jeudi 3 janvier 2008

لا مفر من الغواية والقتل




ملحق النهار الثقافي، تشرين الثاني 2007

بين وودي آلن وسيدني لوميت: لا مفر من الغواية والقتل


في موعده الدقيق، يطل وودي آلن مع كل خريف باريسي بفيلم جديد. ولئن كان يشعر بنقص في الحماسة مؤخراً إلا انه يستمر في إنتاج الأفلام لأن ذاك ما يعرف صنعه. بهذا يغدو آلن، الكئيب من وفاة برغمان، حِرَفياً مثلما كان هذا الأخير أيضاً يصف نفسه.

يملك أصحاب القامات من المخرجين بلا شك ما يقولونه لنا، أو ما يمررونه عبر مشاهد أفلامهم، لكنهم لا يقدمون أنفسهم رؤيويين ولا ملهمين. وهذا أيضاً من فضائل الفن بالمقارنة مع السياسة أو تخيل صنعها بوسائل شعرية ولغوية. لكن السينمائيين الكبار يظلون بطبيعة الحال في قلب السياسة لأنهم لا يتأملون في ذات الإنسان، بل في علاقاته السياسية الأساسية، أي علاقته بآخر ما. وهذا ما يؤكده وودي آلن في فيلمه الأخير "حلم كساندرا" الذي يختتم ثلاثية لندنية يتحول بها (وبفيلمه الاسباني في العام المقبل) المخرج النيويوركي إلى مخرج أوروبي على ما يردد، حين يراود مشكلة دوستويفسكية عن القتل والندم وروابط الدم، كان سبقه بأسابيع قليلة إلى تناولها المخرج الكبير الآخر سيدني لوميت في فيلم حمل في فرنسا عنوان "سبع ساعات وثمانية وخمسين دقيقة، هذا السبت" (العنوان الأميركي كان "قبل أن يعرف الشيطان أنك مت").

نحتاج الأخرين غير مغوين

كساندرا في الأساطير الاغريقية هي نبية طروادة التي لا يصدقها أحد، أي أنها الشاهدة الدائمة على كوارث لا راد لها، لكنها معروفة المآل سلفاً، إلى أن تنتهي كساندرا قتيلة مع ولديها، بعد دمار المدينة ومقتل أغاممنون الذي سباها ثم احبها. "حلم كساندرا" هو اسم المركب الذي يشتريه أخوان بريطانيان، ايان وتيري، لا يملكا قدرة مالية فعلية لتحقيق مثل هذا الحلم. إنها الخطوة الأولى، والخط الأول الذي يرسم به آلن صورتيهما. الحلم والرغبة بما لا ينال. تلي ذلك خطوط أخرى تعمق هذه الصورة، غرام ايان بممثلة ملتهبة جسداً وطموحاً وكذبه عليها كي يمالئ طموحها، وعجز تيري عن كبح جماح حلمه بأموال القمار وصولاً إلى ديون هائلة عليه. إنه دوماً ذلك الحلم وتلك الرغبة بما لا ينال، اللحظة التي نصم فيها آذاننا عن نتائج معروفة وعن نبؤات صارخة. في هذه اللحظة، يبزغ الخال المهاجر إلى أميركا، الثري الكريم مع عائلته، الذي يأتي ليطالب بما يراه حقاً، رغم استعداده لدفع أثمان جديدة، أي التضامن الأسري معه: إزاحة شاهد قد يودي به إلى السجن. ما يلي ذلك، القتل والندم والخاتمة الدموية العامة قد تعني أن الجريمة لا تحقق مراداً، لكن بالإمكان أيضاً قراءتها بأن من يفلت، آخر الأمر، من تبعات الجريمة إنما هو المخطط لها. الكبار الذين يأكلون الحصرم...






هنالك، في ثلاثية وودي آلن اللندنية، خيط ناظم ثابت: القتل. في سكوب، تناول الموضوع بخفة كوميدية، بعدما كان في "نقطة المباراة" قد انتقل من الكوميديا العاطفية إلى الدراما السوداء، التي عاد إليها هذا العام. في الثلاثية أيضاً هنالك حضور إما لتفاوت طبقي، أو لحلم بالوصول إلى مرتبة الطبقة العليا، والخوف أيضاً من للسقوط عنها، بأي ثمن. والثمن طبعاً هو حياة إنسانية. وها إن آلن يرينا أن الحلم له قوة الخوف وثمنه أيضاً. لذا يردد تيري أنه كان في حلم حين خسر تلك المبالغ كلها، أما الحب فهو كما يعرف البشر حلم أقصى.

لكن استراتيجية وودي آلن هذه المرة، حيال مشاهده، مختلفة تماماً. ففي حين كان للضحية وزن كبير في "نقطة المباراة" (حين جسدتها سكارلت جوهانسون)، أو للباحث عن الحقيقة خلف الجريمة (سكارلت أيضاً مع آلن شخصياً في "سكوب") فإن العدسة هذه المرة مصوبة حصراً تقريباً على القاتلين. رغم تفاوت أداء بطلي الفيلم (ايان ماك كروغر وكولين فاريل) بين مشهد وآخر، في مقابل حضور نسائي قصير ولكن لائق بالمدرسة البريطانية العريقة، فإن عدسة آلن شبه الجامدة، رغم اقترابها النادر من وجه فاريل، تضعنا في جلد الشخصيتين بقوة الحكاية التراجيدية وحدها تقريباً (في إطار قدر يقترب بخطى محبوكة لا ترد، أياً كانت "إرادة" المرء، فإن الإحالة المسرحية الاغريقية تصير بارزة و"قدرية" بدورها). لا ننفك نسأل أنفسنا في الفيلم عن متانة أخلاقنا في ما لو كنا في ظروفهما: تحت وطأة دين ضخم لمرابين قساة، أو في خضم حلم بحب امرأة شديدة الطموح تعلم جيداً أن جسدها هو رأسمالها... نهاية الخطأ واضحة، لكن أحداً لا يستطيع أن يضمن لنا بأننا لن نخطئ حين يكون الحلم هو الخطأ.

في "جنون ندم" تيري لاحقاً شيء من دوستيفسكي بالتأكيد، لكن في مضاعفة الموضوع بربطه بواجب انقاذ عائلي، بالوفاء بدين متراكم للخال العزيز، ما قد يبدو مشوشاً لرسالة الفيلم. يقول آلن في حوار حديث معه إن لا معنى للعالم، في مواجهة الموت، إلا أن غياب المعنى لا يعني بالضرورة نهاية الأخلاق، بل على العكس: حيث لا معنى، نحن في حاجة أكثر إلى الآخرين.

لكن الآخرين في الفيلم هم من يدفعوننا، بشتى الاغراءات، إلى الحلم وإلى الجريمة، وأقربهم، أي الخال، لا يتورع عن التحريض على قتل نسيبه. ربما كان الآخرون المقصودون إذاً في قول آلن هم من لا قدرة لهم على الغواية: الأغيار فعلاً وقولاً. أي، في الفيلم، القتيل الذي يوزع لطفاً ساخراً، ونصائح حول البوكر، وزيارات لأمه العجوز، وعلاقة فاترة ربما كانت ببائعة هوى أو "صديقة". ربما كان هؤلاء فعلاً من نحتاجهم كي لا يختل ميزان الكون، وتقع وطأة السماء على ضميرنا.

العودة إلى قسوة المدينة

ينطلق وودي آلن بالطبع من اعلان نيتشه عن "موت الاله"، ولست أدري إن كان هذا أيضاً موقف سيدني لوميت. إلا أن لوميت، بالتأكيد، أكثر توراتية بكثير من آلن. ففي فيلمه الأخير، تنزاح بؤرة الاهتمام تدريجياً من الشقيقين القاتلين، أيضاً، إلى الأب (وهي صورة شبه غائبة عن فيلم، بل عن افلام، وودي آلن). فالأب (ألبرت فيني)، الذي قتلت زوجته، في عملية سرقة متجرهما على يدي الابناء (ايثان هوك والبديع الأداء فيليب سايمور هوفمان)، ينتصب في فيلم لوميت قوة هائلة، إنه المنتقم الغيور الجبار، اله الصواعق والغضب. إنه قبضة العدالة ومطرقتها، وهو آخر الأمر من ينهي، بيده، سلالته.





انزياح بؤرة الفيلم نحو صورة الفيلم يوضح مجموعة اختلافات بين عمل لوميت وعمل آلن: تصوير معمق للعلاقات الأبوية والأسرية مع "تمييع" قضية الحاجة المالية الماسة لدى الأبناء، في مقابل سرعة وسطحية المسألة العائلية لدى آلن مع ترسيخ مسألة المال والحلم. أيضاً، تحتل حياة لندنية، بين الضواحي العمالية والمسارح والمطاعم الفخمة، الموقع الرئيسي لدى آلن، في حين يصور لوميت أباً كان قد فر من المدينة إلى ضاحية أميركية هادئة راقية. في معنى ما، يرسم لوميت في الفيلم، مسار ادراك الأب أن لا فرار من قسوة المدينة وشخصياتها المشبوهة، ومن ثم عودته إلى شوارعها منتقماً قاتلاً شاهداً على فوران الدم المتواصل فيها.

في هذا المعنى، ليست لندن عبثاً بالنسبة إلى آلن، وليست محض قرار فرضته ظروف الانتاج، رغم أهمية هذا العامل. لندن عادت مجدداً مركز الحياة المالية في العالم، قلب البورصة والترف، مع استمرار الطبقة الاريستوقراطية والبورجوازية الكبيرة في تمايزها المعيشي فيها. إنها مجدداً بابل الجشعة التي تولّد أحلام العظمة والبذخ، مثلما تولد الاقصاء والحصر. غير أن لوميت يدلنا أيضاً أن لا مفر، حتى بالانسحاب إلى الضواحي الهادئة، من قوة جاذبية المدينة ولمعان صورها. إنه نمط حياة بالغ القسوة أيضاً، حتى تجاه مدن عريقة مثل باريس، وربما بدرجة أقل نيويورك نفسها، حيث يبدو أن النظام وهناءة الحياة باتا أولى من عظمة الأحلام الفردية وشدة الطموح، وهو ما يزيحهما باطراد من الواجهة. إلا أن المدن، عينها، هي وحدها من يعدنا بملاقاة الأغيار الآخرين، الذين نحتاجهم للعيش والعمل ومشاهدة الأفلام واختبار خشب قسوتنا وطاقة الاشتراك في الألم.

Aucun commentaire: