"حازم شاهين في اصداره الأول: نبض آسر "زي الموجة
incognito عبر قرص "العيش والملح" المدمج الذي أنتجته وتوزعه شركة
يقدم هذا العمل، الذي يشترك فيه شاهين، في إطار فرقة "مسار"، مع نوار عباسي (بيانو)، ومايلز دجاي (كونترباص) وهاني بدير (إيقاع)، سبع مقطوعات، بينها توزيع لنوار، الذي لحّن أيضاً مقطوعة "رمال"، للحن "إيه العبارة" لسيد درويش، وكان سبق أن وزعه أوركسترالياً أبو بكر خيرت، ومقطوعة "زفة شهيد" لمايلز، بالإضافة إلى ثلاث مقطوعات لحازم شاهين نفسه، ورابعة هي "زي الموجة" من تأليف شاهين وصديقه عازف العود المقيم في فرنسا طارق عبد الله.
رغم ذلك، يظل هذا العمل، الجماعي، يحمل بصمة عود شاهين في كل مقطوعاته، وخصوصاً أنه، تأليفاً، الوحيد الذي يقدم اقتراحاً جديداً، يخرج على المألوف في تأليفي مايلز ونوار.
"زي الموجة" و"العيش"، قد تشكلان مدخلاً مناسباً الى الحديث عن أحد أبرز الملامح في شغل شاهين، أي استدخال الارتجال والتنويع إلى قلب الجملة الموسيقية الرئيسية، وليس الاكتفاء بحصر الارتجال في أماكن محددة من المقطوعة، ما بين جمل لا تترك للعازف إلا حرية الزخرفة. في أعمال مثل "زي الموجة"، و"العيش"، نجد استعادة لهذا الاقتراح الذي كان أول من قدّمه، على ما نحسب، عازف الكمان الرائع عبده داغر، في مقطوعات مثل "الشباب"، و"مدى" وبالتحديد الجزء الثاني منها. في هذا الأسلوب من التأليف، تستدخل إلى قلب الجملة فكرة قالب التحميلة القديم، أي السؤال والجواب، وتوضع للجواب أسس يمكن، بل يجب، التنويع عليها في حين يظل السؤال راسخاً. أي أن الارتجال لا يبلغ جملة كاملة، ولا يكسر الإيقاع والمناخ العامين.
يشبه هذا الأسلوب بالطبع الأسلوب القديم في تلحين الغناء أيضاً، والذي كان آخر ممثليه الشيخ زكريا أحمد، الذي تسمح بعض تسجيلات أم كلثوم، التي أتاحها كرم بعض الصحبة على الشبكة العنكبوتية، بالتدقيق في مدى وضعه لبعض نقاط الارتكاز لها لترتجل في ألحانه انطلاقاً منها، وربما كان الحال نفسه في الموّالين اللذين أدتهما أيضاً. فقد كان تلحين الدور أيضاً يكتفي ببعض الجمل الرئيسية ويترك الباقي لابتكار المطرب، بعد أن يضع له نقاط ارتكاز أساسية. غير أن الفارق هو بالطبع في تحويل هذا الارتجال إلى داخل الجملة الموضوعة نفسها واكتفائه باحتلال شطر منها.
يسمح ذلك بأداءات أسطورية، كما فعلت أم كلثوم في حفلات "هو صحيح" أو "الأوله في الغرام"، أو ما يروى عن عبده داغر من إعادة الجزء الثاني من "مدى" ست عشرة مرة في حفل بألمانيا، أي ما يعني 128 ارتجالاً صغيراً متنوعاً.
كما يسمح ذلك لحازم شاهين، بالإضافة إلى هامش التقاسيم الذي بات معتمداً في المقطوعات الموسيقية، سواء استوحت أجواء الجاز او أجواء الطرب، بإبراز طاقاته الكبيرة في التنويع وفي التقسيم الموقّع. لكن باكورة هذه التجربة لا تزال تفتقر، في رأينا، إلى دمج هاتين الموهبتين في أسلوب واحد، يجمع التقاسيم إلى التنويع المرتجل على جملة كاملة محددة. فشاهين متمرس في استخراج ما كان تركيباً هاجعاً في قلب الجملة الموسيقية، أو في توق الشيخ إمام الذي يقول شاهين إنه تعلم الكثير في العود منه، مستخرجاً ما كان الشيخ يطمح إليه من دون أن تسعفه أنامله. ومن أمثلة هذه القدرة "الشاهينية"، ما فعله حازم شاهين ذات جلسة في بيت العود العربي، آن كان لا يزال يُدَرّس فيه، برقصة أرمنية استولى عليها فأحالها قالباً من التنويعات، جديداً في الموسيقى العربية، وإن كان معروفاً في أوروبا، وجعلها، بالعود وحده، بناءً درامياً متصاعداً ومتنوعاً، يجمع الحس الإيقاعي بتقنيات متنوعة المشارب في الريشة والعفق بالأصابع.
ذلك أن شاهين يملك قدرة فريدة في السيطرة على صوت عوده، بثاً وصراخاً، وأنيناً وغناءً، وبثاً وبوحاً، أو رقصاً وسروراً. ولعل هذا البحث عن صوت في عينه، أي صوت للعازف بنَفْسه ونَفَسه وليس فقط للعود، والاندماج ما بين حازم شاهين وعوده، هو الشيء الوحيد الذي يشفع لهذا الأخير على الرغم من أزيزه في بعض المواضع.
ليس ها هنا مجال لتحليل تقنية حازم شاهين في العزف، وهي أكثر من مبهرة، بخاصة أنها ليست مبهرة بصرياً، بل تبهر الأسماع والأفئدة، رغم أنها لا تحتل الحيز نفسه كما لو كان القرص مخصصاً لعزفه المنفرد. لكن لا يمكن اغفال اكتمال هذه التقنية وسطوع شخصيته من خلالها، وهو ما امتدحه فيه العازف التونسي الشهير أنور براهم، مصطحباً إياه لافتتاح الدورة الثالثة من مهرجان "جاز في قرطاج".
ليست غريبة تلك المشاركة "الجازية"، ففي مقطوعات العمل في مجمله تأثير واضح لتلك الغرسة التي تراجع زياد الرحباني عن اسمها، أي "الجاز الشرقي"، وهنالك بحث واضح عن ايقاعات جديدة قادرة على أن تواكب القلق المعاصر، وأن توصلنا، على الرغم منه، إلى سكون الحسن وهدأة الطرب. يظل أن حصر الطرب والارتجال في مواضع معلومة ولمهل محددة سلفاً، يضيّق مسالكه فوق ما تحتمل، ولهذا يلوح لمن يستمع إلى مقطوعات العمل نفسها، لكن من تسجيل حيّ، أنها أكثر رحابة وجمالاً مما نجده مضغوطاً في القرص المدمج.
إذا كان من مساوئ تسجيل الاستديو أنه حرمنا من إطلاق شاهين العنان لخياله ولنبضه الآسر في التقاسيم، فإنه في المقابل كشف لنا عن "شامية" ما في عمله، لا سيما في "العيش" وأسلوب تناول مقام البيات فيها، ربما تكون قد وافته من نسائم الاسكندرية المتوسطية، أو من أعمال سيد درويش المتأثر أيضاً بجولته الشامية. كما أنها ربما تكون أيضاً نفحة متأخرة من بركات "والد الشعراء" فؤاد حداد، الذي يعمل شاهين، مع ورثته وورثة صلاح جاهين، على تقديم رؤية "مموسقة"، أو "موقّعة"، لأشعاره وأشعار جاهين. يحمل عمل شاهين على الأشعار والتلحين، كما في الغناء، ملامح من تجربة الشيخين سيد درويش وإمام عيسى الذي أحب شاهين العود وهو على ركبتيه طفلاً. إلا أنه يحمل مخاطر الوقوف في مواقف سياسية مجمدة وموروثة من دون تدقيق فيها. بيد أن الجانب السياسي في تجربة شاهين، الشابة في بواكيرها، هو، جوهراً، جانب ثانوي وهامشي أمام الجانب الموسيقي، ويحمل حماسة شبابية، يمكن تفهمها رغم أنها لم تنضج، للتلحين كما للمواقف.
الجانب الأهم في تجربة شاهين هو في الأساس الجانب الذي يمكث، بعد أن يذهب الزبد جفاءً، في أرض آلته، التي يبتدع شاهين فيها، من دون استعراض لا طائل منه، روحاً ونبضاً جديداً، والنبض ما لا يحصره الإيقاع المنظوم. قد يقارنه البعض، مثل السيدة رتيبة الحفني، بالسنباطي، فكلاهما يحمل بين أصابعه تلك القدرة على احيائنا ووضعنا في قلب الزمن وفي اهتزاز حركة سيره. ولئن كان شاهين لا يزال دون خبرة السنباطي الذي ابتكر فجوات يعلق فيها الزمن، ويعلّقنا، متى شاء، فإنه، مثل السنباطي في تسجيلاته الشبابية القليلة، يجعلنا، من النقرات الأولى، نراقص النبض، وندرك أننا أجساد قد عتّقت طويلاً في دنّ الزمان، وقد آن لنا أن نتخفف من فائض أعبائها لنتحول إلى نبضات خالصة..
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire