samedi 5 janvier 2008

يوميات الحرب

ملحق النهار، آب 2006
من يوميات "مناضل" في باريس


بضعة أشهر قبل 12 تموز
حلم: السيد حسن نصر الله وأنا في سيارة رينو صغيرة، نسرع باتجاه نفق شكا، على الأوتوستراد، لسبب مجهول نحن مقتنعان بأن عبور النفق سيحمينا من طائرة هليكوبتر اسرائيلية، نرى رأي العين صاروخها. السيد نصر الله فائق اللطف، وأنا على ثقة أن والدي سيرحب به لدينا، وأعرف أن أمي قلقة لشدة حرصها على متوجبات الضيافة. هنالك قوة حنان هائلة في صوت السيد وحديثه الهادئ إلي، ونحن نفر من قنص الهليكوبتر.

ثلاثة أشهر تقريباً قبل 12 تموز
حلم أيضاً: السيد حسن نصر الله وأنا في ما يشبه قبو بيت جدتي القديم في الضيعة. نحاول معاً ضبط جسم غريب، شيء يشبه رجلاً سليخ الجلد، طاقة حمراء متوهجة وحارقة، نحاول إعادته إلى قفصه، وتخبئته عن بقية سكان البيت. العجلة واجبة خصوصاً وأن هذه الطاقة المتوحشة تجأر كالبعير ساعة ذبحه.

الأربعاء 12 تموز
الأنباء الأولى عن قصف يتجدد على مزارع شبعا واشتباكات في هذا القطاع. منذ خطف الجندي شاليط والمرء يصلي أن يلهم الله حزبه ألا يفتعلوا اشتباكات مجدداً، من الواضح أن الجنون الاسرائيلي لا يجد موازياً له سوى في تنصل المجتمع الدولي من دوره كضامن للقواعد التي ترعى وقوع النزاعات وتدرأ مخاطرها وشططها.
حسناً، إن كان الاشتباك في شبعا فقط، فسيكون مجرد رسالة أننا موجودون، وربما لن يفتح الاسرائيليون جبهةَ همجيةٍ جديدة.

الأنباء الآن تفيد بوقوع سبعة قتلى من الجنود الاسرائيليين وبـ"أسر" اثنين (لمَ يستعمل الإعلام كلمة "خطف"؟ هل لأنها من موروثات الجماعات الثورية في الأعوام 1970؟ ولكن أيضاً هل يجوز لغير الدولة أن "تأسر" جندياً من دولة معادية تنطبق عليه المعاهدات الدولية التي تلتزم بها الدول؟). الطامة إذاً وقعت، وزاد الطين بلة أن ذلك لم يجرِ في مزارع شبعا، بل ما وراء الخط الأزرق. لا شك في أن التوقيت يلقي شبهات كثيرة حول ولاء حزب الله للبنان. بالأمس، كان السيد نصر الله يؤكد، بحسب الصحافة اللبنانية، لسعد الحريري أن حزب الله سيهدئ الوضع، حرصاً على موسم الاصطياف. لكن المرء متنازع بين شعورين، كما كان في 11 سبتمبر، يغتبط للأذى اللاحق بالعدو المتغطرس، أم يأسف للقتلى وللدمار الذين يعلم أنهما الرد الأكيد على هذا التجرؤ. بالتأكيد، الوضع اليوم أقل سوءً، لأن قتلى العدو جنود، وليسوا مدنيين. كما لو أن قتل الجنود لا يمر بألم!! إنها ضريبة المهنة ربما، والتواطؤ المشترك على تقديم كبش واحد للفداء (لفداء السياسيين وشركات الأسلحة؟). لكن ليس في عادات اسرائيل احترام هذا التواطؤ العام.
السؤال الوحيد المهم الآن: نتفاءل أم نتشاءم؟

يومان على 12 تموز
بدأت ملامح الرد الاسرائيلي تتبلور. كان خطاب السيد نصر الله في البداية ضيق الأفق: مبادلة الأسرى، ومزاعم عن الوقوف إلى جانب الفلسطينيين. هل من الضروري أن نصعد إلى الجنة بخدين متورمين؟ ألا يكفي خد واحد؟
من يزعم الدفاع عن فلسطين ويهمل أوضاع الفلسطينيين، كيف يطيق خطابه؟ تمجيد المقدس، الأرض أو الشرف، واغفال البشر، الأناس، الضعفاء والمستضعفين، لحم المدافع ووقود البربرية! كان ليفيناس يقول إن الأرض، كائناً ما بلغت قداستها، تعود حجارة وغباراً حين تكون حياة إنسان واحد في خطر. لكن الفيلسوف اليهودي كان يقول ذلك نقداً لاسرائيل، فهل من يقول لنا ذلك باسم الإسلام ونقداً للجماعات الإسلامية.

من حق الحريري أن يشعر أنه طعن في الظهر وأن يوجه نقداً قاسياً إلى حزب الله، ولكن هل سيتحمل البلد؟ ربما! ما زلت أعتقد أن الأمور قد تحل قبل يوم الإثنين المقبل، وإلا فإنها ستطول جداً. فلا يمكن للأميركيين التضحية بحكومة السنيورة، نصرهم الوحيد في المنطقة، ولا يمكن اقتلاع حزب الله من دون تفجير الحكومة، والوضع اللبناني كله. هذه الحرب محكومة بسقف واطئ من الأهداف، رغم جعجعة الاسرائيليين. بالمقابل إذا طالت الحرب هل يكون من مفر من "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" ومن إلزامية التضامن مع حزب الله. نبيل يعتقد أن الأمر مرتبط أيضاً بكيف سيتعامل جنبلاط والحريري مع النازحين الشيعة. استقبالهم كما في 96؟ أم أنهم سيرفضون تسهيل نزوحهم؟ برأيي، الأمر يجري كما لو أننا نكتشف للمرة الأولى، كلبنانيين، أن لبنان أرض واحدة. لقد حاولنا طويلاً بناء بيروت كما لو كان الجنوب في قارة أخرى، وها نحن نتعلم، من جديد، كما في 96 حين ضربت اسرائيل معمل الكهرباء، أننا بلد واحد، أي أولاً وأخيراً أرض واحدة، وصغيرة!
الأرض؟! لست مزارعاً ولا ملاكاً، ولا أجد مبرراً عاقلاً لدفاع الناس الأعمى عنها، سوى ذلك الشعور، الذي يمد عروقه عميقاً في القلب، بوجوب الدفن هناك في الأرض الجرداء والحميراء قليلاً، وإلا فنَثْرُ رمادي في المتوسط.

بضعة أيام على 12 تموز
زيارة دوفيلبان استعراضية جميلة، الصحف الفرنسية تفيض في تأثير شَعْره المتراقص في الهواء البحري، على متن بارجة حربية في خضم أزمة دولية، على استطلاعات الرأي. التحرك في الأزمات ينفخ في أشرعة الشاعر، لكن وزير الخارجية السابق لم يجد هذه المرة الكلمات المناسبة. حتى مع تحسن صورته في استطلاعات الرأي، يظل رئيس وزراء فرنسا ضعيفاً لأنه يخطئ مواقيت الحزم. لا أدري كيف يكتب شعره، لكنه بالتأكيد سيكون كالبياتي لا يدرك أن على القفلة أن تصاغ في اللغة وفي السياسة كما في غناء ثومة.

هل تنتهي هذه المعارك في اليومين القادمين؟ هل ستعرقل إيران وسوريا الصفقة، كما حصل في فلسطين؟ إذا ضاعت الفرصة الآن، فستطول الحرب أكثر مما يحتمل البلد.
ما قدرة البلد على الاحتمال؟ كيف تقاس، وبأي وحدة؟

عشرة أيام على 12 تموز
للمرة الأولى، حياة تبدي إعجاباً بمقال لي، وترى سلاسة وخلواً من التعقيد في الجمل ووضوحاً في الأفكار. قلت لها، ينبغي إذاً أن أمتنع عن الكتابة السياسية، كي أحافظ على الغموض، الذي هو تكثيف الخلود في لحظة. طبعاً، كان ذلك مجرد سخرية، ولكن كيف الخلاص بعد ذلك من انتقادها لمركّب العظمة لدي!

الحديث مع بلال ذكي دائماً، لكنني لا أحب مقاله. كل هذا التشاؤم! أعرف جيداً كيف وصل إلى ذلك، في ظل كل هذا الدمار الذي أسمع عنه، ولا أراه. المقال في النهاية استكمال منطقي وتطبيقي للأفكار السابقة التي اقتنعت بها معه (المدن ووظائفها، شبكات الإتصال المتعددة ودورها في لحمة المجتمع... الخ). ولكن كيف إذن أرفض الخلاصات؟ كيف يمكن أن أوافق على المقدمات وأرفض المترتبات عليها؟ بقوة تفاؤل غريبة، أم بقوة الجهل وعناده؟

ربما على أن أشكر الحظ الذي حرمني في هذا الشهر تحديداً من التلفزيون. في فيلم من قصص قصيرة عن 11 سبتمبر كان أكثر ما لفتني هو تلك القصة الافريقية عن مجتمع لا تلفزيون فيه. 11 سبتمبر خبر إذاعي هناك، وسقوط البرجين بلا صورة، حتى بن لادن لا صورة له، لذا يسهل على أهل القرية الظن بكل ملتحٍ أقل سمرةً منهم.
أهلي في طرابلس، بعيدون عن الخوف اليومي، ولكنهم يختنقون، مثل كل اللبنانيين من هذا الإحساس بالحصار. ربما لا يسمعون صوت القنابل لكنهم بالتأكيد في خضم القصف الإعلامي. أرفض أن أشاهد صور الفظائع الاسرائيلية. لا لأنني أرفض الحقد والكراهية الذي سيشعله ذلك في قلبي، فهو بذلك ملتهب من الآن، ولكن لأنني أشعر أن سيل صور القهر والدم والدموع وسيلة أيضاً لشلّ القدرة على التفكير.

طوني يقول إننا نعيش في زمن الكارثة، في الزمن الذي ينفي سيل الزمن ويجعلنا نقيم في لحظة الحاضر، فقط، حانين على قتلانا، دون قدرة حتى على البكاء أو العويل. وحده الصمت يساوي العيش ـ في ـ الحاضر، لأن كل كلام حيّ يتطلب الاندراج في زمن ينقضي. بالطبع هنالك أيضاً الزمن السوري، أي الزمن الذي يساوي فيه الكلام الصمت لأن الكلام فيه لا يهدف سوى إلى افراغ الكلمة من المعنى، كي يتسنى للنظام أن يعيش إلى الأبد في زمن "التصدي والصمود" (أو الصمود دون التصدي بحسب قراءة مقلوبة لتصريح الحص الشهير). لكن، أليس هذا أيضاً ما تقترحه علينا "المقاومة"؟ الإقامة في زمن لا يمر عليه الزمن، في فعل المقاومة، لا في سعي هذا الفعل إلى الإنقضاء.

نيف وعشرة أيام على 12 تموز
حلم: الجنس مع خنثى! غريب من أين أتى هذا الفانتازم؟ كان هنالك أيضاً كل ثقل الرعب والخجل والخوف من الإنكشاف أمام الآخرين.
غرفتي القديمة في بيتنا السابق! أحلم أن أكون مخرج سينما كي أعيد إحياء هذا العالم الشاسع الذي كنت أراه في بيتنا الضيق، في الممر الدقيق بين المكتبة وغرفتي حيث الخزانة التي تضم مجلات العربي وسوبرمان وجرائد قديمة وأعداد "الملحق" التي تتراكم. وحدها الكاميرا تستطيع، مارّةً على مهل وعلى مستوى منخفض، أن تصوّر الذاكرة. دروس من برغمان بالطبع، ومن مخيلة الطفل الذي لأول مرة يلوح على هذا القدر من البعد. كأنما لم أخسر طفولتي إلا حينما غادر والداي بيتنا القديم.

منذ بدأت هذه الحرب، أصبحت أستخدم دون انتباه الـ "نا"، والـ "نحن"، كما لم أفعل قط من قبل.هذه الحرب تقضي على فرديتي، وأنا البعيد عن ساحتها! لكنني لا أحتمل هذا الإندراج بالرغم مني في خانة "إما... وإما..."، نحن أو هم... أنا الآخَر الآخِر!

أسميت ذهابي إلى الاعتصام في ساحة السوربون "نضالاً"، فأنا آخذ المترو لأذهب كي أناضل وأعود به من ساحة الوغى! لو كان للنضال في العالم الثالث كل هذه المواصلات العامة لتحققت إنجازات "تاريخية" J
كل هذا "النضال" بالكلام وبالشعارات، أليس أيضاً ما ننتقده؟ في النقاش مع خليل وجوانا كان الأمر يزداد وضوحاً، نحن في نهاية الأمر نريد الدفاع عن موقع شخصي فردي، وعن حرية فردية، (هل ذلك ممكن في وقت تتساقط فيه الضحايا؟ أليس أنانية؟ يقولان)، في مواجهة سيل المواقف الثقافية التي تصنف الآخرين إلى عميل/ متقاعس أو إلى مقاوم. كيف تكون المقاومة في الثقافة؟ بل أساساً كيف تكون المقاومة؟ ما هي؟
ما أريده هو مقاومة هذه الثنائية البلهاء التي يسعى الجميع إلى جرنا إليها فنحن إما مع أميركا وإما إرهابيون بحسب الخطاب البوشي، وإما مع حزب الله أو عملاء لاميركا بحسب "المقاومين"، وكل ذلك بذريعة أن "لا صوت يعلو...". كيف أقاوم المنطق الأميركي الهائج كناقة عشواء إن كان أخي لا يدعوني سوى إلى المنطق نفسه؟
أحسب أن مقاومة هذا التسطيح الهائل لا يمكن أن تكون سوى ببناء موقع متميز، لكن كيف يمكن ذلك إن كان الكلام نفسه مصادراً؟ بمناهضة مصادرة الكلام نفسها! برفض مانوية الخطاب البوشي والخطاب الإيراني ـ الحزب اللهي، برفض انتهازية 14 آذار الرخيصة! الرفض وحده لا يكفي: ينبغي تفكيك هذه الخطابات، وإظهار كمية اللا سياسة، والغيبية، والزيف، والعمى الذي تفترضه تعابير وأدوات غير مفهومية وغير سياسية، كالفخر والكرامة والشرف والإباء والإرهاب غير المعرّف وآلام المخاض والنوازع الأصلية لدى شعبٍ ما وطباعه أو مشاريعه اللاتاريخية، وذلك في مجال سياسي يفترض أن تكون المطالب فيه واضحة والأهداف محددة وقابلة للتعيين وللتحقيق، لأن في فشلها أو تحقيقها حياة الناس وأرواحهم وسقف بيتهم ولقمة خبزهم.
الدفاع إذاً عن وجود الدولة، مجدداً وتكراراً، مع التحسب منذ الآن لشططها المحتمل.
في هذا السياق يصير واجباً حماية هذه الدولة ممن يتذرعون بالدفاع عن سيادتها، سواء كانوا دولاً أجنبية أو "شقيقة" (كألم الرأس!) تسعى إلى فرض قرارها على الدولة اللبنانية، أو الجماعات الطائفية التي لا يقوم اجتماعها وكيانها سوى على خرق سلطة الدولة وانتهاك سيادتها وصلاحياتها ما أمكنها ذلك!

المقاومة اللبنانية الباسلة؟ لقد تجلت بدايةً في كل نشاطات المجتمع المدني ومنظماته ومؤسساته كالصليب الأحمر وهيئات الإغاثة، قبل أن تتجلى ثانياً في استبسال المقاتلين اللبنانيين المنتمين إلى حزب الله في التصدي لتوغلات العدو الاسرائيلي في الأراضي والمياه الاقليمية اللبنانية. كل عامل في مجاله مقاوم لأنه يؤسس لمشروع ثالث وحيوي ولمقاومة لمشروعي الموت، الموت قتلاً بأحدث التقنيات أو الموت بالاختناق تخلفاً، وهما المطروحان علينا كقرني حَرَج، (بل كخازوقي حرج) لا يمكن القبول بأن يعلّق أحد، فكم بالحري شعب، على أحدهما.

بعد "النضال"، العشاء. غريب كيف نكتشف فجأة أن الأجوبة التي نقدمها، أكثر بكثير من الأسئلة، يمكن أن تنتهك خصوصية الآخر وأن تعتدي على خفره. الأنباء من لبنان تغدو مكرورة، قصف، دمار، موتى، مقاومة، إنه الروتين يا غبي!



نيف وعشرة أيام على 12 تموز (ب)
الإنقسام اللبناني في باريس منهك ومقزز! كل المظاهرات أزواج تنزل وكل اعتصام سرعان ما يرى قرينه في مكان ثانٍ. بحسب ما رشح عن اجتماع في السفارة لممثلي الأحزاب، لا خلاف جوهري بين الجميع على الحد الأدنى من المطالب. لكن لا أحد يرضى بالظهور إلى جانب الأخر علناً. كلما ناقشنا أحداً يقول، فليتنازلوا هم! كل هذا الدمار العاصف بالبلد لا يهز شعرة في رؤوس من يمشون وفي مؤخرات رؤوسهم مراصد للكاميرات التي يحسبون أنها تلتقط صورهم للخلود!!؟

المناقشات مستمرة مع خليل وجوانا. أجواء الشباب في لبنان تشي بحرب فعلية بين المثقفين هناك: معنا أو ضدنا، دائماً ومجدداً، وكل يراقب الأخر! الكثيرون يرون أن بيان "مثقفي المقاومة" فخ لا ينبغي الوقوع في الرد عليه. لست أرى ذلك. أرى أن الوقت سيكون متأخراً جداً حين تنتهي الأمور، ستكون مصادرة الكلام قد أنجزت. البعض يتخوف أيضاً من عودة الإغتيالات، في حين أن الغثيان يستمر لدى طوني. أحسب أن التحرك ملح وضروري في هذا الإتجاه، فقط لتأكيد الحق في الرأي المخالف، وفي الاستمرار في النقد، وبخاصة نقد القوى التي يفترض أنها تشكل قوى المقاومة الأساسية وعصب مناعة البلد، وذلك تحديداً حرصاً على هذا البلد عينه وعلى تصويب مساره نحو ما يراه كل امرئ أنه الأمثل.
لا بد في هذا من نقاش معنى المقاومة نفسه. اللغة دليلي الأثير، كما دائماً. المقاومة كما توضح اللغة نفسها دفاعية أولاً، دفاع دائماً وبدايةً وأصلاً عن حياة كل فرد، من أيما انتماء، (حتى وإن انتمى للعدو لأن في ذلك مغزى أخلاقية معركتنا)، وعن عيشه وحرياته المنصوص عليها في الدساتير والشرعات الدولية، وعن حقه في المساهمة في إعمار بلده وإغنائه بجهوده في مجاله وبتصويبه بالنقد لكل ما يراه خطأ في مجتمعه. أي أن المقاومة لا يجوز أن تختزل إلى ممانعة مشروع متعسف أو همجي ومتوحش تجري محاولة فرضه، وإن تضمن معناها ذلك تضمن الكل للجزء.

فكرة جوانا الرائعة، عدم الإكتفاء برفض الخطابات المطروحة علينا، وعدم الاكتفاء بالدعوة إلى تحديد معايير الربح والخسارة أو مفهوم المقاومة العامة، بل الإعتراض على زعم البعض حقهم في التصنيف (ولكن ألا يفترض هذا أيضاً إنكار قدرتهم على تصنيف أنفسهم؟ بلى ولكن ذلك طبيعي لأن التصنيف المعتمد ليس محايداً، إنه كتصنيف شعب ما نفسه أنه أرقى الشعوب أو أنه شعب الله سواء أجاء الإختيار منه أم من ربه). أكثر من ذلك: إظهار خطل أسس فكرة الفئة أو التصنيف كلها.
معها حق بالتأكيد. التصنيف إن جاز في القانون لتطبيق قواعد معينة أو جاز في الأنواع الأدبية لتسهيل النقد، فإنه إن طبق على البشر محاولة دائمة لاخراجهم عن حدود المساواة وتمهيد لحرمانهم من الحقوق المترتبة عليها، وأمثلة ذلك أكثر من أن تحصى في كل تواريخ الأقليات المضطهدة.

أتساءل دائماً لماذا أجواء اليسار أظرف في نظري من أجواء أصحاب الإيديولوجيات المتحمسين؟ (بالطبع أجواء اليسار لا تعني الحزب الشيوعي إذ لا أجواء له!). ربما فقط لأنني أشاطرهم الإحساس بانهيار الأحلام، وبضرورة أن يظل العمل ممكناً وواجباً بعد هذا الإنهيار، وربما أيضاً لأن في نبراتهم تلك السخرية التي أهوى، التي تبدأ بالسخرية من النفس، بالخيبة، وبالشجن الناعم المصقول بالحنين إلى ما لم يشهده أحد منا. ربما هذا ما يشكل أساس نفاؤلي الدائم، مثلما كان، برأيي، ما منع شوران (كما يلفظ بالرومانية) من الانتحار. في السهرة ضحكنا كثيراً على عقد باسل لزواج متعة مع فتاة روسية، متساءلين من أين أتى بالتمرات مهراً. تذكرت أنني استغربت تقاربهما، مع علمي بحيائه وتقواه. أوكي، هنيئاً له، إن كان ذلك يحل عقدةً!
العودة على بولفار سان جيرمان، مساءً: ذكريات 1968 لا تزال تعبق في المكان، أم أنه فقط رأسي المثقل بصورة تلك الإنتفاضة؟ كانت هدى أجابت إحدى الفرنسيات عن مدى الإستمرار في الإعتصام: إلى أن يقرر الباريسيون أن يستفيقوا! لكن الباريسيين كما نعلم ينزحون أيضاً موسمياً عن مدينتهم! يظل أن أيار 68، في شكل ما يضفي مشروعية على ادعاء فرنسا تمثيل القيم التي كان صاغها عصر الأنوار الأوروبي وأعلنتها الثورة. باريس وصية على هذا الإعلان، لأنني فيها ولأن في وسعي أن أعلن منها موقفي، ولأن شوارعها المرصوفة تتسع للكثيرين من كل الاتجاهات، حتى المعادية لنا، ولأن السياسة الخارجية لرئيسها أمر يحتسب في تقرير شعبيته!

نيف وعشرة أيام على 12 تموز (ج)
قانا! قانا 06! عرس الدم! من جديد، بعد عشرة أعوام، المأساة عينها. لم أر صوراً، لم أكن لأقوى على ذلك، صوت المذيع في الراديو يلفظ هذين المقطعين كان كافياً، لأشعر. لأحس بدمٍ قانٍ يهطل من العيون، بدمع يتغرغر في الحنجرة!
أريد القيام بأي شيء. ينبغي ضرب المصداقية الأخلاقية لاسرائيل في العالم الغربي. اللجوء إلى الضربات تحت الحزام: المقارنة بالنازية. باريس دشنت منذ أيام حائط "العادلين" الذين أنقذوا أطفال اليهود في فرنسا من أنياب النازية. حسناً فلنطلب نحن أيضاً أن نعثر على عادلين! الفرنسيون خبئوا مؤخراً عن أعين ساركوزي المئات من أبناء المهاجرين غير الشرعيين المهددين بالطرد إلى بلادهم الفقيرة، فليخبئوا أطفالنا عن عيون الطائرات الاسرائيلية التي تتقصدهم وعينها على مقبل الأيام وأجنة الأرحام!
خليل قلق من مخاطر مثل هذه المقاربة. لن يترك الشعبويون من هذا التقريب بين النازية والممارسات الاسرائيلية سوى مماهاة بين جوهرين، وسيغفلون كل ما نود قوله عن ارتباط هذه الوحشية، غير المسبوقة تحديداً، بعلاقة الإنسان بالتقنية، وبالحداثة.
في المظاهرة، في مساء اليوم نفسه، رسم مرفوع عالياً: نجمة داود = صليباً معقوفاً.
التأثير قد يكون تماماً عكس ما نريد، رفضاً مطلقاً لتقريب يلغي المسافة ويشطب منطق العلاقة بين نقطتين. وقد يكون كارثياً على مستوى الرأي العام العالمي.
الرأي العام العالمي؟! أليس علينا أن نيأس من هذا الرهان؟

عشرون يوماً على 12 تموز
هذه الصبية، كل صباح في المترو، كيف أقول لها أنها تشعّ باللا دعة، وأن ذلك يجعلها فاتنةً.
لم يشهد العالم قبل اختراع القطارات امكانية بقاء البشر لمسافات طويلة وجهاً لوجه دون كلام! الآن سماعات الهاتف والـ Ipod تزيد من صعوبة التواصل بين المتواجهين، إلى حد أن الاتصال بلبنان وهو تحت القصف أهون بكثير من مخاطبة الجار في المترو. ألا يصيب هذا العارض أيضاً السياسيين؟
إيه بودلير، هذه الفتاة وانا في الحشد نفسه، لكن التقاء العينين حتى مستحيل. لا الحشد يحملها بعيداً ولا قربها نافع ولا أنا أصبر!

الأغاني في المظاهرة واضحة الانتماء. لكن هنالك بعضها مما لم أسمعه من قبل، لا شك أنه أغاني العونيين. من أول مازورتين، يكشف فقر التوزيع و"الكيتش" اللبناني فيه عن ذلك، وعن افتقار كبير للبحث الفني الذي كان أساس ثراء التجربة اليسارية موسيقياً. ربما لأن اليسار كان يحلم بتغيير عالم، في حين أن العونيين لم يحلموا يوماً ولا يحلمون الآن سوى بالعودة إلى الماضي.
راديو الشرق يستمر في بث المقتطفات عينها من تصريحات الشهيد رفيق الحريري، "الحقيقة ما حدا في يخبيها"! إلى جانب ذلك هنالك العديد من أغاني المناسبات التي أطلقت بمناسبة هذه الحرب. لكن الأبرز هو الإصرار الكبير على أغاني بيروت، بما فيها تلك التي غناها راغب علامة قبل عشرين عاماً (هل هذه هي الإعادة التي وعدت بها الحكومة الاسرائيلية؟). لماذا بيروت؟ في حين أن القصف على الضاحية وفي بعلبك والجنوب. هل قبل البيارتة أخيراً أن الضاحية جزء لا يتجزأ من بيروت، أم أن بيروت تحاول التمدد على مساحة الوطن؟ ها هنالك إشارات جغرافية في أناشيد حزب الله؟

النقاش مع أصحاب الإيديولوجيات يصل دائماً إلى النقطة عينها: في الدين، السؤال عن وجود الله، وفي الصراع اليوم السؤال عن التسيير والتخيير! هل هنالك خيارات سوى السلاح؟ ووراء ذلك السؤال الأعمق، لمن الأولوية لرؤية الواقع والعمل على تغييره، أم للتوق إلى رؤية الإيديولوجية واقعاً؟ لا أستطيع أن أجيب على من يؤكدون انعدام الخيارات، سوى أن ذلك نفي للسياسة. الرد أن العزة والشرف أسمى من السياسة! ينسى هؤلاء أن السياسة هي أساس الاجتماع البشري منذ اختراع اللغة، وهي القدرة تحديداً على رفض القول بالجبر والتسيير!
في النقاش معهم، حتى مع العلمانيين منهم، يظهر العدو الاسرائيلي والأميركي كأنه شيطان لا شيء يثنيه ولا عقل يسيره، ولا تسوية ممكنة للصراع معه. إنه صراع وجود لا حدود، بالطبع بيريز أيضاً قال ذلك. لا أستطيع أن أجيب على ذلك سوى بأن الشيطان أيضاً نفي للسياسة. حتى صراع الوجود يحتاج إلى خطوات عملية، لا يشكل الانتحار الجماعي فاتحة ممكنة نظرياً لها! و"القضية" في الواقع أعقد من أن يحلها التواقون إلى شهوة الالتحام النهائي بالأبد في لحظة.

تذكير: خلق السبت من أجل الإنسان، ولم يخلق الإنسان من أجل السبت!
تذكير ثانٍ: بأي حقٍ أصنفهم أصحاب إيديولوجيات وأغدو أنا "مفكراً حراً"؟ ألا يسع الحرية أيضاً أن تكون ايديولوجية مثلها مثل عبادة الطبقة الوسطى السائدة هذه الأيام والافتراض غير المثبت من أن مصلحة الدولة في أن تمثل هذه الطبقة؟
تذكير ثالث: لبنان يخاف من المحكمة الجزائية الدولية حرصاً على حزب الله. ما ينبغي هو ملاحقة إسرائيل ومجرميها وإن على حساب محاكمة صعبة لبعض عناصر حزب الله، لأن إثبات نيتهم الجرمية سيكون بالغ الصعوبة، ونستطيع أن نكسب لأنهم لا يرتكبون جرائم حرب، بل فقطط يستعملون المتاح لهم، أي أسلحة ضئيلة الدقة، بعكس الإجرام الاسرائيلي بأسلحته الأميركية اللماعة.

نيف وعشرون يوماً على 12 تموز
غريب كيف أن قانا ـ 2 لم تتحول إلى 11 سبتمبر لبناني! هنالك قدرة لبنانية هائلة على الاستمرار في تفتيت الزمن الجامع إلى أزمنة جماعية خاصة ومغلقة. 17 أيار لا يزال أهم من مجزرتي قانا، واختفاء الإمام الصدر أو اغتيال بشير الجميل أشد وقعاً من 22 ت2 أو من 6 أيار! ربما يشكل اغتيال الحريري استثناء في ذلك، ولكن هل كان الأمر بسبب الاجتياح الدولي للزمن اللبناني بعد طول انقطاع، أم بسبب من كون اغتياله كان محاولة اغتيال لاحتمال الدولة اللبنانية، مما جعله أيضاً إعادة تأسيس لها؟ الإثنان دون شك. ولكن ما دمنا لا نذكر التأسيس الأول، فلا شيء يؤكد أننا لن ننسى أيضاً 14 شباط وما تلاه.

تحليل بلال بارع: قوى 14 آذار و 8 آذار لا تملك حتى القدرة على الوعد بشعار، لذا ينحصر وعدها بموعد زمني يفترض أن يقيم تأسيساً، خاوي المعنى، لجماعتها.
المقارنة هنا مع القوانين مفيدة أيضاً. بدأت القوانين بحمل التواريخ فقط، ثم أخذت تحمل إلى التواريخ أسماء وعناوين. كان هذا يعني أن القانون لا يكتفي بتفتيت الزمن الجامع، بل أيضاً يجعل من كل قانون استئنافاً لـ"مجال" محدد، وليس لزمن. هكذا بات لكل موضوع أو مجال أو حرفة سلسلة أزمنتها الخاصة. ما تفعله القوى اللبنانية المعنونة بالتواريخ هو تغييب البحث عن المجال الذي يسع عدداً من اللبنانيين أن يلتقوا فيه، لأن التواطؤ على اللقاء مستحيل من دون اللغة! مجدداً، وحدها اللغة تجعل من أفعال الإنسان سياسة (أرندت)، أما الأرقام والحسابات فلا تؤكد إلا استقلال التقنية برأسها، وابتعاد الإنسان المتزايد عن إدارة شؤونه. هكذا يكتب الكتبة مثلاً أن السلاح يحتاج إلى أسباب لتبرير وجوده، وتصريف وظائفه. السلاح يحتاج، لا حملته! كل هذا الوضع يخرج مباشرة من مخيلة بورخيس المليئة بالمتاهات وباللامتناهيات، أليست هذه أيضاً حال هذه الحرب ـ المتاهة اللانهائية، المتطاولة الخاتمة كأفلام كوستوريتزا اليوغوسلافي !

حلم: آلان جوبيه يتذكر وجه صديقتي ويمتدحه بأناقة، في حين أن شيراك الهارب من امرأته يلتجئ إلى بيتي المتواضع، ليشرب كأساً تحت الدرج. شيراك أيضاً أبوي وحنون غير أنه يمتاز أيضاً بقدرته على محو هيبته ومد الألفة بيننا. يضع يده على كتفي ونمشي سوياً في غسق رمادي.

لاحظت صديقة أنني أكثر من الحديث عن أبي مؤخراً. ربما كان الشوق. وربما، الخوف من أن يشيخ وأنا بعيد. كما هو الخوف من أن يشيخ بلال وطوني ووليد وأنا بعيد وأن ينضم فضل وهادي والآخرون إلى قافلة الأباء النظاميين، في حين أظل أحيا في زمن الفتوة، فقط لأنني بعيد. هكذا أكتب زجلاً مصرياً لفضل في كل مرة حين يتذكرني وهو "يكزدر" على الكورنيش الذي قضينا عليه سهرات متطاولة مصحوبين بصوت الشيخين. فقط لأقول له خوفي من أن يكبر. كل هذا يدفعني لأقرر العودة إلى لبنان قريباً. إن لم أستمع بالطبع إلى صوت العقل، وصوت حياة، وصوت الدمار الذي يكاد ينهي البلد من جذوره!

نيف وعشرون يوماً على 12 تموز (ب)
مناقشات... تعب... قلق... مترو... الدموع مفاجآت على مسار التفاصيل اليومية أو متابعة أخبار الرياضة. الدمع يسفح فجأة، ولا صوت يغني.
اشتقت للعود، لكن الموسيقى العربية لا تعرف مثل حالتي، حالة الإنهاك الأقصى والحزن المتراكم. كلما أمسكت به لأعزف، ألاحظ أن كل هياكله مشيدة على اسم ديونيزيوس، حتى وإن كانت ترجمته العربية الله أو الليل.

الفلاسفة الكذبة مثل غلوكسمان وهنري ليفي ينشرون بذاءاتهم المتذاكية في الصحف الفرنسية، إن كان هؤلاء نجوم الفلسفة السياسية في فرنسا اليوم فلا غرو أن النقاش السياسي فارغ وأن كل التحركات الشعبية الكبرى، من الضواحي إلى الشباب إلى اليسار المنتصر في الانتخابات، عاجزة عن أي تثمير في السياسة! الأسوأ أن افتتاحيات الصحف الفرنسية لا تنتقد "الرد الاسرائيلي غير المتوازن" إلا حرصاً على مصلحة اسرائيل وصورتها! إنها نصيحة الصديق الخلص! لا رفض من حيث المبدأ أو لمصلحة لبنان، بل فقط محاولة لاقناع اسرائيل بأن ما تفعله ليس لمصلحتها. أما الطريف في الأمر فهو أن السيد نصر الله يتبنى في الواقع المنطق عينه الناصح لاسرائيل!
يا للعار! أصبحنا نحمد الله على أن قتلى اسرائيل الإثني عشر من الجنود، لا من المدنيين، لا لشيء بل فقط حرصاً على ألا تمحو مثل هذه المجزرة صورة قانا! يا لبؤس أمة تقيس "إنجازاتها" بدفق سيل المجازر وتحرص على ذلك!

سهرة: رجاء العائدة من لبنان على متن السفينة الفرنسية والتي وجدت في استقبالها في المطار أطباء نفسيين، عثرت أخيراً على هدف لحياتها: جواز سفر فرنسي!
يبدو أن الوضع مخز في تعاطي القنصليات اللبنانية في الخارج، وأن الوضع في داخل لبنان أسوأ مما نحسب، وأن تذمر الشيعة من حزب الله أكبر أيضاً مما نظن. ويبدو أيضاً أن التضامن اللبناني مفروض على الإعلام بقرار واعٍ ورقابة ذاتية صارمة. هل هذا ما نريده من لبنان؟على الدولة أن تبادر فوراً إلى رعاية النازحين بنفسها، إلى جانب عمل الأحزاب والمجتمع المدني، وأن تقوم لاحقاً بنفسها، جهد الإمكان بالطبع، بمد شبكات التعويض وإعادة الإعمار والرعاية الإجتماعية للمتضررين، لا أن تلزّم ذلك لرؤوساء الطوائف كالعادة، وإلا فإن لبنان سيخسر آخر فرصة ربما لأن يصير نواة دولة، لها جمهور يقدمها على زبائنية الطائفة.

مشروع سفر حول العالم: رغبة هائلة في السفر. في الوقت نفسه شعور بأن التكنولوجيا المعاصرة تمنع مرتين مغزى السفر. المرة الأولى حين لا ينظر أحد إلى مرور جثمان البابا يوحنا بولس الثاني أمام ناظريه لأن ناظريه منشغلان بشاشة الكاميرا أو الهاتف الرقميين، والمرة الثانية لأن هذه التكنولوجيا تمنع المرء من توديع أهله وصحبه والمضي وحيداً صوب الإكتشاف، لأنهم سيصاحبونه في كل خطوة وفي كل دقيقة إن شاؤوا.

في أفلام تاتي دائماً حنين منكسر يغدر بنا دون سابق انذار، في وسط الضحك. ربما كان ذلك تعريف لبنان، لو أنه الآن في وسط النيران. لكننا محكومون بالبقاء، وطناً صعباً (جداً)، أما الأمل فعلى الله...

نيف و...

Aucun commentaire: