jeudi 3 janvier 2008

لبنان وآفاقه

ملحق النهار الثقافي، كانون الثاني 2007
آفاق لبنانية في صناعات الرأي والقيم والثروة


استشراف المستقبل لنقض حتميته




لم يكد مساء الثلاثاء يحل إلا وكانت الأخبار تزف إلى أصحاب الحماسة والروؤس الحامية أن دماً لبنانياً قد أريق بيدٍ لبنانية. يجدر بقلوب هؤلاء أن تهلع، لو كانت لهم قلوب، أمام هذه التضحية التي لا طائل من ورائها. كان جورج باتاي في كتابه "الشطر الملعون" يعتبر أن التضحية وسيلة للتطهر من فائض الطاقة والثروة كي لا ينفجر المجتمع. لكن على حساب أي فائض قد نضع هذه الدماء المهدورة؟
لا فائض لدينا اليوم سوى فائض الكراهية والتعصب والاعتداد بالذات، وهيهات تبرّد الدماء، المهدورة سدى، رؤوس "مقدمينا" الجهولين، فقد سبقتها سيول من دماء من قضوا حرباً واغتيالاً، دون جدوى.
لا فائض لدينا، بل انكماش اقتصادي حاد. بالمقابل، للتذكير، يتضاعف الاستثمار في إسرائيل من 9,9 مليار دولار في العام 2005، إلى 21 مليار دولار في 2006، بسبب عبقرية أصحاب نظرية تخويف إسرائيل وتهجير سكانها واستدرار العطف عليها من كل حدب وصوب، بدل حصر العمليات بالأهداف العسكرية والامتناع عن ارتكاب جرائم حرب!
لا فائض لدينا، حتى لنظن أننا نتساوى مع جياع الصومال، في الاقتتال على فتات الفتات، لكننا نؤمن أن لدينا دوراً في المنطقة والعالم، وأن لدينا فائضاً من الأمل المتبقي في المستقبل. ولا أحد يستطيع، بالإفراط في القوة، تغيير مسار هذا المستقبل والدور، وحده وعي مساراته قد يسمح بالتأثير فيه. لا يستطيع حزب الله، الذي يلوح وراء عداوته لأميركا الهلع من فكرة لبنان ـ الكباريه، أن يمنع هذا المستقبل، الكاريكاتوري والذكوري والموهوم على أي حال، بالثلث المعطل ولا بالإضراب الإكراهي، الممنوع قانوناً، بل فقط بأن نفهم عوامل هذا المستقبل (في توجهه العام، وفي صناعة القيم والرأي والثروة فيه) لنحاول صوغه أكثر عناية بخصوصيات الأفراد وحياتهم.

الاتكاء على موج اللحظة

في حين ينصرف ساسة العالم إلى إعمار البلاد، ينصرف اللبنانيون منهم إلى "البهورة"، وليس من جيب أحدهم المبلغ الموعود. فحين يعد سماحته بأربع مليارات دولار، فإنما هي من قوت الشعب الإيراني، المجوّع في بلد يعوم على بحيرة نفط سينضب استخراجه، بعد بضع سنوات لا أكثر، لانشغال ساسته بمغامراتهم الخارجية. الحكومة أيضاً موعودة بدعم مماثل، وقد يكون الوعد أصدق لا لشيء غير ملاءة الواعدين.
من أجل المساعدات، قدمت الحكومة ورقة حول إصلاحات رآها أغلب الخبراء غير كافية وإن غير ضرورية. المعارضة تجتاح الشارع مطالبة، دون أن تطرح بديلاً، بالمشاركة... في تطبيق السياسة التي يصنعها من تعارضهم!
لقد كان هنالك، لبرهة قصيرة، ما يشبه، زوراً، النقاش الاقتصادي في لبنان، على خلفية الورقة الإصلاحية. خرج البعض أحياناً بالنغمة المعتادة، حول نسيان دعم الزراعة والصناعة اللبنانيتين والاتكال الكامل على القطاع الثالث، أي على الخدمات. يستحق هذه الموضوع وقفة سريعة للإشارة إلى أن الإنتاج في مجالي الزراعة والصناعة كان في الأصل أيضاً "خدمات"، تتم المقايضة بها (إنتاج أنواع الأطعمة أو الثياب) أو القيام بها شخصياً (التنظيف، الطبخ)، وتم تحويلها إلى نسق إنتاج غير حرفي، أي إنتاج بالجملة، وكان هذا أساساً لحياتنا اليوم منذ إنتاج الخبز، بل والقمح، وحتى الآلات الكهربائية اليومية الاستعمال. يعني ذلك أن مسار الرأسمال والسوق هو دوماً تحويل ما كان في السابق "خدمات" إلى صناعة (من حيث كمية الإنتاج، وانتظامه، وتوحيد مواصفاته). ما يتم إغفاله حالياً هو أن قطاع "الخدمات" أيضاً يتم تحويله إلى صناعة، منذ صناعة الترفيه إلى "بيع الرحلات السياحية" إلى طريقة عمل المصارف... الخ.
طبعاً لا نسعى هنا إلى الدفاع عن مشروع أحد الأطراف، وهو لا يحتاج إلى دفاع ضد من لا يهاجمونه أساساً، بل إلى محاولة استشراف الدور اللبناني المحتمل، والحيوي على اي حال، في المجالات الرئيسية كما تبدو لنا، في المرحلة الحالية من التحول العالمي. أي صناعة الرأي، والقيم، والثروة، في إطار العالم العربي. وهذا يمر عملياً عبر الصحافة، والترفيه، وقطاع الاقتصاد الرقمي، أو اللامادي، أي "صناعتي" التأمين والمصارف.
قبل الالتفات إلى كل من هذه الموضوعات، لا بد من الإشارة إلى أن الدور اللبناني فيها سيكون مشروطاً بالطبع بعدم دخول البلاد في حرب أهلية، تتقاتل فيها الطوائف على فتات دورة اقتصادية تظل هي، ولبنان، خارجها. وهو ما لم يعد يبدو مستبعداً في ظل ما رأيناه من حماسة شبابية للهجوم بالعصي على الجيش من أجل تجاوز عناصره إلى "الأعداء" اللبنانيين المطلوب منهم "الاستسلام التام ".
لكن، حتى في هذه الحال، فإن التأخير الذي ستفرضه الحرب لن يتمكن من مقاومة مسار واضح عالمياً. فخلال الحرب الأهلية المديدة، لم تخرج قطاعات المصارف ولا الترفيه ولا الإعلام أضعف من السابق، وهي استعادت بسرعة دورها العربي. بل من المستبعد، حتى وإن حاول أحد أطراف النزاع اللبناني تحقيق نصر سريع على الآخرين، أن يعرض عليهم خطة مختلفة، تتجاوز سد جزء يسير من الحاجات الغذائية. فهل سيقترح على مناضليه زراعة وسط بيروت أم أن رفضه لتجارة المال (الربا، في حين أن التحقيقات الغربية والأفريقية والأميركية الجنوبية تشير إلى تورطه في التهريب وتبييض الأموال والمخدرات!) سيمنع نزف اللبنانيين المهاجرين؟ أم أننا سننشئ مصانع ثقيلة للسلاح مزودين خبرات رجالنا الأشاوس؟
تستطيع بعض القوى أن تؤخر مجيء حدث ما، لكنها لا تلغيه. في المقابل فإن استعجال المسار، وتسريعه، على ما رأت حنة أرندت في النازية والشيوعية، لا يؤديان إلا إلى الكوارث، وهذا ما نراه أيضاً في العراق اليوم. بدل ذلك، ربما علينا الاستفادة من نظريات الصين في الاستراتيجيا، أي السير في ركاب خطوط القوة الصاعدة في وضع ما، وليس خوض معارك خاسرة ضدها. فبالاتكاء على بداية الحدث يحملنا السيل، ولا رادع يصمد في وجه السيل. في هذا المجال، فإن لبنان الذي يطفو على موج اللحظة منذ إنشائه، ويحيا على قلق وخوف دائمين، قد يكون أكثر المؤهلين للاستفادة من مد عالمي لم يعد يعيش سوى في قلق اللحظة وهاجس الزمن، في حين يترك شأن "الحياة" والصناعات الثقيلة لـ"الخدم" في البلدان النامية التي يترك إليها الغرب القيام بصناعات الصلب والحديد، مصدّراً إليها التصميمات، والتكنولوجيا التي خف حملها وغلا ثمنها، ومصدّراً إليها أيضاً نتائج المضاربات الكارثية.

لماذا ثالوث صناعة، الرأي والقيم والثروة؟ لأن صناعة الرأي قد تحسم بقاء الإنسانية بأكملها في المستقبل في وجه أخطار الحروب والانهيارات البيئية والتقييد المقبل على الحريات الشخصية، ولأن القيم ضرورة للمجتمع كي لا يفقد تماسكه ويتحول إلى إنتاج منتحرين وفارين بكميات صناعية، وأخيراً لأن صناعة الثروة ضرورية كي لا تقوم حروب أهلية خالدة خلود رسالات أهليها. فالحروب الأهلية غالبا ما تقوم حينما يحيا المجتمع على اقتسام الريوع وليس على إنتاج قيمة مضافة، وهذا ما يجري التقاتل عليه في الصومال ولبنان والعراق، وما قد تنجي التحولات في بنية الفكر والاقتصاد الخليجي بلدان الخليج منه إن لم يسبقها إلى النيل من هذه البلدان فيض الصدمة النفطية الجديدة (نظرية باتاي مجدداً)، فالثروة والوفرة السهلة كانت دائماً نقمة على المجتمعات، ووحدها انتصرت تلك المضطرة إلى تجاوز نفسها وطاقاتها الأولى.

الصحافة اللبنانية إلى أين؟

كانت الصحافة اللبنانية تبدو صامدة، وقادرة على المنافسة وتطوير المجال الإعلامي، دون تفريط بالقيم الحيوية لها، قيم الحرية والمصداقية. من هنا، فإن بعض الأقلام تشكل خطراً فعلياً على قدرة الصحافة على الاستمرار على قيد الحياة، ومواجهة الوسائل الأخرى، ذلك لأن هذا البعض، بالكذب المكشوف والتحريض العلني يضرب ما سنرى أنه يشكل العامل الرئيسي في استمرار حاجتنا إلى الصحافة، أي ثقتنا في مصداقيتها. (أمثلة؟ اتهام الحكومة، قبل إحدى المظاهرات المليونية، بالاستعداد للقضاء على حصة المسيحيين من المدراء العامين، أو اتهام فرنسا، قبل يوم "التعطيل الشامل" بتحضير قرار يغير تفويض قوات الأمم المتحدة ويتجاوز دور المجلس النيابي في إقرار اتفاقية المحكمة الدولية).

لم يستطع التلفزيون أن يقضي على الصحافة المكتوبة، ولا استطاعت ذلك شبكة الانترنت حتى الآن. كما أن هذه التقنيات الجديدة لم تقض على الكتاب المطبوع بدوره. لكن ما كان العامل في هذه القدرة على المقاومة، وما ثمنه، وإلى أين تذهب هذه الصحافة في تطورها؟
بدأت الصحافة في الأصل مشروعاً حضارياً، يسعى إلى نشر الحضارة والمعارف في أوساط شرائح ظلت تتوسع بفضل انتشار التعليم. وهذا الدور كان حاضراً في الصحافة العربية منذ تأسيس اللبنانيين لصحفهم في مصر أولاً، ثم في لبنان. ويفترض هذا الدور أيضاً استقبالاً للنخب النشيطة والساعية إلى التجديد، من حيثما أتت، وهذا أيضاً ما شهده لبنان في تاريخه، وكان عاملاً أساسياً في نهضته. كان "الخبر" يحتل مساحة هامشية بالمقارنة مع مساحة "مشروع التنوير".
لهثت الصحافة وراء الخبر، الذي يردده التلفزيون دونما عناء، في تنافسها مع وسائل الاتصال الأخرى، حتى باتت صفحاتها خليطاً مستغرباً من السياسة والعلم وأخبار الرياضة والزفاف والكلمات المتقاطعة، سعياً إلى إغراء كل القراء المحتملين. وافترضت أن وضع المعلومة في أيدي الأفراد كفيل السماح لهم بالقيام بخياراتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية بحرّية. في هذا اللهاث، تخسر الصحافة باستمرار، لكونها لا تستطيع منع الوسائل الأخرى من ترداد المعلومات، ولا تستطيع مجاراتها في السرعة والمتابعة المتواصلة لما يجري. رغم ذلك، لم تمت الصحافة، وظلت إلى حد ما مرهوبة الجانب من الساسة، وضرورية للرأي العام، لأنها خلافاً للوسائل المرئية المسموعة تملك القدرة على الإصرار وعلى الديمومة. الإصرار على فتح الملفات وإثارة القضايا من زوايا مختلفة، وهذا ما لا طاقة للتلفزيون به، وعلى الديمومة في وصفها أيضاً وثيقة وحاملة للوثائق والاتفاقات والتصريحات التي لا تراجع عنها ما دامت قد حُفِظَت، سوداء على بياض الصفحة.
تختلف الصحافة عن وسائل الإعلام الأخرى بقدرتها على تنظيم المعلومات، تبويباً وترتيباً وهيكلة، وفي صدقيتها أمام الناس، خلافاً للتلفزيون وللانترنت إلى الآن، حيث يقوم فيها صحافيون محترفون على التثبت مما يكتب، وصحته ودقته، ويتعرضون للمساءلة لدى نشر الأكاذيب المضللة، أو هذا ما يفترض أن يكون الحال عليه.
أخيراً، تتميز الصحافة عن التلفزيون خصوصاً بقدرتها على إفراد مساحة منتظمة لرأي فردي لهذا الصحافي أو ذاك المفكر. ومع تطور الوسائل الأخرى، بات القراء غالباً يستمعون إلى نشرة الأنباء في الراديو أو التلفزيون، وكثيراً ما يتم ذلك من خلال الانترنت الذي لم ينتج بعد مؤسسات موثوقاً بها، لكنهم يظلون يشترون الجريدة أو يذهبون إلى موقعها الالكتروني ليقرأوا رأي فلان أو فلان في حدث ما.
في هذا الإطار، يبدو مؤسفاً بشدة تحول بعض الصحف اللبنانية منبراً للشائعات والتسريبات الاستخباراتية، أو بوقاً للدعاية لهذا الطرف أو لذاك. لا لأن الإقتناع بفكرة ما يمنع من المساهمة في تشكيل الرأي العام، بل لأن الصحافي، حين يمتنع عن المساءلة واستعراض الآراء والاحتمالات المختلفة، يكون يخاطب حشداً من التابعين، لهذا الفريق أو ذاك، أو يهدد زعيماً أو ينشر تهديده لآخر، وهو بذلك لا يخاطب أفراداً غفلين، لا تسبقهم انتماءات "بيولوجية" أو قَبْلية تدفعهم إلى إغفال المصالح في سبيل انتماء جمعي "مقدس" أو موروث، علماً بأن الرأي العام لا ينتج إلا من خلال تأطير الأفراد في جماعات يتفقون فيها ويضغطون من أجل مصالحهم المباشرة.
رغم ذلك، لا يبدو أن مثل هذه التجارب قادرة على العيش طويلاً، وهي ستنتهي بسرعة مثلما آلت إليه كل أبواق الدعاية الحزبية التي عرف لبنان عدداً منها في السابق.
في المقابل، ستضطر الصحافة اللبنانية الجدية أولاً إلى البحث عن أصداء أوسع لها في العالم العربي. وسيسمح انتشار الانترنت بذلك، بدون تكلفة تقريباً. وستضطر في طبيعة الحال إلى تعميق صلاتها بالانترنت، بحيث لا تقتصر صفحاتها على عرض موضوعاتها المنشورة كما هي، بل ستضيف إليها صلات، وملفات مرئية - مسموعة. وستضطر أكثر فأكثر الى الاعتماد على الشبكة العنكبوتية عينها كمصدر للمعلومات. حصل في فرنسا أخيراً نقاش مشابه حيث أن المعلومات المتعلقة بتسديد المرشحة للرئاسة سيغولين روايال وصديقها الضريبة على الثروة كانت متوافرة ومتداولة على الشبكة قبل بضعة أشهر من تشكليها قضية في الصحافة المكتوبة. المثال هنا مزدوج الأهمية، فالصحافة تلام على تأخرها عن ركب مصادر المعلومات الفعلية التي باتت تشكلها مواقع الانترنت، إلا أن الانترنت بمفردها عاجزة عن تشكيل "قضية" أو فضيحة، ما لم تصنعها الصحافة المكتوبة في الدرجة الأولى، والمرئية في درجة ثانية (بحسب طبيعة القضية، فيديو اعدام صدام حسين شكل فضيحة من خلال التلفزيون وليس الصحافة المكتوبة أولاً).
شيئاً فشيئاً أيضاً، ستضطر الصحافة إلى الاعتماد على القراء أنفسهم في "صياغة الخبر". بين الملفات التي سترفق بالمقال على الانترنت، سيكون هنالك المقابلات والصور التي سيلتقطها أفراد غير محترفين، مدججون كما هي الحال اليوم بآلات التصوير والاتصال، التي سيختزلها نوع متطور من الهاتف الجوال. في صورة مشهورة، كان الحاضرون الذين عاينوا نقل جثمان البابا يوحنا بولس الثاني إلى مدفنه، يراقبون جميعاً شاشات هواتفهم أو كاميراتهم، ناظرين إلى الأعلى حيث يرفعونها، في حين كان الجثمان يعبر أمام وجوهم الملتفتة إلى وجهة أخرى. في المستقبل، وربما كان ذلك قد بدأ فعلاً، لن يلتقط هذه الصورة مصور محترف، بل أحد الموجودين هناك.
لا مفر للصحافة اللبنانية من الانخراط في هذا المسار، مع استمرار تشابك القضايا في العالم العربي، والتقارب الذي تفرضه التكنولوجيا والغاؤها الحدود التقليدية. أخيراً، لن تكون السوق اللبنانية كافية لإنتاج المردود الكافي، وخصوصاً أن الصحافة لن تستطيع الاستمرار في الاعتماد على تمويل سياسي تحت طائلة انهيارها الشامل. أخيراً فإن الفراغ الموجود سيدعوها بطبيعته إلى ملئه، في ظل القيود على حرية التعبير والتطوير التي تخنق الصحافة العربية الأخرى. ما قد نلتفت إليه متأخرين ربما، هو أهمية أسواق المغرب العربي، بدل الاهتمام الدائم والمبالغ فيه بالخليج.
الانخراط في مثل هذا المسار سيغير كثيراً في بنية المهنة نفسها، حيث ستصبح المهمة الرئيسية للصحافي هي في تبويب ملفات يبعث بها أفراد غير محترفين، تاركاً لهم مهمة صياغة الموضوع وابتكار اللغة الجديدة، لغة أفراد معزولين، يبعثون برسائلهم كي يشعروا بأنهم موجودون. أما كاتب الرأي فسيضطر إلى دخول المنافسة، دامجاً في صلب عمله وسائل أخرى غير الكتابة، من ملفات صوتية أو مرئية، وتشكيل غرافيكي لصفحته، إلى حد أن الفوارق ستنحو نحو الامحاء ما بين كتبة الرأي والفنانين.

صناعة الترفيه صناعة القيم

بعدما كانت الدراما المصرية وحيدة في العالم العربي، بدأت تبزغ منافسات لها، في سوريا والخليج، وربما المغرب العربي، لكنها، باستثناء السورية، لا تزال محدودة الانتشار خارج أقاليمها. ولا يبدو أن اللبنانيين سيلعبون دوراً كبيراً في هذا المجال، لا لشيء سوى لأنهم باتوا على ما يبدو خارج الحكايات الجماعية. فأغلب الروايات اللبنانية تقوم على أفراد، وحتى لدى الياس خوري الذي يجمع أطراف الحكايات الفلسطينية واللبنانية وينسجها في فسيفساء رواياتها، فإن من الصعب رؤية حكاية جماعية، اجتماعية وتاريخية، إلا في شظايا مراياه المتكسرة، بما لا يقوم بأود صناعة المسلسلات. ذلك أن الجماعات اللبنانية تجاوزت، في الحروب المختلفة، حكاياها العامة، وانصرف كل امرئ إلى حكايا فردية، من النجاة من الموت، إلى رواية الهجرة والصمت.
لا أحسب أن ملحمة حرب تموز ستغيّر في هذا الواقع شيئاً، ولا ملحمة الدواليب التي يطير مع دخانها آخر أحلام الشباب، وإن بدا من الاستنفار الطائفي الحالي أن هنالك استعداداً لمواصلة ملاحم سابقة وتواريخ للجماعات. فوصول النظام الطائفي إلى حالة الشلل هذه، واضطرار اللبنانيين الآن، تحت طائلة انهيار شامل، إلى الخروج من بوتقة التوظيف بالمحسوبية اقتساماً لما تناله الدولة من هوامش ثروات الآخرين، سيؤدي على الأرجح إلى الخروج النهائي من اعتبار الطائفة انتماء ومآلاً أوحدين، والاتجاه صوب الانتماء إلى المصلحة المباشرة والفردية. قد يكون ما نشهده آخر فصول الحروب بين الطوائف، المتلطية بكنيات ديمقراطية غريبة عنها وعن عقائدها، فغالباً ما تسفر الحرب عن انتصار من لم يخضها.
إذا ما نظرنا الى هذا الجانب الفني، لفاجأتنا المسيرة التي قطعها الفنانون اللبنانيون في هذا المجال. من إخراج الفيديو كليب، إلى صناعة المشاهير، والمغنين، ومنافسة مصر التي تعدّ عشرين مرة عدد اللبنانيين. بل ستكون السينما اللبنانية أيضاً مرشحة، حين يتخلى المخرجون عن دورانهم حول سرّة الحرب نحو رواية أقاصيصهم البيروتية، الى أن تكون "الموجة الجديدة" التي تفرض ذائقة ومعايير جديدة على السينما العربية، حتى وإن ظل إنتاجها كصناعة، مصرياً في الدرجة الأولى.
إضافة إلى ذلك، هنالك صناعة الترفيه التلفزيوني التي برز فيها اللبنانيون، بالجرأة والاقتباس، من دون خوف، كما كانت أمستردام تفعل في أيام عزها مكتفية بإضافة لون إلى منتج مستقدم من مكان آخر، أو بإضافة إشارة إلى أن المنتج هولندي، مستفيدة من فارق السعر الذي تنتجه شهرتها وقدرتها على التسويق.
لا تنافس القنوات اللبنانية قناتَي "الجزيرة" و"العربية" في مجال الأنباء والسياسة. لكنها في المقابل تفرض النموذج اللبناني التلفزيوني، بغض النظر عن مطابقته للواقع، مثالاً يحتذى ويقتدى به في أرجاء المنطقة العربية. مرة جديدة، ستكون السوق المغاربية هي ساحة المستقبل، وقد بدأت بالفعل.
سيجتذب نجاح النموذج اللبناني مجدداً نخب العالم العربي الساعية نحو عيش يليق بإمكاناتها. وفي حين تكتفي دبي بشراء صورة لها، فإن لبنان قادر على إنتاج هذه الصورة.
هنا أيضاً، سيؤثر توحيد شبكات الاتصال (الهاتف، التلفزيون، الانترنت) في جهاز واحد على تقنيات البث وكلفته، وعلى طريقة جني الأرباح، حيث سيضاف إلى أرباح التلفزيونات من الإعلانات نصيب من حصة شركات الاتصالات بالشبكات.
شركات الاتصالات هذه ستتولى هي أيضاً مسألة توزيع الأعمال الموسيقية والفنية الأخرى، حيث أن المستقبل، كما يلاحظ جاك أتالي، ليس لحق الملكية، بل لحق الوصول إلى الملف الموسيقي المنشود. ستتراجع بالتأكيد أرباح شركات الكاسيت والأقراص المدمجة، التي ستتحول إلى شركات لإدارة الحفلات، أو، وهو الغالب، شركات إنتاج تسوّق منتجاتها من خلال شركات الاتصالات وتتلقى من هذه الأخيرة نسبة من عوائدها ومن عوائد الدعايات فيها.
بدل تكديس كميات من الملفات الموسيقية والفيديو كليبات على الأجهزة الخاصة، سيكون ذلك كله مبذولاً على الشبكة. يمكن منذ الآن ملاحظة أن الشبكة باتت تضم، من خلال المنتديات والمواقع المختلفة، معظم ماضينا. وستشكل شيئاً فشيئاً مستقبلنا، في موازاة تطور آخر يقوم على الفرار من التكرار الخانق والذي لا يخطئ للآلة، نحو إعادة الاعتبار الى مفهوم الحفلة في وصفها المكان الذي يتم فيه الخروج على التكرار. سيختفي البلاي باك إذاً، وتعود أهمية الارتجال والتنويع في الغناء.
الموجود على الشبكة يحتاج أعماراً عدة لرؤيته والاستماع إليه. في مواجهة هذا اليأس القاتل، ستزداد مرافقة الموسيقى لنا من المهد إلى اللحد وفي كل مراحل اليوم. فالموسيقى وحدها قادرة على خلخلة الزمن وإحداث ثغر معلّقة في داخله.
الموسيقى أيضاً، والغناء، بالإضافة إلى النموذج التلفزيوني الذي سينتشر، تحمل منذ الآن حكايات فردية، حتى وإن كانت مواقف تتكرر في حياة الكثيرين. في معنى من المعاني، سيكون النموذج هو الإصرار على فردية الفرد، حتى وإن كانت هذه الفردية لا تسمح له بأن يعيش أيّ تمايز فعلي عن الآخرين.
سيقوم الفنانون وصناع مواقع الانترنت، وليس العائلات الآيلة إلى المزيد من اللااستقرار، بصياغة منظومة القيم الجديدة، وتشكيل المثالات، التي ستكون، شاء من شاء وأبى من أبى، فردية تقيم في الحاضر نائية عن الهذيانات الخلاصية الجمعية. في الواقع، هنالك بوادر على ذلك حتى لدى جمهور حزب الله الأخلص، فالمستمتع بالبقاء في وسط بيروت، حيث الحجر رفاهية خارج الزمن، لا يمكن أن يكون مثاله هو شظف العيش والكربلائية والندم الأبديين.
كل هذا يضيف إلى صناعة الترفيه بعداً خطيراً يجعلها الموازي الفعلي لصناعة الحماية من الأخطار (البيئية والإرهابية والكوارثية)، وخصوصاً أن الترفيه (الموسيقى خصوصاً) هو المكمل اللازم للحماية من الأخطار عبر فرض نسيانها والإلهاء عنها.

كلفة الأخطار

لا يحسبن أحد أنه أقوى من القطاع المصرفي في لبنان، فهذا القطاع قادر متى شاء على إركاع الدولة، التي يعيل عجزها ويقرضها ما يقوم بأود موظفيها وأهلها، وعلى نقل أرقامه وثرواته حيث أراد في العالم المعولم.
ولعل من أهم النتائج لهذه المواجهة العنيفة بين الطوائف أنها أخرجت إلى الحيز العام كتلة من المؤسسات والشركات والتجار والجامعات، لن تكتفي في المستقبل بالدعوة إلى العمل، بل ستفرض شروطها على كل المتعاملين معها من كل الطوائف، وعلى الدولة، ولا شيء، سوى تأسيس رأي عام نشط وفاعل، يضمن أن تتوقف شروطها عند حدود شعار "دعوني أعمل بسلام".
ليس من قبيل الصدفة، ولن يكون نافلاً، نشاط القطاع المصرفي اللبناني على المستوى العربي. فهذا القطاع أثبت، خلال الحرب الأهلية وبعدها، قدرته على التطور، ويتطلع نحو توسيع أسواقه، مشرقاً عربياً ومغرباً أيضاً، منطلقاً من نسبة ادخار لا بأس بها في لبنان، بحسب أرقام المصارف، وستضاف إليها أيضاً تقديرات الثروة العقارية في لبنان. بالطبع، لا تحتاج المصارف، ولا المدينون، سوى في وقت الأزمات الكبرى، إلى تسييل الثروة العقارية.
إضافة إلى ذلك، ستضطر المصارف اللبنانية، المنخرطة في منافسة شديدة مع المصارف العالمية على استدرار الثروات العربية، إلى تنويع "خدماتها" وتطوير تسويقها وطرق إدارتها، بحيث تشمل إدارة الثروات، وما يتطلبه هذا من تأمين على الأخطار، من أخطار البورصة إلى أخطار التجارة والكوارث الطبيعية.
سيتولى تحالف المصارف وشركات التأمين، بناء على ذلك، تنظيم المجتمع وطرق إدارة الثروة على أسس جديدة. لكن هذه الإدارة ستكون أيضاً "منتجة" للثروة غير المادية التي يقوم عليها الاقتصاد العالمي اليوم، والتي تتسبب له من جهة أخرى في أزمات دورية أيضاً. تتطلب هذه العملية الإنتاجية، على ما يظهر تاريخ تجارة المال منذ القرون الوسطى، جرأة وتصميماً ورغبة في المغامرة بحثاً عن الثراء. لكنها أيضاً، كما في كل مرة، تغير طريقة العمل في كل المراكز الاقتصادية الأخرى، منذ الصناعة الحرفية، إلى الثورة الصناعية وثورة فورد، وصولاً إلى الاقتصاد الرقمي والأسعار الخيالية لمواقع لم تدخل بعد دولاراً واحداً.
يترافق ذلك مع تقدم في معدل الأعمار، وانقلابات في البنية العمرية للمجتمع، ويؤدي ذلك إلى تشجيع الاستدانة على فترات طويلة، والمراهنة على المستقبل. لكن في المقابل، سيتزايد نفوذ شركات القطاع المالي، التي ستغطي الكلفة الرئيسية لمعظم ما يتخوف منه المرء والمؤسسات، من المرض والشيخوخة إلى انهيار الأسواق وحتى العمليات الإرهابية، مقابل دفعات متفاوتة في القيمة تبعاً لكل وضع. مما سيحتم أيضاً الجمع بين شركات المال والطب من جهة، ومؤسسات قياس الرأي العام من الجهة الأخرى، بحيث يتم فرض رقابة، ذاتية في الغالب، سواء من جانب المرء أو من جانب المؤسسة من أجل التزام معايير موضوعة وأوامر لا مفر منها، في الأكل والصحة والعناية بالصورة والانطباع ومراعاة الذوق العام والرأي العام. في ذلك كله، سيغدو كل امرئ "حراً"، بدليل أنه يُشهر انضواءه في إطار القواعد العامة، ويقبل الخضوع إلى الرقابة. أما المؤسسات العامة فسيجري تفكيكها وإيكالها إلى شبكات خاصة كما نشهد منذ الآن، في التعليم والاستشفاء وتأمين الحاجات الرئيسية كمياه الشفة أو الكهرباء أو الاتصال بالانترنت. سنشهد في الدرجة الأولى صناعتين كبيرتين جديدتين، تصنيع الصحة وتصنيع الصورة والاتصال بالآخر.
في مفارقة كبيرة، لا مفر من اللجوء إلى الدولة للحد مما يحمل هذا التطور في طياته من أخطار كبيرة على الحريات الفردية، رغم أنها قد تجيء في مقابل مساحة أوسع للحرية العامة ولوزن الرأي العام. الدولة التي لم يتم بناؤها بعد، ضرورة للأفراد الذين سنبدأ "انتاجهم" بشكل متزايد، وهي حصننا الأخير الذي نسوّره بمدينة بيروت، وبقدرتها على ضخ الحيوية وانتاج العيش الشهي والبهي.

يستطيع لبنان المساهمة، بالركائز الثلاث من صناعة الرأي والقيم والثروة، في جعل هذا المستقبل أقل قتامة، بل إن هذه المساهمة ربما تكون عماد دوره المستقبلي. في هذا المجال أيضاً، يبدو اللبنانيون، إذا ما اتعظوا، على ما نرجو ولا يبدو، من حروب أهلية تتوجه إليها معظم المجتمعات الأخرى اليوم، أفضل استعداداً، بعكس ما قد نحسب الآن، للمستقبل ولإمكانات الإفادة منه، في حين أن مزيداً من الوعي والاستعداد وحدهما قد يسمحان بتفادي أسوأ ما فيه. وما استشراف المستقبل سوى اعتراض، في الأساس، على حتميته وعلى صدق وعوده.


Aucun commentaire: