samedi 5 janvier 2008

بناء الثقة بعد الحرب

ملحق النهار آب 2006

من أجل بناء الثقة بين اللبنانيين و بدولتهم




من الواضح أنه ما أن ينجلي غبار المعارك، والركام الذي خلفته، حتى تبرز الحاجة إلى إعادة بناء مسار سياسي داخلي لبناني، يفترض إجراءات لإعادة ترميم الثقة بين الأطراف اللبنانيين، وصناعة فضاء عام يشترك فيه اللبنانيون جميعاً بهدف إنشاء دولتهم الجامعة والوحيدة القادرة على تثمير جهودهم سياسياً على المستوى الدولي. غير أن تحديد هذه الإجراءات والقواعد الأساسية التي ينبغي مراعاتها من أجل التوصل إلى هذه الأهداف، يتطلب مسبقاً استيعاب المعطيات الإقليمية الناتجة عن الحرب والتي تظهر إيران رابحاً أوحد فيها، والتحديد الدقيق لقدرة اللبنانيين الداخلية على التأثير في سياق سياساتهم وتحييد بلدهم عن أنواء العواصف الإقليمية المقبلة.

إيران رابحاً أوحد

يمكن الخروج من نتائج الحرب على لبنان، وطريقة إنهائها التي تميزت بخاصة بكثرة الاتصالات بوزير الخارجية الإيراني، باستنتاج أن إيران خرجت منتصرة من هذه الحرب التي دخلتها بالواسطة، مما يبشر باستمرار التوتر بينها وبين الأميركيين على صعيد ملفها النووي، الذي يشكل خطاً أحمر بالنسبة للطرفين، المستعدان تمام الاستعداد للتعاون (الوثيق) في كل الشؤون الأخرى، وبخاصة في شأن اقتسام "الشرق الأوسط الجديد أو الموسع". وقد كتب أحد مأذوني حزب الله مؤخراً أن صمود حزب الله الميداني أجبر حسني مبارك على استقبال وزير خارجية إيران (كذا!!) وهذا كافٍ لتبيان أن الأطماع التي تحدو طهران، والتي تستغل هذه الأخيرة حزب الله اللبناني من أجلها، ليست مقتصرة على لبنان، ولا على القنبلة النووية.

يمكن أيضاً الاستنتاج بأن النظام السوري بات الخاسر الأكبر من هذه المعركة، حيث تم تهميشه طيلة الحرب، وألغى وزير الخارجية الألمانية مرتين زيارته لدمشق بسبب طيش رئيسها وسياستها الخارجية، حارماً بذلك النظام من ادعاء عودته إلى الساحة الدولية وانتهاء عزلته. وما إعلان بشار الأسد الحرب على من يسميهم بـ "17 أيار" وعلى كل الأنظمة العربية إلا دليل على تفاقم عزلته الخانقة وعلى شعور متزايد بالاستهداف والتهديد، على الرغم من كل التطمينات الإسرائيلية التي تنهال عليه. بالطبع لا تزال دمشق قادرة على الإيذاء والاغتيال في لبنان لكن الرد على ذلك قد يكون نهاية بشعة للنظام فيها، إذا ما اقتنعت اسرائيل بأنه يقود نحو فوضى عامة في المنطقة. لقد فشل هذا النظام في استغلال الحرب على لبنان من أجل الخروج من عزلته، وفشل في فك الحصار الأميركي الفرنسي المضروب دبلوماسياً عليه، كما ستبدي الأيام أن محاولته لتغييب موضوع المحكمة الدولية لم تحقق أي نجاح دولي يذكر. وإلى ذلك كله فإن علاقات هذا النظام بشبكة الأمان العربية الرئيسية (أي مصر والسعودية) مهتزة جداً حيث تم إحلال الأردن مكانه في الثلاثي العربي الرئيسي. لذا لم يعد بإمكان النظام إلا المزايدة اللفظية على العرب وعلى اللبنانيين، داعياً إلى المقاومة "بالفكر" (حصراً، خوفاُ من أن يساء فهمه)، وكأنما قد ترك للمفكرين في سوريا مساحة خارج السجون!

أخيراً يمكن أن نلاحظ أن إسرائيل أيضاً خرجت مهزومة من المعركة (دون أن يعني ذلك بالضرورة انتصاراً لحزب الله، على ما سنرى)، إذ لم يحقق جيشها أي هدف يسمح له بإعادة تلميع صورته وترميم قدرته على الردع، بل تفاقم الخوف الإسرائيلي حتى صار خوفاً في الأوساط الشعبية على وجود الكيان نفسه، إضافة إلى أن إسرائيل فشلت في تحقيق الأهداف الأميركية من الحرب ومن هزيمة إيران على الأرض اللبنانية مما سينعكس سلباً على الاعتماد الأميركي عليها كذراع يمنى عسكرية وباطشة في المنطقة.

فحوى ذلك أن المحور السوري الإيراني الذي يكثر بعض الساسة اللبنانيون من ذكره، وتعليقه شماعة لعجزهم، هو على طريق الانفراط لأنه لا يؤمن الحد الأدنى من التقاسم في المغانم، حيث تخرج إيران رابحاً وحيداً من هذه الحرب، في حين تخرج سوريا خاسراً أكبر.

إضافة إلى ذلك، وعلى صعيد الانعكاسات على الساحة اللبنانية يمكن إيجاز الوضع بالقول إن إسرائيل خرجت سياسياً من لبنان قبل خروجها العسكري بزمن بعيد، وهي لم تستطع في حربها الأخيرة العودة على أي من المستويين، واستقلال لبنان عنها إذاً ناجز وتام، أما سوريا فقد خرجت عسكرياً دون أن تخرج سياسياً، في حين أن حدود التأثير الإيراني لن تصل يوماً إلى المستوى الذي بلغته الهيمنة السورية السابقة على لبنان. والسؤال الآن: هل يمكن الطلب من حزب الله أن يساهم في إخراج سوريا سياسياً من لبنان، كما كان على القوّات اللبنانية في السابق أن تقطع تدخل إسرائيل في هذا البلد، وإن لم تكن هي من أخرجها عسكرياً؟ علماً أن استقلال البلد وسيادته مرهون بالاستقلال عن العدو الهمجي كما عن الشقيق الطماع.

حدود القدرة الداخلية على التأثير

لا بد من الملاحظة في البداية أن قدرة لبنان على التأثير في المسارات الإقليمية شبه معدومة، وأن أقصى طموح الدولة اللبنانية كان دائماً أن تنأى بنفسها عن تأثيرات أحداث المنطقة وتداعياتها، وقد أظهرت التجارب مدى صعوبة ذلك إن لم يكن استحالته. لذا فإن ما ينبغي العمل عليه هو السعي من أجل الحد من تأثير هذه الأحداث على الساحة اللبنانية، والتدرّب على استيعاب تطوراتها ضمن أطر الدولة الجامعة.

ضمن هذه الأطر يتبدى أن المطروح على حزب الله هو، وبشكل ملح، القبول بالمساهمة في بناء الدولة اللبنانية وتحصين استقلالها من خلال الانفصال بدايةً عن مسار السياسة السورية. والحق أن حزب الله أرسل عدة إشارات، أثناء الحرب، على توجهه إلى تقديم أولويّات الدولة اللبنانية والشراكة في الحكومة على الرغبات السورية. وينبغي أن يتم البناء على هذا التوجه من قبل الحزب، وليس السعي إلى محاصرته، الأمر الذي يمكن أن ينعكس سلباً وعودةً للحزب إلى شدق النظام السوري.

وهنا ينبغي الملاحظة أن مكونات حزب الله الرئيسية (عناصر وموارد وعقيدة) هي مكونات لبنانية وإيرانية وليست أبداً مكونات سورية، وإذا كان الحزب قد اتخذ قراراً استراتيجياً بالمشاركة في الدولة اللبنانية فإن فصله عن سوريا ممكن، بدون أن يعني ذلك فصله عن إيران، في المرحلة الراهنة. والفرصة سانحة لذلك، بصورة خاصة الآن، لأن من الصعب القبول لبنانياً ودولياً باستعادة سوريا لدور الممر الإلزامي لتسليح الحزب، مما سيضعف التأثير السوري على حزب الله اللبناني.

القواعد الأساسية لإدارة الوضع اللبناني

من أجل تحصين الوضع الداخلي، على اللبنانيين الاتفاق على الأهداف الرئيسية العامة، بحيث تصبح هذه الأخيرة الحكم الذي يرجع إليه لتحديد الخطوات المرحلية، إذ لا يمكن السماح مرحلياً بما من شأنه إبعادنا عنها. وأهم هذه الأهداف بالطبع، استمرار لبنان وطناً نهائياً لجميع أبنائه منفتحاً على العالم والحداثة، وبناء الدولة الجامعة وتحصين استقلالها، ورفض المشروع السوري القائل باتخاذ لبنان ورقة تفاوضية ورهينة للنظام في دمشق، ورفض المشروع الأميركي للمنطقة القائل بتعزيز الحساسيات الداخلية في كل من بلدانها، والتعامل معهما بتروٍ بحيث لا يقود أي من الرفضين إلى حرب جديدة، أهلية كانت أو إسرائيلية، ومحاولة تحييد لبنان، عسكرياً خصوصاً، عن الصراع الأميركي الإيراني، من خلال لجم التحالفات الداخلية مع أي من هذين الطرفين.

ينبغي أيضاً التنبه إلى عدم إقفال الملف الفلسطيني في لبنان، وهو المنصوص عليه أيضاً في القرارات الدولية، وإن تكن المطالبة بذلك خافتة، ورسم سياسة واضحة في التعاطي معه، تقوم أساساً على احترام الحقوق الإنسانية وحقوق العمل والإقامة الكريمة للاجئين الفلسطينيين، والدفاع سياسياً عنهم في كل مناسبة وعلى كل المنابر الدولية.

تضاف إلى ذلك قواعد بديهية تقول أن نزع سلاح حزب الله بالقوة أمر مستحيل لأنه يقود إلى حرب أهلية، أما بقاؤه فمرفوض أيضاً لأنه يقود إلى تقسيم لبنان على عدد الطوائف المستعدة لاسترجاع تسلحها وأمنها الذاتي، على ما تلوح أماراته في الأفق، وهو ما ينبغي على حزب الله أن يدرك جيداً محاذيره. غير أن من طلب الشيء قبل أوانه، عوقب بحرمانه، فلا يمكن استعجال الحوار إلى نزع سلاح حزب الله، قبل إنضاج شروطه، وأول هذه الشروط أن يعود هذا السلاح مسألة داخلية، بعد أن ساهم الحزب في نسف طاولة الحوار الوطني وفي تدويل قضية سلاحه، وهو الأمر الذي عززه مسار الأحداث لاحقاً وصولاً إلى القرار الدولي رقم 1701. الأمر أيضاً يتطلب قدراً من الخفر والحياء، ومن احترام تضحيات الشهداء والمقاومين وعذاباتهم، واحترام آلام النازحين وخسائرهم، ومن إجراءات بناء الثقة بين اللبنانيين على أسس التضامن الذي تجلى بارزاً في هذه الحرب، على الرغم من بعض الحساسيات أو الاحتكاكات المحدودة.

أخيراً ينبغي تقديم الحسابات على المحاسبة، وهما متغايران. فالمحاسبة تمهيد دائماً لإنزال عقاب بالآخر، أما الحسابات، التي لا تنفصل عنها سياسة التوازنات الدقيقة، فتقيس المتغيرات والأوزان لتحديد الخطوة الأنسب التي على المرء أن يتخذها. ولا شك أنه لا يجوز لأحد، سوى الدولة وقانونها، إنزال عقاب بأحد. لذا على القوى اللبنانية المتنازعة جميعاً أن تتخذ خياراتها بمعزل عن الرغبة في محاسبة بعضها بعضاً أو معاقبة من تعتبره متخاذلاً أو متقاعساً أو مغامراً، فذلك أولاً خارج سلطتها شرعاً وخارج سلطتها واقعاً، ونتائجه بالغة الخطورة على استقرار لبنان وعلى وجود دولته.

بناء الثقة بين اللبنانيين

في حسابات النصر والهزيمة، تعتمد أطراف 14 آذار تكتيكين: مشاركة حزب الله نصره، بدعوى التضامن الشعبي مع جمهوره والالتفاف حوله وجهود الحكومة، أو التهوين من هذا النصر بدعوى الخسائر الكبيرة في الأرواح والأضرار الفادحة وعودة الاحتلال الإسرائيلي (الجزئي والمؤقت).

كلا التكتيكان يتفاديان إعلان هزيمة حزب الله، في حين أن إعلان هزيمة لبنان كله ينبغي أن يكون الخطوة الأولى لتجاوزها. لبنان خسر حتماً منذ اللحظة الأولى للحرب لأن دولته عاجزة وأرضه أسيرة بين جيش العدو وبين أنفاق المقاومين. وحزب الله خسر أيضاً، رغم إلحاقه الخسارة بإسرائيل، فكثيراً ما خرج من الحرب مهزومان. وخسارة حزب الله متوقعة منذ البدء، وهي ليست على أي حال هزيمة عسكرية بل سياسية، لأن السياسة وحدها هي التي تحسم الربح من الخسارة. وهزيمة الحزب متوقعة كانت لأن الحزب ككيان ليس بدولة ولا يمكنه تالياً تثمير انتصاره، مهما كان، على المستوى السياسي الدولي أو الإقليمي، وهو لا يستطيع حتى تثميره في داخل لبنان لأنه الوضع في لبنان يظل محكوماً بتوازنات الطوائف ودواخل الطوائف التي قد تسمح لحزب الله بالحصول على جزء من حصة الطائفة في دولة، لم يبد من قبل أنه مهتم بتقاسم منافعها وخراجاتها. وعلى المستوى السياسي خسر الحزب ذريعة ردعه لإسرائيل، بدليل تدميرها للبنان، وخسر لبنانية النقاش في شأن سلاحه الذي دولته الحرب وثمة حاجة إلى جهد هائل لاسترجاعه إلى المستوى اللبناني، وخسر مفاجآته تجاه إسرائيل بعد أن كشفت الحرب مدى تسليحه وعناصر مفاجآته، وخسر أخيراً مواقعه المتقدمة عسكرياً التي سيرابط فيها الجيش اللبناني والقوات الدولية، وقدرته على استهداف إسرائيل مجدداً، كما خسر التفافاً لبنانياً كبيراً حوله وسذاجة لبنانية في التعاطي مع الدولة التي يتكشف يوماً بعد يوم أنه بناها و سوّرها في "مناطقه".

يظل أن كل ذلك أسباب تدعو للتمسك أكثر بعدم محاصرة الحزب سياسياً، وعدم إحراج قيادته السياسية كي تظل مسيطرة على جناحه العسكري، الذي سيغدو متهماً في أي اضطراب أمني في لبنان، إلى جانب النظام السوري. وكل ذلك يجعل الأولى أن يجري العمل على برمجة اجراءات لبناء الثقة في لبنان بالتوازي مع بناء الدولة.

يستوجب ذلك اسكات أطفال 14 آذار و8 آذار القاصرين والطائشين، الذين يهرفون بما لا يعرفون، ويخلقون من التوتر أضعاف ما يبعثون من استهجان، وحصر الخطوات بقرارات قليلة، وواضحة يجري نقاشها فقط في داخل الحكومة اللبنانية والمجلس النيابي، وقيام الدولة تحديداً بالجهد الرئيسي في تقديم المساعدات وإعادة البناء بدل العودة إلى منطق المقاطعجية الذي يزيد من ابتعاد الشعب عن دولته، و تحديد جدول زمني واضح للخطوات العسكرية (الإنتشار في الجنوب، مبادلة الأسري وانتشار قوات الأمم المتحدة في مزارع شبعا التي اكتشف المعلم مؤخراً، دون استشارة حزب الله، أن له حصة فيها!) على أن يليه جدول آخر بالمهمات السياسية والدبلوماسية التي تقوم على شقين، جهود دبلوماسية من أجل إعادة قضية سلاح حزب الله إلى المستوى الداخلي، ونقاش لبناني داخلي على امكانية الاستفادة من التقنيات التي طورها الحزب من أجل تشكيل وحدات من الجيش على مثالها، تمهيداً لاستيعاب الجناح العسكري في حزب الله داخل إطارها، وتحديد المقابل الذي تتطلبه عودة حزب الله إلى لبنانيته وإلى الدولة، على ألا يؤسس ذلك لتقاسم طائفي أو هيمنة جديدة تمنع نشوء الدولة اللبنانية المنشودة.

بالمقابل، من المطلوب من حزب الله عدم منع الدولة اللبنانية من القيام بمهامها وواجباتها في البناء والإعمار والتعويض في "مناطقه" التي هي أرضها، والاقتناع بأن الدخول الذي لا مفر منه إلى الدولة اللبنانية، يعني أيضاً وفي شكل موازٍ دخول الدولة اللبنانية إلى جمهور الطائفة الشيعية الذي يحق له، كما لغيره، أن يكون على علاقة بالدولة مباشرة لا تمر بالطائفة وأجهزتها وزعاماتها. كما أن على حزب الله أن يؤكد موقفاً واضحاً من محاولات الإنقلاب المعلن على الدولة، وذلك من خلال تجديد الثقة بالحكومة، وتحديداً بالرئيس السنيورة الذي أبدى صرامة ونبلاً فائقين في أصعب الظروف السياسية التي كشفت طبيعته كرجل دولة حقيقي. وأخيراً على الحزب توضيح الابتعاد عن سوريا التي أعلن رئيسها الحرب على شركاء الحزب في الحكومة وفي الوطن، وهم شركاؤه شاء أم أبى.

وينبغي أخيراً أن تبدأ الدولة اللبنانية، ورجالها ومؤسساتها، بمخاطبة شعبها من اللبنانيين جميعاً، في وصفهم أشخاصاً غفلين، وكسبهم إلى صفها، وليس مخاطبة الزعيم أو القائد، والتخلي عن "الكولسة" لصالح صناعة الفضاء العام المشترك.

صناعة الفضاء العام

في الفضاء العام السياسي كل فعل مشروط بخطاب إلا أنه خطاب صادر عن معروف إلى غفلين، وإلا بطلت السياسة أن تكون تأسيساً لمساحة حرية (بما في ذلك حرية الانضمام إلى معسكر آخر) وتحولت إلى اتفاقات على تقسيم الكعكة وتقاسمها.

والحق أن حزب الله بمجيئه إلى قلب بيروت في 8 آذار وتحت العلم اللبناني مصحوباً بأطرافٍ عديدة من طوائف أخرى (وإن لم تكن أقوى زعاماتها) إنما كان ترك فضاءه العسكري إلى فضاء عام سياسي بناه الآخرون، إذ أن "الأنا" مستحيلة التركيب إلا في فضاء يبنيه الآخر. غير أن من كانوا على الضفة الأخرى أبَوا، بحكم العادة والتركيبة، أن يروا في خطابه أي شيءٍ إلا طلب حوارٍ واستعراضاً لأوراق القوة. أي أنهم رأوا فيه خطاب الزعيم إلى أنداده لا خطاباً إلى غفلين، ورأوا السياسة طاولة تفاوض لا تأسيساً لفضاء الحرية، وبذلك أسسوا من جديد لتقاسم كعكة الدولة على أسس طائفية. ويخشى أن ترتكب الأطراف نفسها الأخطاء عينها الآن مع إشارات الحزب، بعد اندلاع الحرب الأخيرة، التي تدل على تغليب مكوناته اللبنانية، وضرورات جمهوره اللبناني وأرضه على الرغبات الخارجية.

بالطبع ذلك لا يعفي حزب الله من المسؤولية، ولكن مسؤوليته تشمل أيضاً محاذير أخرى، أشد خطراً ربما لأنها تمسّ أسس الاجتماع السياسي. فحزب الله يستمر في خلط السياسي بالأخلاقي، وفي رصّ الصفوف رصّاً لا نتوء فيه.

ورص الصفوف وصقل النتوءات ربما كان جائزاً في المعارك البدائية، إلا أنه في الاجتماع يعني العودة بالمجتمع إلى مرحلة ما قبل القانون، ذلك أن القانون بطبيعته آلة إنتاج للنتوءات والفروق. فالقانون الذي يحاكم الناس فرادىً إنما يحاكمهم إنما بناء على معايير جماعية وعلى قواعد يصوغها لجماعات ينتجها هو وينتمون إليها، على أسس عمرية أو مهنية أو سواها.

وما خلط السياسي بالأخلاقي إلا تتمة لذلك التراجع لأنه يتخلف عن المضامين المحددة للمطالب الاجتماعية والقانونية التي تشكل قوام السياسة، و يَنكُص عن التحديدات الدقيقة لقيم الجمهورية كالمساواة والتضامن وضمان الحريات نحو مبادئ أخلاقية غائمة التعريف ومتغيرة القوام إلى حد أن لا طائل تحتها سوى التعمية على تبادل المنافع في السر، وهو ما لا يرتجي أمراً سواه من يبتغي المحافظة على مصالحه الوضيعة من خلال وضع الدولة ـ المزرعة ولو كلف ذلك انهيارها الوشيك جداً على رؤوس الجميع.

Aucun commentaire: