jeudi 3 janvier 2008

في خواء ديمقراطية الطوائف

ملحق النهار الثقافي، أيلول 2007
نزع الطائفية الرئاسية مدخلاً إلى تواضع لبناني


على مشارف انتخابات الرئاسة، واثر الإعلان عن مبادرة بري ظهرت بعض الأصوات التي انتقدت رئيس حركة أمل على "تفريطه" بالإطار التوافقي الحقيقي، أي حكومة بثلث معطل، مقابل حوار ليس ما يضمن نجاحه، في ما اعتبرته أصوات أخرى أنه يتنازل عما ليس يملك أيضاً بعد فشل الموالين لسوريا في إزاحة أخصامها من سدة الحكومة. لكن المثير في الاعتراض هذا هو اعتبار الحكومة ذات الأثلاث والأثافي أهم توافقيةً من منصب الرئاسة. ذلك أن فهم "الديمقراطية التوافقية" كما فسره أحد منظّري السياسة يقوم على حقوق فيتو متبادلة، فضلاً عن توسيع مروحة التوزير، واعتماد النسبية، وترك الجماعات المكونة للبلد تدير شؤونها الداخلية بنفسها. ولما كان منصب الرئاسة منصباً على قياس فرد ليس في جسده ما يتقاسم أثلاثاً وفيتوات، لم يستطع أحد من القائلين بهذه الديمقراطية التوافقية تقديمه على الاشتراك المعطل للحكومة وفيها.

لكن المرء ليتساءل فعلياً عن مفهوم موقع الرئاسة، على مارونيته، في ظل مثل هذه الديمقراطية التي يبشروننا بها اختراعاً لبنانياً جديداً، بعد الأبجدية وصوت فيروز، سيغزو العالم. الحق أن تناول موضوع الرئاسة في هذا الإطار يبعث حكماً على ملاحظة افتراض مضمر لدى اللبنانيين، لقصر نظرهم، هو استقرار معسكري الانقسام على حالهم إلى الأبد، فلا ذا يسعى لأن يكون أكثرية ولا ذاك يرضى بأن يتراجع يوماً إلى موقع المعارضة، لذا فإنهم قد يحسبون خطأ في موقع الرئاسة حكماً، غير محايد، يساند خطهم السياسي. إلا أن ذلك يجعله في الواقع بلا جدوى.

بدلاً من ذلك، يجب أن ينطلق البحث في موضوع الرئاسة، من وجهة نظرنا، من زيادة شحنة التواضع اللبناني المفقود حول رسالته الكونية المزعومة وتصدره مرحلة حوار الحضارات أو حروبها. ما على اللبنانيين في الوقت الحاضر إلا أن يجهدوا لإرساء صيغة تجيز تغيير نفسها تكيفاً مع الأحداث دون أن نشرف في كل مرة على حرب أهلية، وهذا يكون إما بإرساء التداول سنةً ثابتة مقدرة على مواقع معلومة، أو بالعثور على صيغة رجراجة من داخلها وهي ما قد ندعوه بالديمقراطية القلقة.


الرئاسة الجوفاء في ديمقراطية توافقية

للديمقراطية التوافقية في رأي دعاتها سمات ثابتة على ما أسلفنا: الائتلاف الموسع وحقوق النقض المتبادلة والتمثيل النسبي وحرية الجماعات في إدارة شؤونها الداخلية.

يمكن أن نلاحظ سريعاً أن التمثيل النسبي يسعى في المبدأ إلى إتاحة الفرص للجماعات الصغيرة، المعترضة عادة على الأحزاب الكبيرة، في الحصول على فرصة في التمثيل السياسي. فهل يتوافق حق النقض لكل طرف مع تمثيل جميع الأطراف الصغرى؟ ناهيك بكون افتراض الديمقراطية التوافقية الضمني ينطلق من تصور أن الطوائف هي الجماعات المكونة للوطن، وليس المواطنون وآراؤهم وتحزباتهم وجمعياتهم. في مثل هذا التصور لا شك أن حق النقض إنما يعود إلى الطائفة، في تمثيلها الصارم، وليس إلى المنشقين عنها! إلا إذا افترضنا أن التمثيل النسبي يعني توزيع مغانم الدولة على الزعامات الطائفية الحصرية بنسبة عدد أبناء هذه الطائفة أو تلك، وهذا افتراض يبدو مريباً إذا صدر من شيعي أو سني، وغبياً إذا صدر من ماروني أو ما هو أقل من ذلك عددياً.

كما أن الدستور والمنطق لا يقران تمييزاً على الصعيد الأفهومي والقانوني بين طوائف صغرى وطوائف كبرى، طوائف مكونة وطوائف متأخرة عن الانصهار، فهل يفترض أن يشمل الإئتلاف الحاكم الموسع الطوائف جميعها مانحاً إياها جميعاً حق الفيتو. ثم ما الحاجة إلى الأثلاث المعطلة إذا كان الأمر، على ما بين اعتصام حزب الله المتطاول، يقضي بشل البلد كلما ارتأت طائفة متوسطة ذلك مهددة باشعال الحرب الأهلية مجدداً.

الخلاصة أن أفكار الائتلاف الموسع وحقوق النقض المتبادلة والتمثيل النسبي متناقضة في ما بينها، فإذا أضفنا إليها حرية الجماعات في إدارة شؤونها الداخلية لا يظل ينبغي إلا أن نعدل الدستور فيغدو رئيس الجمهورية رمز تفكك الوطن إلى "مكوناته" المزعومة الأولى بدل أن يكون رمز وحدته.

ذلك أن رئيس الجمهورية في مثل هذه الديمقراطية، وعلى افتراض أنه لم يكن "توافقياً" بالطبع أو بالتطبع، لا يجد أي امتياز أنطولوجي على أي من زعامات الطوائف، بل هو غالباً، ما لم يستقوِ بأشقائه، أضعف الجميع. ففي حين تظل للطائفة المارونية حريتها في إدارة شؤونها الداخلية، فإن الرئيس الماروني لن يستطيع، كونه ممثلاً للدولة، التدخل حتى في هذه الشؤون المارونية بصفته رئيساً للدولة التي تتعهد باحترام تفكك الوطن إلى مكوناته. كما أنه بطبيعة الحال لا يملك امتيازاً داخل الحكومة على وزير أصغر طائفة كريمة لأنهم جميعاً يمتلكون حقوق النقض والنكث والانتكاس، في حين أنه على أحسن التقديرات لا ينال الثلث المعطل إلا من ضمن حصة لغيره شطرها.

ما هي تالياً وظيفة هذا الرئيس؟ إنه بعد الطائف ليس حاكماً، فالسلطة التنفيذية منوطة بمجلس حكومي، وهو ليس حكماً لأن لا امتياز له على سواه. وقد برهنت التجارب أن لحود لم يكن ذا وزن في المعادلة السياسية، بعد التمديد، إلا حين قرر حزب الله الذود عن حياضه مكافأة على "وفائه لسوريا". أي أن الرئيس لا يملك من منصبه السلطة. لكنه إذا ما كان توافقياً فليس يملكها أيضاً من شعبيته أو حزبه المخصوص.

في دستور الطائف لا يملك رئيس الجمهورية قدرة تعطيلية، بل فقط قدرة تأجيلية للمراسيم والقوانين. فإذا جمعنا الطائف إلى توافق الطوائف تحولت القدرة التأجيلية إلى انتظار رتيب (ما لم تقع حروب أهلية طبعاً) طويل الأجل في قصر بعبدا.

لا تراجع... لا استلام

يضمر القول بالديمقراطية التوافقية مبدأ ثبات الجماعات على "هوياتها" الجزئية، وحرصها على ألا يسمها سوء أو تغيير أو ـ لا سمح الله ـ تطور وتحديث. وهو يفترض أن الترابط الوطني معقود بناء على اتفاق بين جماعات دينية، لا على عقد اجتماعي بين الأفراد. غير أن هذا التنظير يتناسى بالطبع السؤال عن سر ترابط الجماعة الدينية نفسها والعقد الذي يربطها.

إلا أن القول بهذه الديمقراطية، حين يصير الموضوع موقع الرئاسة، يستبطن فكرة أكثر رسوخاً، هي ثبات أحلاف هذه الجماعات. إذ أن هذا المنطق يعرف غياب القدرة على السير بالإجماع في كل مرة، لذا يفترض وجوب حماية الأقلية من طغيان الأكثرية. إلا أنه لا يرى وسيلة لهذه الحماية إلا الدفاع بحق النقض، وليس القدرة على التحول إلى أكثرية.

أي أن الديمقراطية التوافقية تستبطن بقاء الأكثرية (التي هي تحالف عددي بين جماعتين أو أكثر من الطوائف) على حالها، اللهم إلا استبدال السنة بالشيعة أو الموارنة بالأرمن، لكن دون مساس في عمق العلاقة وطبيعتها بين كتلة أكثرية وكتلة أقلوية على نسبة لا تتعدل (الثلثان مثلاً؟). لذا تضيف هذه النظرية، ودعاويها اللبنانية الكثيرة، حقوق النقض إلى التعايش المشترك وتعلي ذلك فوق ضرورات اتخاذ القرارات وحسمها وفوق أحكام القانون والدستور في فرض أنصبة لإقرار الانتخاب أو القانون وليس ابتكار وسائل لتعطيله.

فكأن النزاع إنما يتم بين طرفين جوهرهما لا يتغير، يرفض أولهما التراجع إلى مقاعد المعارضة في حين يرفض الثاني استلام الحكم مدركاً أن العجز نصيب كل من يجلس على هذا الكرسي أو ذاك. وإذا ما كان الزميل الراحل جوزف سماحة يرى أن الأفضل أن نسير معاً ببطء على أن يركض بعضنا دون بعض، فإنه ربما غفل عن أن لا مناص في لبنان من أن يظل المرء لصق الآخر، إذ هما في سربال واحد، أو في أرض واحدة رغم جهود إسرائيل في رسم خرائط داخلية فيدرالية لها. لذا فإن الوضع في الديمقراطية التوافقية سيكون أشبه برجلين موثقين واحدهما إلى الآخر، ولما كان أحدهما يريد التوجه شمالاً بينما الآخر يغذ الجهد جنوبا، فإنهما في النهاية لا يتحركان إلا إلى الخلف.

إذا كان الرئيس حقاً رمز وحدة الوطن والساهر على دستوره ووحده شعبه وأراضيه فإنه يكون في مثل هذه الحال إحدى فتلات الوثاق الذي يجمع رجلينا، الموالي والمعارض. لكنه ليس أكثر من ذلك. فهو ليس في موقع القادر على دفع المسيرة باتجاه هذا أو ذاك، بقدرته الذاتية. لذا فإن أحلام المعارضة والموالاة في استغلال موقع الرئاسة لن تتمخض في النهاية عن شيء.

إذا لم نشأ التنظير لإلغاء منصب رئاسة الدولة وتحويله إلى منصب شرفي بالكامل (نمنحه للبطريرك مثلاً أو لأحد المعمرين أو لمن تختاره مجلة فوربس مثلا)، وهو يدنو من ذلك، لا بد من النجاة بعيداً عن الصيغ التوافقية إذا ما شئنا حداً أدنى من الفاعلية في إدارة الدولة ورئاستها. لكن ذلك يستتبع حكماً تغييراً في معنى لبنان ورسالته.

رئاسة لبنان ورسالته

لهذا البلد الصغير مزاعم طموحة وسرابية. فهو يدعي رسالة كونية في اثبات القدرة على تعايش الديانات في سلام ووئام. إلا أن تاريخه الطويل من الحروب التي تفصلها فترات هدنة متفاوتة المدة، لا يبرز أبداً طابعاً سلمياً في تعايش هذه الجماعات.

وهو يدعي رسالة قومية في تجسير المسافة بين الشرق والغرب، غير أنه، فضلاً عن وجود الطائرات والانترنت الذين يسمحان لكل راغب في عبور هذه المسافة التي باتت أقرب من الطريق بين طرابلس والناقورة، يمكننا ملاحظة أن الجسر لا يعبر الجسر، بل يظل مكانه يدوسه الآخرون بعجلات سياراتهم الفارهة.

وهو يدعي رسالة مسيحية في الشرق المسلم، إلا أن هذه الدعاوة، فضلاً عن الشكوك فيها قبل الحرب، انهارت تماماً خلال الحرب وتراجع الدور الماروني وصولاً إلى ما نلحظه اليوم، رغم "عجقة" الزيارات البطركية والفاتيكانية العائدة بأخفاف حنين، من تراجع مطرد للوزن الماروني في الدولة والوطن، سياسة وأداء واجتماعاً وثروة ومعرفة. أو يدعي كونه موئلاً للأقليات، فإذا بها جميعاً تتنافس في الكِبَر وتتسارع إلى الإبادة إن لم يسبق أبناؤها إلى الهجرة.

العجز الماروني الذي تبدى جلياً في زيارة البطريرك صفير إلى الفاتيكان، وإخفاق محاولة "تنصير" الانتخاب الرئاسي، يجعل من التشبث البطركي بموقع الرئاسة أمراً مفهوماً، لكنه لا يؤدي في الواقع إلا إلى زيادة عجز الطائفة، لأنه يرهن اختيار هذه الرئاسة بقرار الآخرين، على ما كتب أحد المعلقين، وهو يجعل المعركة تجري "على بكركي" كما كتب أحد الزملاء، وليست من بكركي تدار ولا الصرح طرف فيها، وفي هذا ما يشرفه في واقع الأمر.

لذا على لبنان أن يتواضع قليلاً، مثلما على طوائفه وزعمائها المنتفخين زهواً و/أو جيوباً. لم يعد عليه حتى أن يكون معلم العرب العلمانية، فالنظام التونسي أعرق باعاً وأكثر استقراراً، ولا أن يعلم الشرقيين الديمقراطية فهاكم النموذج التركي الذي لا يكف البعض عن امتداحه ليل نهار والإشادة بدور وساطته بين أوروبا والإسلام. ولا أن يكون القدوة في ابتكار أساليب الحرب الأهلية، فالعراق فعّال والحبل ربما على الجرار.

على لبنان مهمة واحدة فقط في عصرنا هذا: أن يظهر أنه قادر على التعلم من كيس عذاباته. اختبار الرئاسة في هذا المحل ربما يكون أساسياً، لكن أحداً لا يبدي وعياً بذلك.

فاستحقاق الرئاسة نابع، بعد ثلاثة أعوام من التمديد القسري، من رغبة في حفظ صورية الدستور، وحده الجنرال السابق اميل لحود يجرؤ على الإعلان عن خروجه عليها. أي أنه ينبع من رغبة في عدم المساس بالحد الأدنى الشكلاني من الاجتماع اللبناني، رغم تجويفه من كامل معانيه.

قد يكون استحقاق الرئاسة إذاً مدخلاً جيداً لإعادة بناء الحد الدستوري الأدنى لهذا الاجتماع، وإظهار أن اللبنانيين تعلموا الدرس من أن تجويف الدستور يعني، كما قال أحد العسكريين السابقين، الاحتكام إلى القوة العارية. قد تكون مقولته خاطئة أو مصيبة في احتساب قوته، وهو اعتاد الخطأ، إلا أن إدراك العلاقة بين الدستور وعري القوة ربما كان أول دروسنا. أما الدرس الثاني فينبغي أن يكون في اختيار الرئيس نفسه لينظّر لغياب هذا المنصب عن الحقل الطائفي كخطوة أولى أمام إلغاء الطائفية السياسية وإقرار صيغة مختلفة عن تلك الفريدة الشهيرة.

نحو صيغة قلقة

رأى أحمد بيضون في ختام دراسة هامة عن حروب اللبنانيين في القرن التاسع عشر وبطنها الولود، أن تصور الأطراف اللبنانيين لثبات أصولها "من ألف سنة أو نحوها"، ودفاعها عن ثبات الصيغ المؤقتة التي تم التوصل إليها اثر الحروب، إنما هو في أصل تكرار هذه الحروب نفسها. ويتساءل بيضون عن قدرة مثل هذه الأطراف على صياغة عقد جديد يسمح بتغيير المواثيق اللبنانية وفقاً لتغير ملامح الحال والعالم وتوازناتهما. لكنه، وهو الحصيف كما نعلم، لا يوازي تماماً بين "الأطراف" وبين "الجماعات الطائفية" إذ أنه لا يغفل عن سياق نشأة الطائفة عصباً وجسداً سياسياً، ولا عن تفاوت حظوظ الطوائف من "التطيف" ومؤسساته. وبالتالي فإنه لا يقفل أيضاً الباب في وجه احتمال نزع التطيف عنها، خصوصاً وأن "الشر المستطير" في تحويل الثبات وتقديمه على الحياة إنما يضعنا ربما أمام نزع الكيان اللبناني وسكراته الأخيرة.

في هذا المعنى يمكن القول بأن في وسع اللبنانيين، والموارنة تحديداً، ضرب مثال على قدرة عربية مشكوك فيها، ألا وهي الاعتبار بالماضي ودروسه، وذلك بالبدء بالإعلان عن أن منصب الرئاسة لم يعد، بحكم الأمر الواقع وليس بحكم عرف دستوري يتم انتهاكه، موقعاً مارونياً بل بات موقعاً وطنياً ولبنانياً، وذلك بغض النظر عن مذهب شاغله. ليس هذا كرماً وأريحية بالطبع، ولا حتى تنازلاً، بل إن مثل هذا الإعلان سيكون الحجة الوحيدة التي تتيح للبنانيين من شتى الطوائف والموارنة في مقدمهم، القول بأن المجلس الحكومي مجتمعاً، وليس رئيسه، هو أيضاً موقع وطني، وأن المجلس النيابي كذلك، وليس يملك رئيس مجلس النواب إغلاق هذا البيت الوطني، كما لا يملك رئيس الجمهورية رفض التوقيع على ما يلزمه به الدستور مكتفياً باستخدام صيغة المضارع (يصدر، يوقع، ينشر... الخ) إلا حين يمنحه صراحة حق رد النص للمراجعة، والأمر كذلك في الحكومة كما في المجلس النيابي الذين يجب أن يتم تعديل أنظمة عملهما لمنع القدرة على التعطيل في ما لا نص واضح في شأنه في الدستور.

نزع التطيف عن الطائفة مقدمة وشرط لحياة أبنائها حياة كريمة كمواطنين في الوطن، وليس كقطعان لهم من المرعى حصة مرقومة. كذلك نزع التطيف عن مؤسسات الدولة، وهو شأن مستقل عن مذهب الشاغلين كما أسلفنا إذ يتعلق بقرار الاختيار وليس بالمرشح، هو الأمر الوحيد الذي يمنع تحولها إلى مثل هذا المرعى وتحول مهماتها إلى كلأ وفيء. ولا يمكن أن ينطلق ذلك إلا من إيمان عميق بالسياسة من حيث هي رفض للدفاع عن الثوابت ولسجن المواطنين مسبقاً في أقفاص من شتى الألوان، بل هي فن الممكن وفضاء الحرية وحاجة المجتمع إلى تكييف ذاته مع عوامله الداخلية وشواغله الخارجية.

يشترط تالياً لقيام مثل هذه الصيغة التي تقدم التكيف على الثبات، فضلاً عن شرط الإيمان بسياسة هذه صفتها، انتباه لضرورة "كتابة" الصيغة دستورياً، وليس إعلانها المضمر كالميثاق الشهير. وذلك مع فتح المجال لإمكان تعديل هذه الكتابة بوسائل دستورية أقل تعقيداً من الموجودة حالياً. أي أن تعديلاً للدستور ينبغي أن يأتي بعد انتخابات الرئاسة وليس قبلها.

أما مضمون الصيغة فلا شك أن احتمالاته كثيرة، لكن في ذهننا منها اثنين يفيان، على ما نحسب، بشروط التغير المستمر. فالأول من الاحتمالات هو تثبيت التداول صيغة، فيرفض تخصيص هذا المنصب بتلك الطائفة وهذا الموقع بأخرى، وتقر "سلة مناصب" واسعة جداً لتلائم توزيعاً طائفياً لا يغفل الطوائف "الصغرى" من خارج تلك التي لا ندري لم حصروها بست. يفترض بهذا التغيير المتواصل مع إتاحة المجال أمام الطوائف الصغرى أن يعوّد الجماعات على الانصراف عن الدفاع عن "محمياتها" غير الطبيعية وعلى الإيمان بكفاءات متنوعة من شتى الانتماءات. على أن هذه الصيغة تظل محكومة في بنيتها بالرؤية إلى الطوائف كواسطة أو كجسد يتم الاختيار من بين أعضائه حتى وإن لم يعد هذا الاختيار محكوماً برغبة الطائفة نفسها.

أما الاحتمال الآخر فهو ما نسميه بالديمقراطية القلقة الرجراجة، وهي هي الديمقراطية الأكثرية اللاطائفية واللاإجماعية، بتمثيل نسبي وبتبسيط شروط التعديلات الدستورية. وسر قلقها وعدم استقرارها أن رياح استطلاعات الرأي وغوائل الزمن الطائفي تظل تحتها وتتهددها. لكنها الوحيدة التي قد تؤسس فعلاً لتجاوز ارتباط علاقة المواطن بالدولة بمروره الحصري بالطائفة. تستبطن مثل هذه الصيغة أيضاً إيماناً باحتمال الانقلابات الكبرى في المجتمع، وتغيير التحالفات، وبروز التشققات في ما يبدو في لحطة استقطاب أجساداً صماء وجلاميد صخر لا تفتأ تنحط، ذلك أن الصخور، ما يظهر في معابد بعلبك، لا تشال إلا من تشققاتها، طبيعية كانت أو محفورة، ولا يجري ماء المعنى إلا بين فرجات اللغة.

مراسي الطبيعة وثوابت الدستور

لكن هل نقوى على العيش دون ثوابت ونحن من لا يبارح ألفة الأزل والخلود والله؟ أو بثوابت بالحد الأدنى؟ ربما يستحق الأمر أن نجري يوماً ما ثبتاً بثوابتنا لنرى مدى عمقها الحقيقي. في الانتظار، ليس من ثوابت متفق عليها خارج ما يكتبه الدستور نفسه، أو خارج ما تفرضه الطبيعة ولنلاحظ شبههما في المادة الأولى من الدستور رغم غرابة تعريفها للحدود الجنوبية التي تظل مشرعة على مدى فلسطيني أصلاً:

لبنان دولة مستقلة ذات وحدة لا تتجزأ وسيادة تام. أما حدوده فهي التي تحده حالياً.شمالاً: من مصب النهر الكبير على خط يرافق مجرى النهر إلى نقطة اجتماعه بوادي خالد الصاب فيه على علو جسر القمر.
شرقاً: خط القمة الفاصل بين وادي خالد ووادي نهر العاصي (اورنت) ماراً بقرى معيصرة ـ حربعاتة ـ هيت ـ ابش ـ فيصان على علو قريتي برينا ومطربا، وهذا الخط تابع حدود قضاء بعلبك الشمالية من الجهة الشمالية الشرقية والجهة الجنوبية الشرقية ثم حدود أقضية بعلبك والبقاع وحاصبيا وراشيا الشرقية.
جنوباً: حدود قضائي صور ومرجعيون الجنوبية الحالية.
غرباً: البحر المتوسط.

لنضف إلى ذلك جيرة سوريا الدائمة، وإسرائيل إلى أمد غير منظور، وغياب موارد في باطن الأرض اللبنانية، لنفهم أننا مشرعون دائماً لغواية البحر ونداء الصحراء، وأن ضيق هذه الأرض يجعل الزراعة فولكلوراً ويجعل من العيش على سطح الأرض اللبنانية، لا في أنفاقها ولا في غيتوهات، الخيار الأوحد الذي يستحق أن يسيل له عرق الجباه وعصارة الأدمغة. في مثل هذا فليتنافس المتنافسون وعلى أساسه سيحق لنا أن نفكر بدور ما للبنان ورسالة متواضعة دون أن تغفل الطموح.

Aucun commentaire: