samedi 5 janvier 2008

علا وعوده

ملحق النهار الثقافي، أيار 2006


عَلا و عُوْده السائح و الدليل







في مناسبة نادرة خرج عازف العود الجزائري المبدع عَلا (بتشديد اللام) من عزلته الباريسية ليقدم في مدينة النور أمسيةً ارتجالية في لو كافيه دو لا دانس.

عزلة علا الأسطورية منذ تركه للجزائر في مطلع التسعينات و غيابه المتواصل من ثم عن وطنه الأم تضاف إلى الحكايات الكثيرة الأشبه أيضاً بالأساطير التي تروى عنه في بيشار جنوب الجزائر قرب الصحراء التي يقول، كما كان المصري ادمون جابس ليقول أيضاً، أنه يحملها في قلبه.

من هذه الصحراء ورث علا صفاءً غريباً و نقاءً و تواضعاً جماً و كل ذلك لا ينفصل عن موسيقاه بل يشكل نسغها الأعمق. يجلس علا على وسادة صغيرة قريبة من الأرض ثم يحني رأسه و يضع أذنه على العود كمحب يسمع نبض قلب حبيبة نائمة، و من هنا يبدأ رحلته التي لا ينتهي فصلها الأول ثم الثاني إلا بوقوفه متألم الساق يعرج قليلاً، شأنه شأن المشايخ في القرن التاسع عشر و ما قبله حين كانوا يجتمعون في حلقاتٍ و يمسكون الإيقاع على أفخاذهم.

لا يستعرض علا عضلاته في التقنية و السرعة و إن كان يمتلك منها نصيبه حين يحتاج. لكنه بالمقابل ساحر الإحساس للمتلقي و للعازفين أيضاً حيث يمتلك ضربة ريشة شديدة التميز لا تخطؤها الأذن، بخاصة حين يخطف النوتات المتتالية بالأصابع و بضربات ريشة قليلة. كما أن الأنغام التي يهواها و الخالية غالباً من أرباع الصوت ـ و إن زارها أحياناً بخفة نادراً ما تعرفها ـ و تأثراته و هو في الصحراء العميقة بالموسيقى الأوروبية و البلوز و الغيتار غير الإسباني تضفي على تناوله المقامي و أبعاده (كما يتبدى لمن يلاحظ أوضاع أصابعه) و مفردات جمله نداوة غير مألوفة في موسيقانا.

و علا الكهل من القلائل القادرين في أيامنا على تقديم أمسية ارتجالية بالكامل، إلى جانب التونسي فوزي السايب، و سره الحقيقي في ذلك يتبدى منذ قعوده. فعلا يتبع نداء العود و لا يفرض عليه هيكلاً واعياً سابقاً على اللحظة. و هو إنما ينصت إلى صوت العود، عوده الخارق الذي صنعه بنفسه و الغني بأصوات و "هارمونيك" لا تنضب، و يسري معه بحثاً عن قبس صوت يلوح في بعيد الظن أو الوهم.

لهذا السبب قد يفتتح علا عزفه، أو يعود بعد أن يكون قد خلق مساحة من الصمت، بأن يقوم بمجموعة من الإئتلافات في حركة ريشةٍ دائرية لا تقول سوى البحث عن المنطقة الضائعة التي يبحث علا عن علاماتها ليقودنا إليها، كما يتنسم الدليل في الصحراء معالم الطريق المتقلبة بحسب الكثبان. و هو لهذا السبب أيضاً قد يلجأ إلى مفردات إيقاعية تمهيدية لا يلبث أن يطورها إلى تنويعات مرتجلة تنقل نبضه في هذا الآن.

فعود علا لا يقول فحسب النقاء و الصفاء الباهرين، بل يقول أيضاً أن الروح تائه يغذّ السير على نبضاتٍ متفاوتة، (و هذا النبض هو ما يفيض بسحر من عازف عود مصري شاب هو حازم شاهين، ألمع أبناء جيله اليوم). هكذا يتزاوج ارتجال علا مع لحظات روحه و حركاتها وجهةً و إيقاعاً. و تفاعل المستمع معه ينتج نوعاً مختلفاً من الطرب، ربما هو النشوة الساكنة التي تتوق إليها النفس.

ففي حين يرتكز الطرب كما نعرفه، لا سيما في صيغته المصرية، على أحد عمودين: الشجن الشجي كمسحة من الأسى الخفيف غير الحاد (كصوت محمد رفعت) ، و مرح اللعب مع المطرب في مفاجآته و ارتجالاته (اسمع مثلاً إطراب زكريا أحمد) لا سيما مفاجآت القفلة و النقلات المقامية، و في حين أنه بهذا لا يطال الفرح الحقيقي (و هو غير المرح اللعوب) و لا الحزن البالغ (و هو سوى الندب و النواح) كما في موسيقى البلقان مثلاً، نرى علا و هو يطال الفرح بيسرٍ مذهل و يقول النقاء بمثل ذلك من الصفاء، أما الحزن فيظل بعيداً و إمّا خالطت الدموع العيون أو تجمعت في الحنجرة فما ذلك إلا للحظات لا تطول، كقطرات ترتشفها الروح دون أن تستجدي بها تصفيق الآخرين و لا "اندماجهم".

أمسية علا حدث حقيقي يهز المنصت و يحمله إلى سكينته الخاصة أو إلى قلقه مروضاً لكنه حدث دون استعراض أو إبهار. حدث هادئ يعصف بالنفس دون أن يلوح أن ثمة أمراً فيها تزحزح من مطرحه، الحدث دائماً سابق على الإنتظار. لافتة و دقيقة جداً هي الكلمة الوحيدة التي تلفظ بها علا في الأمسية، في ختامها تحديداً، بعد إيابه من تجواله في ثنايا الروح، قال بالفرنسية: voilà (هُوَذا).

Aucun commentaire: