاوزاً زمن السلم، وما هو بسلم. فبحسب قوله في "جاين لويز تيسيه"، فإن الوجوه في زمن الحرب تتوارى، ما عدا الشهداء السافرين، في التشبه بالجماعة وحياضها، أما في زمن "ما بعد الحرب" فهي تتلطى جاهدةً في سعيها نحو إزالة قلق الحرب ومعانيها وآثارها عن صفحة الوجه المليسة.

أي أن في الإمكان أن نحدد في هذا الخروج من ومن الحرب إلى ما بعدها نقطة الإنطلاق في فكرة صادق عن استحالة السفور اللبناني، إذا ما كان السفور يعني الاختلاط وفساد الترتيب وآثار العيش ومواطن الاختلاف وسوء الفهم. في زمن الحرب وفي ما بعدها، يغيب الوجه الخاص الفردي السافر ولا تحضر إلا الأجساد أو وجوه الشهداء المعلقة على أسوار الجماعة.

الأيقونة والخلاص، ابتلاع الأسئلة

هذه الأجساد لا تنحو صوب الاجتماع واللقاء رغم تحلقها حول أموات جماعاتها، ذلك أنها لا تصمت حداداً، بل تهزج، هاذية بخلاص جماعتها وانتصارها.

لا يمكن لزمن الجثة أن يكون قابلة المعنى واللحمة ما لم يؤدي سؤالها إلى بهت الفكر وتحيره. لكن في حضور الأيقونة والقرآن، وهزج الشهادة ما ردّ به الإنسان (أو توهم الرد) على سؤال الموت. لذا كانت إشارة صادق إلى غياب نموذج القيامة الخلاصي أساسية في رسم مشهده الأول في الغرفة البيضاء.

يصير التخلي عن أفكار الخلاص والمهدوية والمسيحانية والقيامة والبعث والنصر النهائي على آفات الحياة وشرورها شرطاً لازماً وأساسياً كي لا تبتلع شبكة الأوهام والتأويلات المسبقة سؤال العيش والموت وأسئلة الاجتماع والزمن (كما في خطاب سياسيينا)، محولة إياها إلى أقنعة وأدلة زائفة على ما سبق التيقن منه والإيمان به.

علينا إذاً التمثّل بباكيتي الحويك اللتين يسميهما صادق بـ"المترمليتن". رفات من ذا الذي ترملت به وأيمت المسيحية والمسلمة معاً وتنحنيان عليه حانيتين؟ ربما يكون لبنان، الذي ذات يومٍ قريب اقترح عليه (وعلى العرب جميعاً) حازم صاغية أن يعلن الاستسلام والهزيمة أمام الغرب، فيما اقترح عليه ساطع نور الدين اعلان الهزيمة والاستسلام أمام النظام السوري. لبنان ذا الذي لا تعده الأناجيل ولا القرآن بالبعث والخلود. جثة لبنان على ما نعاين، سواء لبنان ـ الحلم أو لبنان ـ الساحة، بدأت عملها النشط في الجانب المظلم من الكينونة. ربما، إذا ما انحنينا عليها، نصمت معاً، وندخل معاً في زمن الحداد، وربما ـ ربماـ زمن السلم والمعنى.

وودي يفوز


"نقطة المباراة" لوودي آلن
العدالة في ملعب التنس

نشرت في ملحق النهار في تشرين الثاني 2005

مرّة جديدة يُكذّب وودي آلن كل القائلين بنضوب موهبته وخلو جعبته من المفاجآت. ها هو يعود، من لندن هذه المرة لا من نيويورك الأثيرة، ويحقق نجاحاً باهراً، بعد فترة من النجاحات النسبية منذ "احتيالات صغيرة". إلا أن انجازه لا يقتصر على النجاح الجماهيري المستحق، أو على تغيير اللهجة التي اعتدنا عليها في أفلامه. الفيلم مفاجئ في العمق منذ أول نوطة في موسيقى الجنريك وحتى مفاجأة الختام، إلا أنه على خلاف ما حسب البعض، ليس على قطيعة تامة مع ماضي وودي آلن السينمائي، بل على حوار أكيد معه.

ثقافة الأسياد

بذوق الخبير المحنك يختار آلن الأوبرا (بدل الجاز المعتاد) يرافقها حفيف الأسطوانات القديمة، متجنباً نقاء الأقراص المدمجة المعقم. اختيار محنك وهو في الوقت عينه تحذير للآذان التي ألفت قََطْع الموسيقى عن حرارة الحياة لتبتلعها مُغلّفة دائماً بالسيلوفان. منذ البدء، يظهر وودي آلن التمييز إذاً بين اختيارات الخبراء، وبين الاختيار الذي كان أي حديث عهد سيعتمده. وهذا هو التحدي عينه الذي سيحاوله بطله كريس، الذي يعلن محبته للأوبرا في صورة من يتحدى مخاطباً محدثة الأرستقراطي ذا النبرة الساخرة، صهره لاحقاً.
كريس مدرب التنس الذي سيترقى اجتماعياً في لندن بزواجه من فتاة ارستقراطية بعد أن أتى من أصل إيرلندي متواضع لأب اكتشف المسيح بعد أن خسر رجليه كما قال. تحدي كريس أن يثبت أنه يمتلك ثقافة "الأسياد"، أي أنه ليس مجرد قردٍ يقلدهم. لا داعٍ للشك في ذلك حين نستمع إلى حديثه، لكن وودي آلن بخبث خفي سيكشف للمشاهد ما لا يعلمه أحد: كريس مفضلاً قراءة حياة دوستويفسكي على قراءة مؤلفاته. العلامة الأكيدة على حداثة عهده بكل ما يلح على صَبْوه إليه، وإن كانت الثقافة الانكليزية ستتسلل إلى أعماقه كما يُظهِر في الختام المشهد الماكبثي. في المحصلة نفهم لماذا يصعب على كريس احتمال أي خطر يهدد نمط حياته أي، بحسب ما يرينا آلن، الأوبرا والمتاحف والمعارض والخيول...إلخ. لا شك في أن الثقافة تولّد حرصاً عليها يكاد يشبه الجبن، ومثال تسليم باريس خوف دمارها مرتين في الحرب العالمية الثانية خير دليل. غير أن الخطر الذي يهدد كريس له اسم جميل الوقع: نولا، الممثلة الأمريكية المبتدئة وخطيبة صهره المستقبلي توم.
ليس من قطيعة واضحة بين الثقافة وبين الطبيعة، في الفيلم، إلا أن الثقافة تبدو أساساً سلطة ترويض للجسد، وما فشلت فيه العائلة الأرستقراطية حيال نولا، التي سيتركها توم لاحقاً، سينجح إلى فيه إلى أبعد الحدوود حيال كريس، (الانتهازي أم الطموح؟)، وهو ما كانت الأمريكية الجميلة واعية له منذ البداية، كما يطهر من حديثها مع كريس في الحانة، وهو الحوار الذي يلتقط وجه كريس في لقطات قريبة ممنتجة (خلافاً للشائع عن طريقة وودي آلن) كأنما الكاميرا تبحث في وجهه عن قرينة ما، عن دليل على الوجهة التي سوف يتخذها، هو المشغوف صبوة، الذي يغازل بالأسئلة وكأنه هو التلميذ الذي لا يحور جواباً، حيال خبرة نولا وسطوتها وبهائها.

كرة المضرب وكرة الطاولة

يبدأ الفيلم باصطدام كرة المضرب الصفراء بالشباك، فيما صوت من خارج المشهد المتباطئ يشرح أهمية الحظ في الحياة، وهو ما يتمناه توم لوليد كريس في نهاية الفيلم. إلا أن معنى الحظ سيتغير بالنسبة إلى المشاهد في خلال الفيلم، لأن لقطة مماثلة للقطة الكرة ستصور لنا اصطدام خاتم زواج بحافة حديدية قبل النهر. أبعد من تشابه الكرة والخاتم في اللون والاستدارة، ومن السخرية الخفيفة والدائمة لدى وودي آلن من نجاح العلاقات الزوجية، ينجي سقوط الخاتم هذه الجهة أو تلك امرئ من السجن ويدين آخر.الحظ بالطبع!
لكن الجمل تتطاير في الفيلم شأن الكرات أيضاً، لذا تندر في الفيلم المشاهد التي تضم أشخاصاً ثلاثة، ويكثر الشفع (شخصان، أو أربعة يشكلون فريقين) وثمة غالباً فائز وخاسر. وإذ يلعب كريس كرة الطاولة مع نولا (وعلاقتهما ستكون ككرة الطاولة، متفجرة السرعة، لا متمهلة وتصاعدية كالتنس) فإن دخول خطيبها سيحوله سريعاً من خصم إلى حكم يريده توم متواطئاً في الحكم على جمالها. وكما أن للطاولة قواعد وتقنيات مختلفة تماماً عن التنس، فإن كريس خبير التنس ستتجاوزه الأحداث في كل مرة مع نولا التي رسمت الكرة البيضاء الصغيرة نجمة لقائه بها.
ثمة استعارة "رياضية" أخرى هي الشباك، التي تشكل النوافذ رجعاً لها. والعربية التي تقارب بينهما بليغة الدلالة. الشباك هو دوماً الشبكة التي لا يصطدم بها النظر، بل يخترقها، إلا أن الشبك أيضاً حد فاصل بين ملعبين لا يجوز تخطيه. النظرات تتقاطع أحياناً، إلا أن العبور إلى الجهة الأخرى هو دوماً الخطر الذي لا يفلح كريس في تجنبه. والشباك أيضاً عين الروح ودليلها إلى شقق وسيعة ثلجية البياض، وأخرى حميمة دافئة رغم تقلب الفصول. هكذا تؤدي استعارة الشباك نفس الدور الذي كانت تؤديه استعارة العين في فيلم قديم لوودي آلن: "جرائم وجنح" (1989).

جرائم وجنح

الحق أن قصة "نقطة المباراة" كانت متضمنة في "جرائم وجنح": علاقة غرامية تهدد نمط حياة رجل ثري. إلا أن الفيلم الجديد يتخفف من القصة الساخرة الموازية التي كانت تدور حول شخص وودي آلن، المخرج الوثائقي، وغيرته من صهره المنتج الناجح لمسلسلات تافهة. بالمقابل يثري آلن فيلمه بالتفاصيل في صورة الطموح، الراغب في الترقي الإجتماعي، الأبيّ ظاهرياً والذي يريد الدفاع عن نمط حياة ليس هو هدوء العادات الرتيبة، بل هو الثقافة، التي لا تعفي في نهاية الأمر من جبن وتخاذل ولا من ضِعة أو خبث.
كما أن المقارنة بين الفيلمين تؤكد ما كان ذهب إليه غومبروفيتش، في "البورنوغرافيا" خصوصاً، من أن الكبار عاجزون عن القتل إلا بالواسطة، كما فعل جوشوا في "جرائم وجنح"، بعكس الأصغر. في الفيلمين يتحاشى وودي آلن تعقيد المشكلة الأخلاقية (القتل) بمشكلة أخرى (إدانة بريء)، ففي الأول يختفي المجرم وفي الثاني يدان ميت. غير أن الرد على امتعاض البعض من لا أخلاقية غياب العقاب على الجريمة في "نقطة المباراة" يجد جوابه في "جرائم وجنح": في مشهد متخيل، تناقش العائلة غياب العقاب رغم فظاعة الجريمة، وتقول العمة إن الخيار متروك للمجرم، ما لم تمسكه الشرطة، فإما أن يختار عذابه النفسي، وإما أن يعيش متجاوزاً كل ذلك. وهو ما يردده جوشوا في النهاية، رغم تذكيره ببعض نوبات الشعور بالذنب التي تخفت من ثم وتتباعد. إلا أن وودي آلن يجيبه بأن أسوأ مخاوفه هي التي تتحقق في هذه الحالة: العالم دون ضابط، أو معنى، أو مبرر، وهو ما كان يسع العدالة أو قدراً قليلاً منها، أن تشكله.
إذ يعود أمر العدالة إلى الفرد، يتناسى كريس جملة أخرى لدوستويفسكي، هي التي بنى عليها ليفيناس إطيقاه: "الكل مسؤول عن كل شيء وحيال الكل، وأنا أكثر من الجميع".

الجسد في الزمن، وفي المدن


نشاط لبناني في التارماك:


أسئلة الزمن والمدينة إذ يعبرهما الجسد
نشرت في ملحق النهار، في تشرين الثاني 2005


شهد مسرح التارماك الباريسي المخصص للفن الفرنكوفوني نشاطاً لبنانياً متميزاً في ختام موسمه الأول بعد إعادة فتحه. ففي معرض استقباله لمسرحية "بيوخرافيا" للينا الصانع و ربيع مروة، والتي سبق عرضها في بيروت، عرض التارماك أيضاً لثلاثة فنانين : "كوارث" لعمر فاخوري، و "طائرات ورقية ـ بيوت" لفلافيا قدسي، و "كتب" لهانيبال سروجي. كما خصص، في 30 تشرين الأول الفائت، يوماً لعدد من أفلام الفيديو اللبنانية، فقدم أفلام "دائرة حول الشمس" لعلي شري، "السقوط الأخير" لنسرين خضر، "لا شيء يهم" لعلي قيس، "حديث نسوان" لدانييل عربيد، "وا" لزياد عنتر و "جيبرالطار" لغسان حلواني.

ثمة تصادٍ خافت بين ثلاثة على الأقل من هذه الأعمال يحيل المرء على أسئلة شائكة إذ تتقاطع فيها خطوط الزمن و المدينة والأطلال، على التباس جميعها بموضوع الجسد الذي يحيا ويعبر وينتهي إلى الخيبة أو اللامبالاة ما لك يتدخل سحر القص ليجعله حجراً فيهنأ، على ما كان تمنى الشاعر الجاهلي.

يفتتح شري فيلمه بصورٍ تبدو كما لو أنها تحمل في طياتها أطرها، فنجد البيوت عارية الأعمدة مثل أضلاعٍ، تتوسطها بقعات نور متسللة من فرجات لا ندري أهي وليدة الاهتراء والإهمال أم وليدة البطء في إتمام البناء. مبانٍ بين عمرين، لكننا نجهل إن كانت تمضي نحو الفتوة أم نحو الاندثار. أما نصه المستوحى من كتاب ميشيما "الشمس و الفولاذ" فيتأرجح بين حدين، حد الجسد الخائب إزاء الأفكار والعاجز عن مجاراتها والتشكل بحسبها والعاجز حتى أن يكون لائقاً بميتة درامية، وحد الأسى لدى إعلان نهاية الحرب لأن المدينة التي يحيا فيها لن تظل تأكل نفسها (أو هو يحسب ذلك)، لكن المصالحة مع الشمس تتم حين ينتبه إلى كونها تعجل بتحويل كل شيء إلى طلل.

في "جيبرالطار"، أو "جبل طارق"، فيلم فيديو و تحريك، لغسان حلواني والذي يعرض قريباً في بيروت، ليست المدينة (باريس) التي تتحول أطلالاً. باريس سلفاً طَلَلٌ مثلها منذ فجر التصوير. لكن ما يغيب ثم يتصخّر هو الوجه، وكذلك حال صور الفيلم التي تتحلل وتتقشر كالإعلانات عن الحيطان أو كجلدٍ محترق من أثر الشمس، و ذلك قبل أن يصير طارق نفسه هو الجبل الذي يظلل المدينة. في هذا الفيلم المستوحى من مسرحية "زنبق والجبل" أثر هائل للغياب، غياب رؤية المسرحية التي لم تكن، إبان الحرب، معروضة للأطفال بل توافرت فقط على الكاسيت. ليست الحرب أو عنفها ما يترك الأثر هنا، بل الصوت وغياب الرؤية، هكذا تتفتح الصور وتتناسل من بعضها كتتالي الدرجات الموسيقية فنجد عالماً معلقاً في دهاليز كيس تشبه نفق أليس التي تلاحق الأرنب الأبيض إلى عالم العجائب.
الغياب يترك بصمته الحارقة على جلد الصورة نفسها. في هذا ربما يقترب "جبل طارق" من فيلم على شري، إذ لا بعود التحول إلى طلل نوعاً من التصخر (الفردي في الأول و المديني في الثاني) بل عملية متواصلة (المدينة تأكل نفسها، الصور تقشر نفسها). لكن أحداً منهما لا يأخذ الطرح إلى مداه الأبعد متسائلا عن أحشاء هذه المعدة التي تقشر وتأكل. تحديداً يقف شري عند شمس ميشيما و لا يتناول الفولاذ الذي هو ربما، مصهوراً متدافعاً كحمم البراكين في فيديو وليد رعد عن السيارات المفخخة، أحشاء المدينة الفعلية، و محرك الصور (موتورها) في عنف شراهتها و نهمها.

طارق العابر في المدينة ـ الطلل يصير الجبل، أما عمر فاخوري فلا يعبر في الأمكنة بل في الأزمنة، أزمنة العنف الدافق. فاخوري سائح يبعث لنا بطاقاته البريدية و ألبوم صوره، "من بيروت مع الحب"، "من رواندا مع الحب"، "من كوسوفو مع الحب"... الخ. وكما يأخذ السياح للسياح الصور واللقطات أمام الأطلال و الأنصاب، تؤخذ صور فاخوري أمام الكوارث. الكوارث أحداث هي أنصاب الزمن و علاماته في رأي فاخوري، لكنها ربما كانت أطلال الأزمنة.

يلعب عمر فاخوري مع الصورة والجسد السينمائي الجيمس بوندي : "من روسيا مع الحب" للعميل 007 ، "من بيروت مع الحب" يرد فاخوري بثيابه السوداء مديراً ظهره مبتعداً عن انفجار السان جورج واضعاً يديه على خصره كأنما لا رادّ لعزم وتصميم رجل الوكالة البريطانية. "زيليغ" لوودي آلن يتلوّن كالحرباء حتى يصير، رغماً عن نفسه، عضواً في الميليشيا النازية، أما فاخوري فهو "من برلين مع الحب" يرسل لنا تمرد جسده يدخن بتلذذ و طرافة سيجارته أمام هتلر الخطيب في جنوده المتراصين لا يهتز لهم جفن... والأمثلة كثيرة، إلا أن كثرتها تبعث على التساؤل عن تساوي الأحداث و الكوارث في عين فاخوري، و عن غياب التفاوت، وهي متفاوتة، في القدرة على إنشاء أزمنتها الخاصة. إلى أن الكثرة والبحث عن الطرافة والدهشة يجعلان علاقة جسد فاخوري بأزمنة الكوارث علاقة متفاوتة أيضاً. فهو حيناً مشارك أو عامل في الكارثة نفسها، وحيناً مجرد إسقاط عليها من الخارج. على النقيض من عمل لينا الصانع و ربيع مروة الساعي في إخراج الجسد من حلبة العرض و في تقويض سلطة الصورة باللغة الناقدة و الساخرة والمفعمة ثقةً و هزءاً، يبدو أن فاخوري يسعى إلى وضع الجسد، جسده الخاص في قلب صورة الكارثة ولحظتها ربما ليمسح بمرهم الفكاهة ذنوبنا جميعاً فيها. بيد أنه ينسى أن لحظة الكارثة هي زمن ميت، بحسب دولوز على الأقل، و أن الجسد في مثل هذه اللحظة جسد معدٌّ للسحق، رغم كل خدع التصوير.

في حين يهرب البعض إلى الطفولة ("وا" لزياد عنتر) أو إلى الباروديا السياسية ("لا شيء يهم" لعلي قيس) أو إلى الحنين (و "طائرات ورقية ـ بيوت" لفلافيا قدسي) أو فقط يراكم البنايات المتكدسة كأكوام النفايات بحيث لا تترك مجالاً للسكان ولا متنفساً (أفلام "دائرة حول الشمس" لعلي شري) وحدهما "جبل طارق" لغسان حلواني و "السقوط الأخير" لنسرين خضر يقدمان جسداً في ماديته الهائلة، في ارتباكه ووهن مفاصله وخجله كما تُظهر خضر في فيلمها القصير جداً الذي يلوح كنثر الجسد في وجه جان فيغو و "سباحته" التي يحيلها قصيدة ملحمية في إعلاء الجسد و الإرادة و الماء المتلألئ.

ليلة سعيدة وحظاً سعيدا



"ليلة سعيدة و حظاً سعيداً" لجورج كلوني"

لماذا لا يستشهد الإعلامي مورو؟


(غير منشورة)


فيلم جورج كلوني الجديد "ليلة سعيدة..وحظاً سعيداً" ليس فقط فيلمه ممثلاً بل أيضاً مخرجاً. في هذا يبدو الممثل الوسيم أذكى من طلّته حين يرسم بالأبيض و الأسود عالم التلفزيون الجديد آنذاك في أميركا منتصف القرن الماضي. لا نملك إلا شكره على تضحيته بألقه و ببطولته المطلقة حيث يلعب الدور الثاني (فرندلي) خلف دافيد ستراتهيم الذي يؤدي ببراعة و صرامة دور مورو، المذيع التلفزيوني الذي أسقط السناتور مكارثي في عز سطوة هذا الأخير و لجنته و محاكم تفتيشه عن "شيوعيي" أميركا المفترضين. تقشف الفيلم في كل شيء و هدوءه الرصين يمنعاننا منذ البدء عن الحماسة و يعصمان منها. منذ البداية نرى مورو في خطاب ما بعد المعارك، ما بعد الفوز أيضاً، في خطاب المتقاعد الذي لا يسعه كتمان ما بقلبه من شجاعة، لكنها شجاعة الفشل المحتوم للمهمة التي اعتقد مورو أن على التلفزيون تأديتها، تنوير الناس وإطلاعهم على حقائق الأمور لا إلهاؤهم و عزلهم عن أنفسهم و عن الآخرين.

ذلك أن مورو الذي نجح في إنهاء سطوة مكارثي، و الفيلم يروي قصة هذا الصراع، ما لبث أن اضطر إلى التراجع عن السير في المواضيع الجدية، ثم تراجع حضوره التلفزيوني، أمام ضغوط شركات الإعلانات التي لم يعجبها هبوط عدد متابعي برنامجه من المشاهدين. اليوم، مورو أسطورة أميركية لا تجارى، بالمعنى الحرفي، أي أن أحداً في التلفزيونات الأميركية لا يعترف بالعجز عن مجاراته في المهنية و المناقبية و المعايير التي وضعها لبرامجه، وأداء هذه التلفزيونات منذ 11 أيلول إلى حرب العراق خير دليل، لكنه في حينه وُضِع خارج ساعات الذروة و همِّش.

لا يسع المشاهد العالمثالثي و اللبناني بخاصة سوى التساؤل: لماذا لم يبعث السناتور أحد رجاله لإسكات مورو بالطريقة المعروفة جيداً لدينا، الترغيب و الترهيب، و القتل في نهاية المطاف؟ لماذا فضّل الظهور على التلفزيون و محاولة تشويه سمعة مورو، ربما على أمل دفعه إلى الإنتحار كما حدث مع إعلامي آخر؟ و لماذا كان النقاش الرئيسي في الفيلم، و هو ما يستغرب أمثالنا بداهة الإجابة عليه، هل ينبغي على التلفزيون أن يكون موضوعياً حيادياً أم يجوز له، في الأحوال الخطيرة، أن يتبنى موقفاً و يدافع عنه؟ و كيف يتأتى للإعلامي أن يصير سلطةً؟ ماذا عن مسؤولي الشبكة الذين لا يظهرون على الشاشة بل يديرون الصفقات المالية و السياسية؟


طبهاً الإجابة عن هذه الأسئلة ليست سهلة، لا سيما خارج إطارها أي الإطار الزماني و الإجتماعي للولايات المتحدة، و إن كان تاريخها في الحريات ليس كله ناصع الإشراق، ولا يكفي تماماً لاعتباره رداً جامعاً مانعاً. ما يحسب لكلوني أن تقشفه الإخراجي و ضيق الأماكن التي اختارها و الايقاع الرتيب المتعمد للأحداث يسمح للمرء بالتنبه لاحتمالات الأسئلة و لا يجبره على اللهاث المتواصل خلف سيل الصور.

يقدم الفيلم عدداً من الإشارات على وجهات محتملة للإجابات أو لبعضها على الأقل: شهرة مورو لا تعصمه من الهجمات على سمعته لكنها بالتأكيد تعصم من القتل ما دام قد أشهر عدوه، لذا لا يكاد مرور يبدو خائفاً سوى من... الإعلام، فيتلهف على قراءة ردود الفعل على حلقته، و يرفض فتح معركة مع صحافي آخر يتهجم عليه و على أصدقائه قائلاً أنه ببساطة لا يستطيع أن يكسب إذا ما استعدى في الوقت عينه السناتور و صاحب الصحيفة. مع الأسف لنا، يبدو أن الأميركيين أضيق مخيلةً من الرد بأن القتل في هذا الوقت بالذات دليل براءة الخصم لشدة ما يبدو بديهياً توجيه الإتهامات إليه!! بحسب هذا الرد، يبدو أن الأميركيين يجهلون الحقيقة وهي أن القتلة لا يقتلون أعداءهم، بل أصدقاءهم، بهدف توجيه الشبهات إلى الأعداء، أي أن الرِيَبَ لا ينبغي أن تتوجه إلا في الأقربين!

من جهة أخرى، يبدو أن من شروط التنطح لمثل مهام مواجهة السياسة بالإعلام أن تسبق شهرته معركته، و ألا يكترث أصحاب الإعلانات بمضمون البرامج التي يعلنون فيها. من وجهة النظر الإقتصادية يفترض للعولمة أن تلعب هذا الدور تحديداً حيث أن المعلن كخريج مدرسة تجارة لن ينظر سوى إلى نسب المشاهدين، و في هذا ضمناً تبرئة لأصحاب الإعلانات و لأصحاب التلفزيونات من التهم المغرضة التي تصمهم بفرض البرامج التافهة على المشاهدين. أليس أن انخفاض المشاهدين هو ما أدى إلى انحسار مورو و ضمور حضوره، و ليس انزعاج المعلنين ولا السياسيين منها من مضمونها؟ أليس إذن أن الإعلامي قادر على الإنتصار على السياسة ولكن ليس على التفاهة العامة التي تستشري؟

لكن الواقع يغاير مثل هذه النظرات المتعجلة. فالواقع أن العولمة بعيدة من أن تعلن نهاية السياسة و الدول أو أن تزدري السياسة كإرث مضرّ متخلف عن عصرها الذي تديره العقلانية الحسابية البحتة. بل إنها تزيد شد الروابط بين شخوص الساسة و بين الشركات، و مثال بوش و تشيني واضح، و أقل منه شهرة تحوّل جاك شيراك بائع طائرات إلى حكام الصين أو روابط اليميني الصاعد ساركوزي وأخوه بأوساط أرباب العمل الفرنسيين، و آثار ذلك على السياسات الدولية جلية من حرب العراق إلى مؤتمرات منظمة التجارة العالمية و حروب اليورو و الدولار ... إلخ.

أما في العالم الثالث واقتصاداتها الذاوية فإن لهذه العلاقة إسماً هو الفساد، فلا يكاد ثمة سياسي بارز فيه ليس مرتبطاً بشبكات فساد و صفقات و علاقاتٍ مشبوهة لا سيما بالأوساط المالية، فالمال عصب السياسة في كل العصور، وما الفساد سوى البديل العصري لمصادرة الأموال و الضرائب التعسفية و الجباة والملتزمين مما لم نكد ننساه. الفارق إذن أن ما كان معتبراً جوراً بات "شطارة" و مصدر سلطة و عزوة. مع تنامي الإقتصاد و تعولمه لم يعد بمقدور أرباب العمل ترك السياسة للنبلاء و الإقطاعيين أو لذوي النسب و الحسب و العمل في صمت على تكوين ثرواتهم على أمل ألا تتعرض للمصادرة، بل بات عليهم في ظل تنامي العروض من كل حدبٍ و صوب إقناع السياسسن ببضاعتهم، أو استخدامهم لترويجها، كطوني بلير يبيع ترشح لندن لعشرات الملياريات التي تشكلها الألعاب الأولمبية.

اليوم، ليس بمقدور أي شبكة تلفزيونية، ولا حتى صحافة الرأي التي تحقق خسائر في كل العالم، النأي بنفسها عن التحالفات السياسية، حتى تلك التي يدفع مستقبلوها اشتراكاتهم، لأنه ما عاد من مسافة فعلية بين المعلنين و بين السياسيين. لذا يجري التفكير في فرنسا مثلاً بمشروع قانون، مستوحى من قانون منع الإحتكار في المطبوعات، يسقط ورقة التوت و يسمح لشخصية قانونية واحدة بامتلاك قناة تلفزيونية على أن يُكافَح الإحتكار لا من خلال فرض الملكية المشتركة بل من خلال مراقبة نسبة مشاهدي القناة و منعها من تجاوز حدٍ معين. الحالة اللبنانية في مثل هذا المعرض غنية عن الشرح لناحية نوعي الإحتكار إذا ما اعتبرنا جمهور كل طائفة لوحده. يبدو أن من الضروري إذن التفكير في إعادة هيكلة هذه القطاعات في لبنان في شكل أكثر شفافية.

لم يكن مورو يطلب من رؤسائه مثل هذه الشفافية بل كان جلّ اهتمامه ألا يفرضوا عليه رقابة، لا يتعفف هو عن فرضها على نفسه، لكنه يدرك جيداً أن الحركة والإعتراض هما وحدهما ما يوسّع دائرة الحركة والإعتراض، و هذه ما قام به عدد من الصحافيين في لبنان منذ مطلع التسعينات وإلا لما تحول الإعلام اللبناني أداة فعّالة إلى هذا الحد. ويعرف مورو أن ثمة مجازفاتٍ لا يمكن الإمتناع عن إرتكابها بدعوى إنتظار الوقت الأنسب و الآمن. ما دام الخوف قد بات في داخل هذه الغرفة، يقول لمساعديه، لا مفر إذن من المواجهة وافتتاح المعركة. هكذا في الفيلم أيضاً يواجه مورو المزيّف (الممثل ستراتهيم) بمشاهد ممثّلة السناتور ماكارثي الحقيقي في مشاهد من الأرشيف، فلا مفر بعد دخول الماكارثية في صيغتها الجديدة إلى كل دار في أميركا بل وفي العالم سوى مواجهتها.

غير أن أسلوب المواجهة بالغ الأهمية. كان في وسع كلوني أن يكون كمايكل مور، أن يسخر من بوش و يكشف علاقاته و أكاذيب تصريحاته و تناقضاته مكتفياً فقط بالأقوال دون حتى التعليق عليها، كما يسع أياً منا أن يقوم بالأمر نفسه حيال مختار الزعماء أو سعادة الشيخ أو مقاوم السيادة أو صخرة طانيوس شاهين أو قديس البربارة أو الهزبر الغضنفر (حسناً ربما ينبغي استثناء هذا الرئبال الأخير ـ الذي لا يبدي أي حس بالنكتة في أي حال ـ عملاً بنصيحة المتنبي الشهيرة حول نيوبه)، لكن فضيحة التناقض فيها ما عادت فضيحة كما في أيام ماكارثي. ما عادت الفضيحة سلاحاً فتاكاً بل إنها اليوم لا تكاد تخدم سوى الأسياد الذين يزدهون بسعة صدرهم و ديمقراطيتهم، قبل أن يستخدموها هم مدمرةً ضد من ليس أمامه مجالاتهم في الكرّ و الفرّ. لذا لم يكن أمام كلوني سوى استدخال الإزدواجية و الغش في نسيج صور الفيلم.

الغشاش في الفيلم هو ذاك الذي لا يمثّل، الصور الخادعة هي المادة الأرشيفية، أما التمثيل، فهو أساساً فاقد للقدرة على الوعظ بضرورة الصدق من حيث أنه محض إيهام على ما كان لاحظ روسو من قبل.

بازدواج الغش وانقسامه على نفسه ربما يعود ثمة محلّ للتفكر في الحقيقة، وحده التفكر، على نقيض الفضيحة، يكشف بوش دون أن يدعم الزرقاوي مثلاً. غير أن ذلك مستحيل من قبل أناس ينفث الخوف أنفاسه الباردة في أعناقهم. في الفيلم يقبل مورو في النهاية أن مكارثي سيحاسب و تُكفّ يده لكنه سيظلّ طليقاً بل وسناتوراً، و ربما كان هذا جوهر النظام الديمقراطي في الواقع. في بلاد الثورات الدموية المستدامة مثل هذه النصيحة من ذهب: ينبغي كشف الحقائق و كف يد الظلم ووضعها خارج دائرة القدرة على الأذى، أما الثأر وسلاسله و رعبه فلا يستولد غير الثأر والعنف.

سينما بيروت



بيروت في ثلاثة أفلام لبنانية من مهرجان باريس السينمائي
نشرت في محلق النهار في تموز 2007

كان لبنان ضيف شرف مهرجان باريس السينمائي الذي اختتم الأسبوع الماضي. لا تسعى هذه المقالة إلى "تغطية" شؤون المهرجان، ولا حتى البرنامج اللبناني فيه، الذي كان وافراً وإن لم يخلُ من نقصٍ كغياب محمد سويد وغيره. قصارى هدفنا هنا، مع الاعتذار الحار من الآخرين، هو مقاربة ثلاثة أفلام لبنانية جديدة يجمعها، إلى جانب الطابع الروائي الطويل، كونها تعرض للمرة الأولى في باريس، وكونها تحاول تشكيل صورة سينمائية لمدينة بيروت، على تفاوت في الأدوات والأساليب والأصوات.

لكن، لا بد أولاً من إزاحة التباسٍ ترددت أصداؤه على صفحات الجرائد اللبنانية وفي الكواليس، ويزيده بلةً، دفاع بعض النقاد عن تمثيل السينمائي لذاته وحدها، وكأنما هي من صنع يديه، على ما كانت أرندت تقول ساخرة من المتفاخرين بلغتهم الجرمانية.

كان خليل جريج وجوانا حاجي توما، بين المكرمين إلى جانب دانييل عربيد والمخرج الشاب وائل نور الدين عن فئة الأفلام القصيرة (ليس خطأ تكريم شبان في أول نتاجهم إلا متى فهمنا التكريم إعلان نهاية، لا دفعاً وتشجيعاً!). لقد أثار هذا الخيار بعض الضجة، مثل كل اختيار في كل مهرجان، حيث تساءل البعض عن سبب اختيار هذا الاسم لا ذاك، وإبراز ذا والتعمية على آخر. والحق أن كل اختيار إشكالي وظرفي، لكننا نحسب أن اختيار الثنائي جريج ـ حاجي توما هو أيضاً تكريم لجيل كامل من الفنانين والسينمائيين والمفكرين، إذ يبدو جلياً في أعمالهما ملامح نقاشاتهما وتفاعلهما مع أعمال غسان سلهب وجلال توفيق ووليد رعد وبلال خبيز ووليد صادق وربيع مروة وغيرهم كثيرون. مثل كل عمل جدي، تحاور أعمال جريج وحاجي توما أعمال مجايليهم وشغفهم بمدينتهم وتتقاطع مع اهتمامات هذا الجيل الذي فتح أمام الفنانين اللبنانيين أبواب مهرجانات العالم ولقاءاته وجمهوره الغفير الذي أمّ صالات باريس في هذا المهرجان الأخير، واعداً بمزيد من الترحيب بالفن اللبناني.

سنتناول إذاً، من بين أعمال هذا الجيل، فيلم السينمائي البارز غسان سلهب "أطلال"، ومن بين الوافدين الجدد فيلمي نادين لبكي "سكر بنات" وميشال كمون "فلافل".

غسان سلهب والغطس في عمق طلل

فيلم "أطلال" ليس الفيلم الأول لسلهب، وليس فيه من تردد أو تلعثم. يعرف سلهب ما يريد، ويملك أن يقدمه في جمال بصري أخاذ واقتراحات بصرية لافتة، مثل المشهد لدى طبيب العيون. وهو بعد أن استنفد أصوات بيروت وتصويرها من زوايا مختلفة (من الأسطح، والسيارات، في الليل والنهار، في سوليدير وفي الآثار المتبقية) في "أرض مجهولة"، يتوجه الآن ليصور بحر بيروت. البحر موقعاً، ومشهداً واستعارة. يمكن للغوص في البحر أن يكون استعارة للبحث في أعماق المرء، الذي يصوره كارلوس شاهين نيابة عن كل منا، مثلما يمكن لصور الأشعة الطبية أن تكون أيضاً استعارة عن الأعماق، وكما يمكن للفلامنكو أن يكون استعارة للكبر والتحدي ورائحة الدم الماثلة في مخيلة الشمس الاسبانية وعين الثيران.الزرقة والشمس والكوريدا المستدعاة، ليس باتاي بالطبع بعيداً. لكن الفيلم ليس مجرد استعارات، بل ربما ليست الاستعارة سوى ما يضيفه المشاهد نفسه على الفيلم، مثلما قد يضفي عليه قراءة سياسية.

نجرؤ على القول إن سلهب أيضاً يصور مادة رؤيته، وليس استعارتها النظرية. فهو لا يتردد فيمنحنا ما يشاهده مصاص الدماء، مثلما يشاهده، زائغاً مشوشاً، وبعد انطلاقة رائعة يتباطأ الفيلم بشكل غريب، لكن أليس التباطؤ أيضاً إدخالا لنا في زمن مصاصي الدماء، الخلود البطيء والممل.

يمكن الزعم أن الفيلم بعيد عن القراءة السياسية، وإن تزامنت جولات مصاص دمائه الخفي عن الكاميرا (لكن إن كان لا يصور، كيف تلتقطه عدسة سلهب؟) مع موجة قتل واغتيالات بيروتية وتنبأ بتحول الأطباء إلى قتلة، كما في بريطانيا. في الواقع، ينجم ابتعاد الفيلم عن الإسقاط السياسي من كون إنتاج مصاص دماء يهدف، برأينا، إلى قتل ندٍ آخر له الطبيعة عينها. هو إذاً عمل انتحاري. صناعة قاتل لقتل الذات.

لماذا مصاص الدماء؟ لماذا الأشباح والدم والقتلى؟ إنه، مرة جديدة، قبول ارث الموت متغلغلاً في نسيج الجماعة، عائداً من الغيب ليقيم لها لحمة وسدى. لا تغيب الجثث في الفيلم غيابها في أعمال جريج وحاجي توما، لكن الحداد أيضاً لا يحضر كما لدى وليد صادق. ما يحضر لدى سلهب هو موت حديث، ليس مرتبطاً بالحرب التي يمكن النظر إليها من هذا الجانب على أنها حرب ريفية، أو حرب ترييف المدينة. إنه موت سائر، سادر في عمله. موت يتطلب موته، يبحث عنه، ويشحذ على مهل السكين التي يأمل أن تأتي لتجز عنقه ككبش أخير.


إنها ظواهر مدينية تلك التي تروي عن مصاصي الدماء، والجرائم الجنسية، والعلاقات المتعددة الطبائع دون أي عقد، و توري عن شخوص دون عائلات، دون إخوة أو آباء ودون أبناء أو زيجات. يصور سلهب إذاً ما يمكن افتراض طابعه المديني بامتياز: فرد في شارع، انحرافات وجرائم، مدينة حبلى بأساطير حديثة.

يمكن بالطبع الطعن في تصوير سلهب لواقع المدينة، بدءاً من حقيقة مصاصي الدماء وجدوى أسطورتهم، وصولاً إلى افتراض أن "مدننا" ليست مدنناً بل كونفيدرالية قرى. لكن ذلك أيضاً مردود،فبيروت لا تني تبتلع مدافنها مثل أي مدينة حديثة، وتفكك النازحين إليها، ببطءٍ ربما ولكن بفعالية أكيدة تثبنها، للمفارقة، الجرائم والفضائح والقدرة على الاهتباء والسعي في هوامشها. لكن السؤال لاذي قد يكون سلهب يطرحه علينا هو عمن يعض، مثل الطبيب خليل ونسائه الفاتنات، ثدي المدينة إن لم تصور نفسها عذراء كوالدة الإله في الأيقونات؟ إنه سؤال كشف الغطاء عن حياء المدينة كي تتقبل العنف والموت الوارف في ثناياها، دون مزاعم عن إلهية هذا العنف أو "برانيته". إنه، في معنى ما، عنف البحر المتأبد كالأمواج في مفتتح الفيلم، لا ينفصل عن المدينة التي تنطوي على مدنٍ كثيرة في طبقات طياتها.

في بيروت فيديو كليب لبكي ودماها الجميلة، وبيروت ليل الشباب والمغامرة والمقامرة في فيلم كمون، هنالك متسع بعد للنضج، للأمل والرغبة. لكن سلهب يزعم أن لا مجال لإغفال عنف المدينة وقسوتها، على أفرادها وفيهم، أو لنسيان ذكر الموت والرغبة في دفع الحيوات والشوارع إلى أعماق سحيقة، لا تعود منها سوى أطلالاً نبني فوقها أحلاماً أخرى ونسياناً كثيراً. ربما ينبع انزعاجنا مع عمل غسان سلهب أننا فعلاً نشعر بطعم الدم تحت نواجذنا وأسناننا. ولسنا نبكي! أليست هذه معجزتنا المؤسفة؟


"سكر بنات": الإشفاق على المشاهد من دموع الدمى المتحركة

لقي فيلم نادين لبكي الذي لم يعرض بعد في لبنان ترحيباً حاراً من قبل بعض النقاد حين عرض في مهرجان كان الفرنسي، لكنه أيضاً قد يلقى اعتراضاً مثيراً للسخرية من قبل رافضي "الاستشراق الذاتي"، الذين قد يرون فيه "شداً" للمشاهدين من خلال استعراض جمال اللبنانيات واختراق تابو المثلية النسائية، على خفر مزعج، وإرضاء للغرب بإظهار مشاكل العذرية والعلاقات "غير الشرعية" فضلاً عن الفرنسي العجوز ومغامرته البيروتية. الاعتراض طبعاً سخيف لأنه لا يرى أن هذه العناصر موجودة في بيروت وليست متوهمة، ولا يكفي أن تكون أجساد النساء أرض الصراع اليوم بين دعاة حقوق الإنسان والأصولية السلفية حتى يكون في تصويرهن استشراق.

لكن الفيلم الذي يقدم تصويراً ناعماً وأنيقاً يعاني دون شك من الفتنا الشديدة بلغته البصرية التي لا تختلف عن فيديو كليبات نادين لبكي السابقة، فيبدو أشبه بفيديو كليب طويل منه بفيلم سينمائي يفترض بأدواته أن تكون أكثر كثافة وأغنى تنوعاً وملاءمة لما يطرحه.

كما أن لبكي، على ما يبدو، تشفق على مشاهديها، فلا تكاد ترد مورد حزن إلا وأشفعته بطرفة أو نكتة، مازجة مطلع الأسى بتواصل السرور. قد تقول لبكي لنا أن هذه هي طبيعتها، ولا شك أن الحياة مزيج منهما معاً، إلا أن منهجية هذا الخلط، فضلاً عن كونها تمنع من تعميق الحالات والمضي إلى أغوارها، تصبح بسبب طابعها التكراري نوعاً من "البرهنة" المسيئة للأعمال الفنية، لا سيما حين تفيض عن الحاجة وعن الواقع، كما في مشهد المحجبة التي لا تنزع حجابها حتى في وسط بناتها!

إلا أن أعمق مشاكل الفيلم، في رأينا، هو كون دماه (والدمى في العربية الغواني الجميلات) تتحرك في فقاعة معزولة عن بيروت التي تهدي لبكي إليها الفيلم! بيروت لبكي صور مسطحة لشوارع قليلة، وحارات مقفلة، تبدو غاطسة في مناخ موسيقي يداني النشاز والتنافر. تمتنع لبكي عن دخول المدينة من باب أصواتها، وتحرك دماها في مناخ معقم، وعقيم، من الكليشيهات الصوتية. إلا أننا نعرف أن المدن لا تؤتى أزمنتها سوى من أصواتها، كما سبق لسلهب أن فعل في "أرض مجهولة" أو رايغاداس في "معركة في السماء". على عكس الفيديو كليب، لا يمكن لفيلم "بيروتي" أن يكون حكاية على غرار حكايا لافونتين أو والت ديزني، أو أرضاً معلومة ومفارقة لبيروت.

سبق للبكي أن خلقت عالمها الفيديو كليبي، إلا أنه بطبيعته ليس سينمائياً لأنه يقوم اساساً على موسيقى لم تصنعها المدينة، بل أنتجت مسطحةً في حواضن اصطناعية معقمة بعيدة عن أصوات المدن (والصوت اللحن) ومشاهد أيامها ووقائع زمنها.

على لبكي أن تخرج من اللوحة التي نسجتها لنانسي وهيفا إذا شاءت أن تدخل إلى عالم ليل وريما ونسرين و"طانط" روز، اللواتي لن تظل حينها دمى متحركة تشفق علينا لبكي من دموعها دون داعٍ حقيقي.




"فلافل" ميشال كمون: بيروت واسعة الليل

لا يهدي كمون فيلمه الروائي الأول إلى بيروت، بل إلى شقيقه الشاب المتوفى روي. رغم ذلك، لا يكتفي كمون بتقديم صورة عن عالم بيروت وشبابها الليلي، بل يثبت أيضاً أن مدينة بيروت ليست تتطابق مع حدودها الإدارية. تصل كاميرا كمون إلى كسروان، لكنها لا تغادر بيروت. بيروت هنا هي زمن عيش، وليل، ومنطق المقامرة والمغامرة، وليست مباني وتقسيمات جغرافية أو دوائر إدارية، وبالتأكيد ليست شعاراً انتخابياً أو سياسياً.

خلافا للبكي أيضاً، يستعمل كمون الصمت وأصوات المدينة الليلية والسيارات، دون أن يتعفف عن استخدام الأغاني الراقصة متى انبعثت من علب الليل أو من مسجلات السيارات والمحال والبيوت. إلى جانب ذلك، لا يمكن إلا التنويه بالشريط الصوتي الذي يستخدمه من موسيقى Soap Kills الالكترونية وغناء ياسمين حمدان المفعم بالمتعة وعيائها وتجارب توفيق فروخ وفرقته في عزف النغمات الشرقية على الآلات النحاسية. المشكلة ربما تظل في حاجة كمون إلى المزيد من التفكر في أحوال القطع والوصل بين هذه المواد الموسيقية.

غير أن الأهم في فيلم كمون، في نظرنا، يتجاوز طرفة الفلافل وبائعها، وإمطار السماء سقف المباني بحباتها الضخمة الشهية، وهي طرفة ظريفة، غير أنها غير مقنعة في تقصيها وتطويرها من ثمّ. ربما كان الجانب الأهم يتبدى في الرغبة في التصوير الليلي، واستعراض مغامراته، العاطفية والجنسية والأمنية والذكورية معاً، وفي مد حدود بيروت إلى كامل مساحة الرغبة الليلية.

يتبدى أيضاً جانب مهم في محورية موقع كازينو لبنان من الفيلم. ليس ذلك أن لبنان كازينو، على ما يحسب بعض مدعي الفضيلة والتعفف والمال الطاهر، بل لأن الكازينو في الفيلم دليل على نمط حياة لبناني يتوسل المقامرة بكل شيء، بالحاضر والمستقبل والمال، في سبيل دواعٍ ليست دائماً مفهومة. بالحظ، تقفز حبة فلافل هاربة من قعر الزيت، وبالحظ أيضاً نجد المال ونشتري به سلاحاً، وحين يخوننا الحظ نقع في الحصر والغيظ. ليس هنالك من تراكم عقلاني مخطط لدينا، هنالك فقط الوعد بالحلم، صادقاً أم كاذباً.

بالحظ ربما تنضج حبة الفلافل الهاربة التي يدعو فادي أبي سمرا إلى أن يكونها ذلك الشاب المفعم بالحيوية والتماع الأعين. إلا أن نضج ما يبدو أقرب إلى جيل من المراهقين، في فيلم كمون، يمر عبر الاعتراف إذاً بأننا "نشخ تحتنا"، بأننا "نشيخ تحتنا" أيضاً دون أن ندري من سيتحملنا في شيخوختنا. الاعتراف بهذه الهشاشة هو إذاً أول شروط النضج الذي يتجلى في التخلي عن مبدأ الثأر والشرف الذي لا يسلم من الأذى ... والحنو على إخوة لنا.

يصور كمون، تحت ستار كوميدي بأبطال كرسوم الكرتون في مراهقة مطولة، مساراً للنضج يدعونا إليه ماداً يد الحنان إلى خد الأخ الغائب. مرة جديدة، يبدو قبول الغياب والموت شرطاً أول للعيش معاً.

معارك السماء، معارك الجلد


"معركة في السماء" لـكارلوس رايغاداس
صراع على الجلد المكسيكي
نسرت في النهار، تشرين الثاني 2005

المعركة ليست فقط في السماء، بل عليها. وعلى جلدها المشدود. في الجلد ينحفر القانون، كما أشار كافكا. في جلد ماركوس، رجل الكولونيل، انحفر القانون وسلطة الدولة. كل يوم يساعد ماركوس الجنود في مراسم رفع العلم وإنزاله. في جلده أيضاً انحفرت الجريمة، حيث مات الطفل الذي خطفه ماركوس بمعاونة زوجته، الضخمة الجثة بقدر ماركوس نفسه. وحين تعود آنا المراهقة، ابنة الكولونيل الذي يعمل ماركوس لديه سائقاً، وحين تذهب إلى "البوتيك"، بيت الدعارة التي تزاولها آنا للتسلية، تنحفر الرغبة أيضاً في جلد ماركوس، الذي لا يتورع المخرج المكسيكي رايغاداس عن استعراضه، كاشفاً بشرة سمراء وبثوراً كثيرة وقبحاً تزيده الكاميرا سطوعاً لأن ضوءها لا يكاد يسيل على هذه البشرة، بل يلتصق بها كغراء قديم مُصْفّر. بل إن رايغاداس لا يتورع عن لجم كاميراه لتسجل صاغرةً بزوغ سوائل الجسد: تقطّر العرق من طرف قميص ماركوس، البول قبل الجريمة الثانية، دموع آنا في نشوة صوفية لفرط تأثرها برعشة ماركوس جراء الجنس الفموي الذي يفتتح في لقطات بديعة الفيلم، ترافقها أصوات التنفس الهادئ والمنتظم.
يبدو لي أن رايغاداس هو أول مخرج يولي كل هذه العناية إلى الصوت في فيلمه. تارة يعزل صوت النَفَس، أو وقع خطوة محددة من بين آلاف يعبرون في مترو مكسيكو، وتارة يترك لزعيق المعلق الرياضي على التلفزيون المجال كله ليصمّنا بتفاهات الدعاوة الرسمية. قبل أصوات الزيّاح الديني، تعلو موسيقى تصويرية هاذية دافقة، لكن امرأة تترجل من سيارة أمام محطة بنزين تطالب بإسكاتها، متساءلة :"من أين تأتي هذه الموسيقى؟".
للمرة الأولى ربما (منذ جاك تاتي الذي كان يخلق طرفاً بديعة من خلال الأصوات الساطعة في برودة الهندسة المعدنية) يخترق أحد البديهة القائلة إن الأذن، بخلاف العين، لا تستطيع عزل تفصيل واحد بين عدة. التزاوج الذكي مع الآلة، ومع شريط الصوت في الفيلم، بات يسمح بإجراء لقطات مقربة "زوم" للأصوات، لا تكتفي بإشاعة مناخات مرغوبة ومحددة، كما هي حال الموسيقى التصويرية عادة، بل بتكوين فيلمٍ موازٍ، يتفاعل مع الصورة دون أن يكتفي بترجمتها، ويحض على التساؤل والتنبه لا على الفهم السهل والبسيط.
إثر جريمته الثانية، ينهار ماركوس ويرتمي على ركبتيه في زيّاح طويل يحج إلى كنيسة سيدة الغوادلوب، يقنّعه أحد ممتهني الحماسة الدينية صارخاً في أذنيه بمكبر الصوت: "لا أثداء بعد اليوم، لا أثداء بعد اليوم..."
بالطبع لن يمتلك ماركوس ثديي آنا بعد اليوم، لأن التناقضات، التي لم تكن سياسية فحسب، كانت ضخمة حد التفجّر: القبح/ الحسن، الكبر/ المراهقة، الهندي/ البيضاء، الفقير/ الثرية، اليائس/ اللعوب، المسحوق/ ابنة الجنرال...إلخ
لكن دمعة آنا التي تفتتح الفيلم وضحكتها التي تختمه تشيران إلى اللحظة الوحيدة التي سمح فيها تقارب بشرتين هائلتي الاختلاف بتجاوز كل الثنائيات السابقة، في سماء الرغبة.
يتمزق ماركوس بين سماوات ثلاث: الوطن، الجنس، والكنيسة. وإن كان الأول يعمل كأداة لتقسيم الزمن وصهره في قوالب ثابتة، وبلهاء، والثاني يعمل كأداة للخروج على كل تقسيم (مثلاً دورة الكاميرا 360 درجة، خارجة من نافذة غرفة آنا، لتعود إليهما في "موتهما الصغير")، فإن حضور الكنيسة يخترق بخاصة علاقة الشخصية الرئيسية بامرأته والجيران، وتتحول الكنيسة إلى الملاذ الأخير، الذي بالطبع يصادر كل احتمالات الخلاص، والذي حين نأوي إليه... نموت.
ربما لن يُعرض فيلم رايغاداس في لبنان، ذلك كي لا يُفسد استمتاع اللبنانيين بلهجتهم المكسيكية ولئلا يستفيقوا على أشياء أخرى تأتي، لا من بلاد العم سام، بل من بلاد العمتين: ماريا مرسيديس وسلمى حايك.