samedi 5 janvier 2008

وطن كاليدوسكوبي

نشرت في عدد رأس السنة 2007 في ملحق النهار الثقافي
وطن كاليدوسكوبي في عيده الأخير


كنا نقرأ ونسمع صغاراً أن الأعياد كالأماسي، أوقات لفحص الضمير واحتساب محصلة ما أتاه المرء وما اقترفه، لكن مرور السنين يخرجنا، كما رأى تروفو، من عالم الطفولة، الذي هو عالم من الممنوعات ومن الحساب والجزاء، إلى عالم الكبار، حيث كل شيء مسموح، وحيث لا يعني العيد سوى تغييب السؤال في المتعة وتذويب الإنصات إلى النفس في فيض الاختلاط.

وربما كان هذا أفضل، لا سيما في بلد قد يكون العيد هذا العام عيده الأخير، حين يبشرنا المبشرون بأن انتهاءه يعني فتح أبواب جهنم، التي قيدتهم في أصفادها أيامُ رمضان السابق، حتى لنتمنى أن تكون كل أيامنا أعيادا وصوماً، لا لنتمتع بها، بل ليظلوا يرسفون في القيود والأغلال.

غريبة ومتعبة هي هشاشة هذا الوطن الذي نبيت لا نعلم إن كنا سنصبح عليه، أم على آخر. لكنها أيضاً هشاشة خادعة، كهشاشة الكلمات.

هشاشة الوطن الحماسية

يبدو لبنان البلد الوحيد الذي يترك المغادرون مطاره وفي قلبهم، لا غصة الفراق، والخوف من المجهول المقبل أمامهم، بل خوف على المجهول الذي يخلفون. ولعل هذا يدمغهم بطابع العيش على حافة البركان، أو في أرض الزلازل. فلا معنى للعمارة في أرض مهددة إلى هذا الحد، ويكفي فيها أن يعب المرء الحياة عباً، لأنه لا يدري ما تراه يكسب غداً.

ولهذا أيضاً يخاف المغتربون، هؤلاء اللبنانيون غير القلقين على أنفسهم ما داموا يعيشون في بلاد الله الراسخة الأرضين، على لبنان، فوق ما يخاف أهله المستغرقون في لذات الحماسة. ليس الجهل في زمن الانترنت ما يدفعهم إلى الخوف على الغائب، بل خمود الحماسة للحياة، وبدء العيش الفعلي، وسكونه النسبي مقارنة بأحلام عب الحياة من مناهلها المختلفة.

أم لعله العمر؟ يدرك المرء أنه اكتهل، مبكراً، حين يعي أن حسم مصير الأمة لا يقرره حسمه خياراته السياسية، ولا مقدار تعلقه بهذه الفكرة أو تلك. يبدو هذا الاكتهال، أو النضج إن وددنا مراعاة أهليه، حين يدركون صغر حجهم ووزنهم في مثقال العالم، وحين تدركهم السخرية المريرة، لا سيما من السياسة والساسة، على وجهين، ينزع الأول إلى التساؤل عن تفاهة الانسان في الكون الهائل التعقيد والمخيف الاتساع والجم الموارد والمتع، التي يحصرها السياسي في مد ابتسامته على جثة الخصم في مساحة لا تزيد عن المتر المربع. أما الثاني فيقود إلى التساؤل، لا عن التفاهة، بل عن أهمية ما وراء الصورة في تشكيلها، عن الوزن الحقيقي لهؤلاء الذين لا يقودوننا سوى إلى هاوية ذواتهم، في ميزان علاقات القوى الفعلي، وعن تكلف نبراتهم وخطاباتهم المحمومة، إلا إذا افترضنا أن سبب الحمى إمساك في المعدة!

رغم ذلك لا يكف اللبنانيون عن الحماسة، التي هي مدعاة حيثما حلت للاقتتال الخارجي، أو للتناحر الداخلي. وليس في ادعاء بعضهم حب الموت إلى المغالاة في عب الحياة، وصولاً إلى ضمان ما بعدها، وبجرعات إضافية إذا أمكن من الجنة.

معنى لبنان في قلقه

يرث المرء في هذا ضعف لبنان التكويني.إذ لا مبرر لوجود بلد، يعتبر نفسه ملجأ الأقليات والمضطهدين، سوى مجاورته للطامعين الأقوياء والجشعين. أي أن سبب تشكيل هذا "الوطن"، مرهون بوقوعه على خط الزلازل والاستبداد. ولا ننسين أيضاً أن هذا الوقوع هو أيضاً سبب رئيسي في إشعاعه الفكري، بالمقارنة مع الثقوب السوداء المحاصرة له، وفي ازدهاره الاقتصادي النسبي، حين تسنح له فرصة الازدهار.

تطارد أشباح الاضطهاد والأقلية والاستبداد شطوراً وافرة من اللبنانيين لكنها بدل، أن توحدهم، تقيمهم في مواقع متغيرة وتنصبهم بيادق في معارك تتجاوزهم. ذلك أن الاتفاق لم يجر على تحصين هذا الملجأ، ولا يزال اللبنانيون إلى اليوم يكرهون الملاجئ، إلى حد عدم بناء أي منها، حتى على خطوط المواجهة.

ومثل هذا الاتفاق لا يكون إلا سياسياً في الأصل. أي أن الميثاق الفعلي المطلوب من الطبقة السياسية اللبنانية هو الاتفاق على تحصين البلد من كل استتباع للخارج، ليظل محافظاً على مغزى وجوده، ولا يختلف في هذا المجال استتباع لصديق عن مثيله لشقيق أو نسيب. ذلك أن كل استتباع قاصر عن طمأنة هواجس كل اللبنانيين، وهي بالتالي عامل على اقامتهم في خنادق متواجهة، وفي استتباع مواز.

ولما كان اللبنانيون قد جربوا في السابق ويلات الاستقواء بالخارج، فإن عبقرية بعضهم تفتقت اليوم عن تجربة بناء قوة ذاتية، منفردة عن شركائه في الوطن، ولا يظنن أحد أن ويلات القوة الذاتية ستختلف عن سابقاتها، أو أنها ستلقى إجماعا على الحمد بها.

في ظل غياب هذا الميثاق الأصلي، الذي يشكل الضامن الوحيد لمعنى لبنان، أي في ظل استمرار كل فريق لبناني في بناء علاقات مع أطراف خارجية، من خارج إطار جامع يفترض بالدولة أن تشكله، فإن حلم القفز فوق لبنان يصطدم دائماً بحقيقة أن لا أحد أعلى من السماء التي تظله، ولا أوسع من الزقاق الذي يأويه، ولا من مساحة القبر الذي سيثوي فيه.

نقيم في الهشاشة ما ظننا أننا أكبر من الوطن، بدل أن نقول أننا نكبر به.

صمود الكاليدوسكوب

غير أن هشاشة لبنان خادعة، لأنه لا يصل إلى الانكسار الفعلي، لا لصغر مساحته، فهنالك دويلات أصغر، وأكثر استقراراً، بل لأنه في الواقع مركب من نويات لا تربطها علاقات فعلية في ما بينها. لبنان، كالكاليدوسكوب، لا تنكسر صورته حين تهزه، بل فقط تعاود التشكل بالعناصر ذاتها، بانية علاقات جديدة، بالغة الشكلية، بحيث أنها لا نقاوم أي صدمة، ولكن لا صدمة تكسرها.

رسمت صحيفة لوموند مؤخراً صورة لتشكل التحالفات اللبنانية، منذ 1975 إلى اليوم، والنتيجة بالطبع مذهلة، فباستثناء حركة أمل التي لم تقف يوماً في صف مناهض للتدخل السوري، فإن الجميع قد تقلب في كل التحالفات الداخلية المتخيلة. كان يكفي أدنى حادث في منطقة الشرق الأوسط، كي تنقلب الصورة والألوان في لبنان من نقيض إلى نقيض، وكي تتمدد الخنادق بين شارعين، إلى مجارٍ بين أخرى، حتى عمت الخنادق، والمجارير، كل الشوارع، وأصبح لدينا الوطن الوحيد في الدنيا الذي تساوي مساحته مساحة انقساماته.

إنها الهشاشة عينها التي تسمح، اقتصادياً، بعدم التأثر سلباً بأي أزمة اقتصادية عالمية أو بأي انهيار في الأسواق، من الشرق الأقصى إلى أميركا. نحن محصنون لأننا لم نبنِ ما قد يتضرر. وإذ نحيا فإنما نحيا من الإبحار على موج اللحظة، لا من الكد في الإنتاج المستدام.

صحيح أن لبنان يعيش أزمة اقتصادية خانقة، لكنه كان يعيشها منذ وعود الحريري الربيعية، ويداويها بحقنات كبيرة من الأمل. وصحيح أنه يعيش أزمة هجرة فادحة، لكنه لم يعرف سواها منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى، وربما ينبغي أن نرى في سوى أزمة العمل مبرراً لها.

لا يغادر المغادرون فقط بحثاً عن عمل، بل بحثاً عن سكون، وعن رسوخ في أرض راسخة، وعن حرية فردية، وعن طبقة وسطى لا تتشكل تعريفاً من بحبوحة مادية نسبية بل من تغيير فعلي في العلاقات الاجتماعية وفي طريقة النظر إليها. لذا تراهم كالإنسان على القمر، قادراً عضلياً على القفز والارتفاع عالياً، لكن ذلك يعكس أيضاً فقدان الوزن. ومثله أيضاً لا تفارق عيناهم وجه مسقطهم. إنها لعنة لبنان مجدداً.


حصاد العام: تقويض كل مكونات الوطن

لم يقم العام الماضي، 2006، أي عام ما بعد زلزالي اغتيال الحريري وانسحاب الفرق العسكرية السورية، سوى برسم هذه الخطوط بالأحمر، وببدء إعادة الحفر فيها تمهيداً لملئها مجدداً بالدماء.

لئن لم يكن للوطن ذات لتحسب ما عاد به عليه حصاد العام، فليكن لنا أن نبحث في ما أتى عليه.

إن كان الوطن، أرضاً وشعباً ومؤسسات، فقد بتنا اليوم، بحمد الله ونعمته ومنته علينا، في شعوب وقبائل تأبى التعارف وتهوى الاستعداد لتفحّص الهويات واختبارات الدم. كما أننا أبينا أن يوحد العدوان الإسرائيلي الغاشم، حرباً وحصاراً، أرضنا، كما فعل في 34 يوماً، حين طال القصف كل المناطق والجيش، الجامع تعريفاً، وخنق الحصار كل الأراضي، بما فيها تلك التي سبق أن خنقها أيضاً إقفال المعابر السورية. لذا أصررنا على أن نعاود تقسيم الأرض اللبنانية أراضٍ، بل وعلى احتلال بعضنا بعضاً، إذ ما يمنع من أن يقرر تيار المستقبل غداً دعوة أهل طرابلس، التي يتم التعامل معها على أنها الضاحية السنية، إلى الاعتصام في المربع الأمني للحزب اللاهي؟

أما عن المؤسسات، فقد تم الرد على غيبوبة الرئاسة، بشلّ الحكومة، ومنع المجلس النيابي، المنعقد حكماً ودستوراً في دورة عادية، من الاجتماع. بل إن التحضير جارٍ، كما تقول زلات لسان صاحب إحدى الحكومتين، للعودة إلى تجربته السابقة، في حين يذبل خصمه السابق متأسفاً لدور المال السياسي، وكأنما إقطاع الجنوب والضاحية لحزب الله وأمل لم ينتج عن المال السياسي أيضاً وأيضاً.


وقاكم الله شر الاختراع والخيال

المحصلة إذاً أننا أمام تهديد يطال في وقتٍ واحدٍ معنى الوطن، ومقوماته. ولئن بات استعمال مفردات الخيال، السياسي، والتخييل والاختراع، سارياً اليوم على كل شفة ولسان، فإننا نسأل المولى أن يقين شر الاختراع (وهو في لسان الرعب الخيانة وأخذ المال، والكسر والشق) ومن شر الخراعة (الرخاوة، والدلاعة وهي الدعارة) والخُراع (الجنون) والنساء الخُرّع (الناعمات مع فجور)، ثم إننا نعلم أن أصل الاختراع في اللغة الإفرنجية إنما هو من "الوقوع على"، فعسانا لا نقع على خيال، ولا على خازوق وقاكم الله، ولسنا في ما نخترع سوى واقعين على ما كنا فيه ونعلمه.

ذلك أن الخيال الذي نحن مدعوون للتهويم فيه، ليس سوى وسيلة للوساطة بما لا يمس الواقع الأصلي. إنه مجرد هزّ لصورة الكاليدوسكوب، لكنه لا يمس أسس انتثار العلاقات اللبنانية، ولا يعالج انكسار معنى الوطن، ولا تصدع مكوناته الأس.


حدود المقاومة

رغم ذلك، نستطيع القول بأن العام الفائت أتى، رغم فداحة التضحية وفظاعة المجازر الإسرائيلية، بفائدة وحيدة، لا تزال تنتظر استغلالها، ذلك انه فتح الباب أمام نقد جذري لفكرة المقاومة (وليست المقاومة الإسلامية الشيعية للحزب اللاهي محتكرة التوصيف)، وعلينا أن نلج من هذا الباب إن شئنا ألا تكون كل العذابات قد راحت هباء.

ليس ها هنا، ولا في آن العيد، مجال للتوسع في هذه الفكرة، لكن الإشارة السريعة إليها تستوجب توضيحاً. ليس المقصود نفي شرعية مقاومة المحتل، بل المقصود أن علينا التفكر جدياً في أوان المقاومة، وحدودها، وجدوى أساليبها ومشروعيتها، وكيفية الاحتياط لانعكاساتها، وأخيراً كيفية الخروج من زمنها.

لقد رأينا أن المقاومة الجزائرية قدمت مليون شهيد، وفي المناهج الجزائرية يتضاعف العدد، في حين أن عشر هذا الرقم كان كافياً لتحرير أفريقيا كاملة، لكن الأخطر أن المقاومة بنيت واستمرت على أساس من الإقصاء المتواصل، ومن التصفيات الداخلية. كما أسست لحكم عسكري متواصل أفضى بالبلاد إلى حرب أهلية مديدة. مثال ذلك كثير في تاريخ حركات التحرر، لكنه ليس حاسماً. فقد عرف السود في جنوب أفريقيا، وفي الولايات المتحدة، كيف يتحررون من دون دفع البلاد إلى الدماء، وألقت المقاومة الفرنسية سلاحها أمام بناء الدولة، وانتهى الاستعمار في معظم أنحاء العالم، دون أن يخلف بالضرورة حروباً أهلية لا تفتر همتها.

كما أننا نرى رأي العين أن ما يسميه البعض مقاومة، وإسلامية، في العراق، ينتهي إلى حرب أهلية شديدة النهم إلى دماء الأبرياء، وإلى عنف مجنون لا عقال له، ولا عقل.

لذا بعد أن زال المحرم حول السلاح، ولم يبق سوى في بعض تصريحات مجانينه مقدساً وإلهيا، وهو ما ابتكر وصنع في معامل أحد الشيطانين، الأصغر أو الأكبر، أو مقلديهم، من الضروري، بناء إصلاء فكرة المقاومة نقداً فكرياً وسياسياً، يبت المشروع منها من المشوه المسيء، ويقرر مدى ارتباط المقاومة بمشروع فكري من جهة وبالعمل العسكري، وبغياب آفاق العمل السلمي والدبلوماسي مم الجهة الأخرى، ويعطي الأولوية للسلم على الحرب، ولا يكتفي بتقرير أن عشق السلاح انعكاس للخوف على الذكورة من الخصاء، ويشير إلى أن مشروعية أساليب العمل العسكري، بعد ذلك، محدودة بوجود إجماع وطني عليها، وليس بانحصارها في عصبية، لا سيما مذهبية، تستفز الأخريات، وفي اندراجها تحت سقف مشاريع الوطن، وألا يصبح اعتمادها على دعم خارجي مجلبة لاحتلال آخر أو وصاية جديدة، وأن تكون عملياتها فعلية، لا يجوز لها استخدام أساليب الإعلانات عن عمليات دعائية و "تذكيرية"، بشرط أن يتحسب الوطن كله، إذا ما ظل الوطن، لانعكاساتها. وأخيراً، ينبغي الفهم بأن المقاومة والسلاح ليسا أشرف، تعريفاً ولا أطهر ولا أنزه من الاجتماع ولا حتى من السياسة، بدليل تصفيات الحركات المقاومة بعضها البعض. لذا فإن على السلاح أن يلقى، لا أن يخفى عن الأنظار، حين يعرقل السياسة والاجتماع الوطنيين.

التوله بالشعوب وبملح الرجال

والحق أن أكبر ما يعرقل شرف السياسة وضرورتها هو الشعبوية من جهة، وفشو الكذب، ملح الرجال، من الأخرى. وليس أخطر منهما سوى رفض القول بحقوق فردية قانونية سابقة على تنظيمات الدولة كان دوماً ديدن الدول الكلانية التوتاليتارية على ما أشار ليو ستروس في كتابه "الحق الطبيعي والتاريخ".

ومن المعروف المشهور الواضح غرامنا، شعباً وساسة، بهاتين الخصلتين، أما الثالثة فهي في صلب تكوين دولتنا التي لا تنزع بنفسها إلى الكلانية، بل تمنح هذه الصفة للعصبيات الطائفية.

ولئن كانت، نظرياً، قواعد القانون العام لا تزال تقيم على مبعدة، حين تُحتَرَم بالطبع، قوة وعسف والجماعة التي ورثت سلطة الملك. (والبعض ربما يسوؤهم الأمر، كالحصيف روسو الذي كتب:"الشعب الإنكليزي يحسب نفسه حراً، مخطئ هو كثيراً: إنه ليس حراً إلا وقت انتخاب أعضاء البرلمان; ما إن ينتهي الانتخاب حتى يكون عبداً، لا شيء" قبل أن يضيف مرير السخرية: "في لحظات حريته القصيرة، طريقة استعماله لها تجعله حقيقاً بفقدها")، إلا أننا في مأمن من عسف الدولة اللبنانية، حتى الآن، في ظل تهافتها، لكننا لا نزال نأمل قواعد تقينا عسف الجماعات. ولا يتحججن أحد لا ببدعة "الديمقراطية الطائفية التوافقية"، التي تعني استدخال وصي أجنبي دائم كما يقول أحمد بيضون، أو التعطل المديد للحياة بقضها وقضيضها كما تظهر الأزمة الحالية، ولا بجموع الشعوب الهادرة في الشوارع المتناقضة (ما دامت لم ولن تصبح شعباً واحداً، ولا مجموعة "أفراد" ذات مطالب سياسية واضحة وقابلة للتحصيل قانوناً وواقعاً). فكما يلاحظ دوغي والعميد جيز أيضاً، إن لفكرة القانون الذي هو منبثقٌ عن الإرادة الشعبية طابعاً أسطورياً، وإن كان في صلب رؤيتنا الحالية للأمور. ويقول دوغي إن القوة الإلزامية في قانوننا الوضعي متأتية في الواقع من موافقتها للمبادئ الموضوعة أكثر مما هي ناجمة عن الإرادة الشعبية. إلا أن الرد المفحم على عشاق الإرادة اللحظية للشعوب و مفعولها الذي لا يقهر ولا يحتاج إلى قنوات للتعبير عنه، يأتي من حنة أرندت التي رأت بنفاذ بصيرة إن الأنظمة الديموقراطية تقوم على احترام دساتيرها أكثر من احترام قاعدة الأكثرية العددية، في حين أن الجماهير، غير المتمايزة و المنصبّة سيلاً موحداً، هي عماد الأنظمة الكلانية التوتاليتارية و ركيزتها.


أما فشو الكذب، ولنا في وعود الصادقين، وخطابات السياديين من كل الجبهات السيادية، وكل المتواجهين صراعاً على الوحدة، نماذج أكثر من أن تحصى، فإنه يمنع اللغة من أن تكون تواصلاً، فكيف يبنى التواصل؟ وكيف يبنى الرأي؟ وكيف يدعى الناس إلى الاجتماع على قولٍ أو قرار؟ فشو الكذب يمنع وجوباً إنشاء فضاء سياسي عام، لا لأن كل فضاء عام صادق بالضرورة، بل لأن فشو الكذب يمنع السياسة من أن تكون، كما ينبغي لها، دعوة إلى الغفلين من الناس إلى تقديم خيارات وتأخير أخرى، وبناءً للأولويات، وشرحاً للمخاطر وللمنجزات، ويحولها، كما نرى، شيفرات سرية ورسائل دموية بين أطراف تعرف بعضها البعض، وينكر كل منهم لأتباعه صفة غير صفة القطيع الذي يضبطه إما بالعصي أو باستنهاض أدنى الغرائز و العصبيات.

الأولوية الآن للغواية

الحفاظ على اللغة وفضح طريقة التشفير هذه تشكل ربما الوظيفة الأولى للمثقفين، وليست وظيفتهم تأويل خطابات المتخاطبين والشرح على شروح هوامشها بما يمنحها غلاف الهدية المسمومة المشع، كالبولونيوم، ولا وظيفتهم أن ينقلوا الرسائل على صفحات الجرائد. وإنه لمما يدعو إلى الخشية أشد الخوف على الصحافة وعلى الوطن كله أن تتكاثر، كما نشهد في هذه الأيام، أقلام الكتبة، الناقلين عن مصادر أو المطلعين على أسرار، لا يعلمها إلا الراسخون في وحول القذارة السياسية والاستخباراتية الحالية، بالإضافة إلى أولئك المقدمين غير المقدامين، الذين يقولون في مقالاتهم شيئاً، وفي جلساتهم الخاصة نقيضه.

إلا أن فضح التشفير وفرض حد أدنى من نقاء اللغة، لا سيما الدستورية منها والتي كثيراً ما أشرنا إلى أن انتهاكها إنما يفضي إلى دنو النوائب والحروب العارية، لا يستنفد مهمة المثقفين. إذ أن المثقفين، لا سيما في بلادنا، ليسوا سلطة ولا هم بقادرين على حشد الحشود، ولا حتى على الفوز في انتخابات نيابية بالغة النزاهة. وليس هذا من مهامهم على أي حال. لذا فإن عليهم أن يسألوا أنفسهم، عن فائدة الكلام إن لم يكن له صدى، أو قارئ مستعد للنقاش، في زمن بات لكل فريق أبواقه، ولكل قارئ متحزب ما يرضي فخره الذاتي وكرهه لشريكه في الوطن. لذا لا تنحصر مهام المثقفين في الذكاء، ولا في الكتابة للخارج، ما دام لا داخل يكتبون له، بل إن أولها هو صوغ هذا الداخل، بإنشاء مساحة لنمط مختلف من الحياة والتفاعل والانفتاح والنقاش.

صحيح أن المثقفين والفنانين اللبنانيين حاولوا صياغة نمط من العيش مختلف، لكنه كان، في الأغلب، نمطاً طارداً للآخرين، متشاوفاً و"خارجياً" إلى حد ما في اهتماماته. المطلوب مختلف تماماً.

يستغرب رئيس تحرير إحدى الصفحات والملاحق الثقافية في صحيفة لبنانية وجود عشرات النشرات ودور النشر والمطابع في الضاحية، قبل تسويتها بالأرض. لكن الواجب الاستغراب ليس وجود هذا العالم الثقافي الذي غاب عن بال أستاذنا، بل في أن هذا العالم الثقافي لم يعتبر أن عليه أن يحظى بالاعتراف، أو على الأقل أن يطلع الآخرين، على نتاجه. المرعب في الأمر أن الثقافة الظاهرة والمعلنة لا تمارس الغواية على من هم خارجها، بل الغرور. من مهامنا الأهم، والأكثر أولوية في الوقت الراهن، أن نكون مغوين، نتاجاً وعيشاً. حينها فقط قد نجد من يهتم لهذا النتاج، ومن يستمع للقول فيختار أحسنه، ومن يبني الأسس لمجتمع مدني (أي مضاد تعريفاً للأهلي)، نستطيع فيه أن نلتقي على سوى الغرائز وشهوات تدمير الآخر. .

Aucun commentaire: