lundi 10 mars 2008

زياد الرحباني والأشباح


ملحق النهار، حزيران 2006


كشاش أشباح الأورينتال جاز وأرباع الصوت الدرويشية والرحبانية




في عدد صحيفة السفير، الصادر يوم الأربعاء 30 أيار، وفي حوار أجرته معه الزميلة العزيزة ضحى شمس، أتحفنا زياد عاصي الرحباني مجدداً بآرائه الكشكشية، نسبةً ربما إلى كشكش بيه (الشخصية التي لعبها طويلاً نجيب الريحاني)، أو ربما إلى لعبة الغميضة (cache-cache) التي يحلو له أن يلعبها أحياناُ مع محبيه من المستمعين، مستعيضاً عنهم بجمهور من القراء أحياناً.


الجديد في الحوار هو تطور أراء الرحباني الصغير في الموسيقى، حتى لتشابه آراء بعض الكتبة في الدستور اللبناني، وما أنزل الله به من سلطان من غير ذوي العيون الباصرة. فمن جملة ما قاله "أبو الزوز"، واستحال عنواناً للحوارـ النهر، أن ليس هنالك جاز شرقي ولا شيشاني، "وما نقدمه هو موسيقى كلاسيكية".


مثل كثيرين، كنا ننتظر أن يعود زياد الرحباني إلى رحابة الموسيقى، ومثل نسبة ربما تفوقهم كثرة كنا ننتظر أن ينسحب من مجال الوله الصحافي، "يا وله"، ضناً بوقته الثمين على أقل احتمال. فإذا بنا كالمستجير من الرمضاء بالنار، وكالهارب من "الدلفة إلى تحت المزراب"، ويا له من مزراب يؤكد الرحباني في أحد زواريبه أنه "نفّر" منه انفاراً اتهموا بالجاز الشرقي، بسبب اصراره على هذه العبارة. وفي زاروب آخر يعلن عن اكتشافاته النسائية بالقول إنه أقنعهن، وهن الراطنات بالافرنجية، بأن يغنين "بالعربية" إذ اقترح عليهن أن يغنين "مثل الرحابنة وفيروز"، معتبراً أن ما أدى إلى شهرة هؤلاء هو ما لحنوه دون ربع صوت، "وهنا يلتقون (أي الرحابنة وفيروز) مع سيد درويش" (يا للطامة الكبرى!).


كنا نود لو نخصص هذه المساحة لنقد "شريط" الرحباني مع لطيفة، والذي بات موضع سخرية لابتذال وتناقض ورجعية (معاً؟!) نجمة أغنياته "بنص الجو"، حتى من دومينيك حوراني! ولا يخفى أن الشريط متفاوت المستوى جداً، وأن ما فيه من "شغل جميل" كان مصاغاً على قياس فيروز لا على قياس لطيفة. لكن خطورة ما يورده الموسيقار زياد الرحباني، في هذا الحوار، يستدعي إعادة ترتيب الأولويات، لئلا يتخذه البعض مرجعاً في الموسيقى، كما سبق أن اتخذوه في العيش والسياسة!


إذاً، ثلاث نقاط: الجاز الشيشاني والشرقي، وتقديم الرحباني الصغير لموسيقى كلاسيكية، وشهرة الرحابنة وسيد درويش القائمة على تغييب أرباع الصوت الشرقية!


لا شك أن أبا الزوز عليم بأن تسمية عمله بالجاز الشرقي، أو بكوز الرمان، ما كانت لتؤثر على استقباله ولا على متعتنا به، ولا شك أنه في الحوار يقصد أبعد من مجرد الاعتذار من توفيق فروخ واعادة الاعتبار إليه جازياً عالمياً. يقول زياد أن الجاز جاز ونقطة. وأن له الحق في المرور بكل الحضارات لأنه بني على خلطة من كل الحضارات. هل يعني هذا أن الجاز، أو الجاز ونقطة، لو لم يكن بني على "خلطة" من كل الحضارات لما جاز له المرور بها؟ ألا يحق له أن يتخذ صفات مختلفة، كالجاز الأبيض والجاز الأسود، أو أن تكون له أصول متفاوتة التسمية كالبلوز والراغتايم، أو فروع ذات "نكهات" مختلفة سواء أتت تسمياتها مناطقية، كالجاز اللاتيني بأنواعه، أو أتت التسمية بحسب أنماطها وتطوراتها مع تنوع العازفين واختلاف التقنيات والإمكانات كالسوينغ والبي بوب والفيوجين والأسيد والأسيدسوينغ وغيرها؟


ألا تعني ملاحظة زياد الرحباني أنه اضطر إلى "كتابة" تقاسيم لبعض عازفيه، أيام "الجاز الشرقي"، أن ما كان يطلبه لم يكن متوافراً من قبل؟ فلو كان يريد فقط أن يعزف "جاز" أبو نقطة لكان في وسعه أن يعثر على كميات من العازفين الجيدين، ولو كان يريد فقط أن "يقسّم" العواد معه كما يقسّم وراء صباح أو عبد الحي حلمي، لوجد أرتالاً. لكن ما يريده لم يكن مسبوقاً، لأنه كان تماماً نتاج دمج روحية الجاز وبعض هياكله مع جملة موسيقية مختلفة ذات نفس وبنية "شرقية". أفلا يستأهل هذا الوليد عمادة؟


هل نعمّده "سمكة" بحسب الطرفة التي كان مارون عبود يرويها بظرف لا يوازى؟ أم نعمده موسيقى "كلاسيكية"؟ وهل المقصود بالكلاسيكية هنا مصطلح الموسيقى الكلاسيكية الغربية الموضوعة تاريخاً ما بين الباروك والرومنطيقية؟ أم المقصود هو إتباع منهج وليد غلمية في عبارة "الموسيقى الكلاسيكية الشرق عربية" والتي تعني حصراً تقريباً الموسيقى المصرية واللبنانية منذ انطلاقة ثومة وعبد الوهاب إلى وفاة كوكب الشرق؟ في كلا الحالتين لا أثر للكلاسيكية، الغربية أو الشرق عربية، في نتاج الرحباني الجازي، فلعله إذا يقصد الموسيقى التي باتت في العبارة الشعبية كلاسيكية لأنها تعتمد الأوركسترا السنفونية؟ حتى في هذا، نتاج الرحباني ضئيل، كما أن الأوركسترا السنفونية لا تتسع لباص عبود السعدي في تعريفها. أما اعتبار كل ما يدخل البيانو في نسيجه موسيقى كلاسيكية فهو يتجاهل أن البيانو نفسه الذي يعزف عليه صاحبنا لا يشبه البيانو الكلاسيكي! فضلاً عن أن الكثير من كلاسيكيات الموسيقى لا بيانو فيه، والكثير من لا ـ كلاسيكياته، أياً كانت التسمية التي يريد، تضم البيانو. بالطبع، الكلام عن الموسيقى التراثية أو الفلكلورية أو الكلاسيكية بمعنى القديمة لا يغنينا شيئاً في هذا المقام، فلا يظل إذاً سوى تعريف مشهور، ونرجو ألا يكون المقصود، للأعمال الكلاسيكية، أي تلك التي لا أحد يعرفها لكن الجميع يتحدث عنها!


أخيراً، مسألة الرحابنة وسيد درويش. الرحباني الصغير أدرى بالتأكيد بتراث عاصي ومنصور وفيروز، أما أن يدعي أن شهرتهم قامت على غياب ربع الصوت، فمثير جداً للعجب، إذا تذكرنا تاريخهم منذ "وقف يا أسمر" إلى الموشحات المستعادة إلى الزجليات اللبنانية المسرحية التي شهرتهم على أساس أنهم يدخلون التراث في الحداثة، ناهيك طبعاً بدور فيلمون وهبي المظلوم دائماً مع آل الرحباني! أما الحديث عن سيد درويش فيغدو تزييفاً خالصاً لتاريخ الرجل الذي، وإن كان ثمن مبالغة بعض الشيء في تبجليه، لم يقصر في أغانيه المشهورة في استعمال أرباع الصوت، وتواسيعه كما في استعمال العشاق في دويتو "على قد الليل"، أو استعمال الأرباع إلى جانب البيانو في "البحر بيضحك والله" (مقام بيات)، أو في أدواره مثل "ضيعت مستقبل حياتي" (مقام شوري)، أو في موشحاته وأشهرها يا "شادي الألحان" (مقام راست)، أو حتى في طقاطيقه مثل "طلعت يا محلا نورها" (مقام جهاركاه وليس عجم كما قد يحسب البعض)، أو "اقرأ يا شيخ قفاعة" (من مقام العجم الذي يداخله الراست) أو حتى في خاتمة "الحلوة دي" (مقام حجاز) فضلاً عن "خفيف الروح بيتعاجب" (مقام حسيني) أو "سالمة يا سلامة" (مقام محير) ورائعته الشهيرة "أهو ده اللي صار" (في نسختها الأصلية المتأرجحة ما بين مقام المحير أيضاً وقفلة الكرد).


إذا كان صاحبنا يقصد أن ما سار واشتهر حتى طبق الآفاق، للشيخ سيد ولآل الرحباني، هو ما كان عزفه على البيانو ميسوراً، فلا شك في أن طول عشرته لهذه الآلة يكون قد أثر بعض الشيء على أحكامه التأريخية. أما إذا كان معيار شهرة الأغنية عنده هو غرام من لا تلين أوتارهن الصوتية لاصدار المقامات الشرقية، فإنه يكون يفترض لسيد درويش والرحابنة جمهوراً من الشقر زرق العيون حليبيي البشرة، على ما يحلو للأدبيات الإيرانية الاطناب في الوصف، ولا شك أن داليدا كانت ستشكل مغنية سيد درويش الأثيرة، وأن أجمل ألحان الرحابنة ستكون، في هذه الحالة، "كانوا يا حبيبي"!


نرجو لزياد الرحباني، ملحن "أنا عندي حنين" و"حبيتك تا نسيت النوم"، أن يقيم ما طابت له الإقامة بين "الكشاكش" (وقد خطر لي الآن معنى جديد لها) وبين "المزدوجات" والخطوط الحمر. ففي ما سبق أن قدمه لنا من "أغانٍ طربية" (أي أغان مطربة وإن لم تكن تتبع الطرب كنمط من الغناء)، ومن بدع "الموسيقى الكلاسيكية" ومحدثاتها، قدر من المتعة يكفي ليغفر له ما سبق من ذنبه وما تلا. ولا شك في أن الجمهور الذي يفد غزيراً إلى حفلاته لن يشعر بالغبن من جراء نزاع المصطلحات هذا. لكن جمهوراً آتياً سيفتقر بشدة إلى الآلات "الوترية الأفقية" (القانون والعود) التي يبشر حديث الموسيقار الرحباني باندثارها، بما انها تنهي احتمالات الشهرة للفنانين، وذلك لمصلحة وتريات "عمودية" (البيانو، مثلاً، إذا ما ظلت فيه أوتار

أحكام الدين أم قواعد القانون؟



نشر في موقع الأوان

هل يمكن للأحكام الدينية الإسلامية أن تستحيل قاعدة قانونية؟


شهدت المدونتان المصريتان لعمرو عزت ومحمد الهامي نقاشين من أرقى ما يمكن للانترنت أن يتيحه (رغم بعض المتطفلين البذيئين الذين يتعبون بسرعة)، وكان المذكوران بطليْهما الأبرز، إلى جانب بعض الآخرين. تناول موضوع النقاش الأصلي حكم المحكمة الإدارية العليا المصرية برفض تسجيل كلمة "مسيحي" في خانة المذهب في الأوراق الرسمية لمن عاد إلى المسيحية، اثر اعتناقه للإسلام. وجاء في حكم المحكمة الصادر أواخر شهر أبريل الماضي، أن أصول الدين الإسلامي تمنع الردة عنه، لذا، وعلى الرغم من ضمان الدستور والمواثيق الدولية لحرية المعتقد، فإن هذه الحرية لا تشمل التلاعب والتنقل بين الأديان، لأن في ذلك خروجاً على النظام العام وجماعة المسلمين. لذا، فإن على المسيحي، باعتراف المحكمة نفسها، أن يرتضي بقاءه بالتالي مسلماً، على الورق...

سخر عمرو عزت في مدونته "ما بدا لي" من هذا "الحكم" سخرية بديعة ومريرة. لكن النقاش تحول في سرعة من المجال القانوني الذي ركز عليه عمرو إلى "حكم الردة في الإسلام". والحق أن هذا التحول كان مضمراً في حكم المحكمة نفسه الذي ابتكر قاعدة جديدة، في القانون وفي الفقه، حيث حكم بعقوبة لا أساس قانوني لها، بإيقاع حكم "البقاء على خانة المسلمين" محل "حكم الردة". لذا انتقل النقد من السخرية القانونية إلى التساؤل عن حقيقة حكم الردة في الإسلام وما كان ينبغي للمحكمة أن تحكم به لو أنها تطبق شرع الله، بما أنها زعمت هنا أنها تطبق أحكام أصول الإسلام.

ما نود الالتفات إليه ينقسم إلى نقطتين. الأولى تتعلق بما تكشفه هذه النقاشات حول إمكانية الحوار في شأن القواعد الدينية الإسلامية. والنقطة الثانية هي التساؤل حول شروط استقبال مثل هذه القواعد في المنظومة القانونية للدولة الديمقراطية المرجوة، ذلك أن الإسلاميين، دون شك، سيشكلون ثقلاً كبيراً داخلها، ولما كان القانون انعكاساً للأوزان الاجتماعية فإنهم سيسعون تالياً إلى تضمينه ما يعتبرونه أحكاماً إسلامية. للتبسيط، نتساءل الآن هل يمكن الحوار في موضوع من قبيل "حكم الردة في الإسلام"؟ وهل يمكن في مرحلة لاحقة إدخال مثل هذا الحكم كقاعدة مقننة في دولة "ديمقراطية"، وليس في دول كالسعودية أو إيران، يتمتع فيها الإسلاميون بثقل كبير، إن لم نقل بالأغلبية؟

حوار الصمّ حول الأحكام الإسلامية
يكشف النقاشان السالفا الذكر وجود نماذج للشخصيات التي تدخل في مثل هذا الحوار:
ـ غير المؤمنين الذين لا يرون في الدين أية فائدة أصلاً.
ـ غير المؤمنين، لكن الذين يشددون على الاستفادة من القيم الإنسانية في الدين.
ـ المؤمنون الذين يقدمون العقل والأخلاق قاضياً على فهم الدين نفسه.
ـ المؤمنون الذين يقدمون النص على العقل، ثقة بالحكمة الإلهية المتجاوزة لأفهام البشر. لكن فهم النص لديهم يتم بواسطة مرجع مختص فقيه، قديم أو حي، أو بما يتحصل لديهم من أغلبية بين هؤلاء المراجع.
ـ المؤمنون الذين يقدمون النص على العقل، ولكن بحسب فهمهم الخاص لهذا النص. هذا الفهم على نوعين: فهم النص بحسب حرفية لفظه، أو فهمه وفقاً لبيئته وتاريخه ومقاصده.

في حوار بين أطراف بالغي التعدد كما هي الحال هنا، يصبح من غير المجدي الحوار على أرضية النص نفسه، لوجود شريحة لا تؤمن به أصلاً، ولتناقض النصوص وكثرتها ثانياً، وللخلاف على طريقة فهم النص ثالثاً.

أما الحوار من خارج أرضية النص، أي على أرضية الأخلاق والعقل، فغير مجدٍ أيضاً، بما أن ثمة مؤمنين يعتقدون بتجاوز الحكمة الإلهية لأفهامنا البشرية، وتالياً أن تحييد النص يكون تنطحاً إلى مقارعة العليّ العظيم بأفهام قاصرة. هؤلاء يرفضون الاستغناء عن النص، مهما بدا صادماً للأفكار المعاصرة. أليس هذا، آخر الأمر، ما تسبب في غضبة المفتين بالتبرك ببول الرسول أو برضاعة الكبير؟ بالنسبة لهؤلاء يكفي ثبوت النص، بحسب القواعد المقررة لثبوته قبل ثلاثة عشر قرناً، ليصبح واجباً وحكمة الهية لا تقبل المس بها، فضلاً عن أن أي مس بصحة أي خبر "ثابت" تصبح مساً بأول أسس الدين، أي تواتره، كما ظهر في الغضبة الشهيرة ضد طه حسين حين شكك ببعض الشعر الجاهلي (راجع مقالة أحمد بيضون عنه في كتابه "كلمن")، أو كما أبان وضاح شرارة في معرض تعليقه على أخبار مجنون ليلي في كتابه "أخبار الخبر".

إن لم يكن من الممكن الاتفاق إذن على أرضية أو مسطح للحوار، فكيف يمكن الركون إلى منهاج أو منطق يكون قاضياً عليه ويحكم من فاز به؟

في الأغلب، يتحول الحوار إلى محاولة لكسب المستمعين والمشاهدين، وليس المحاورين أنفسهم لا عناداً منهم أو تكبراً بل لغياب المرجعية الموحدة بينهم.

في الأغلب أيضاً، ستنتهي الأمور إلى محاولة من المؤمنين المنفتحين أو "التلفيقيين" من أجل تأصيل قيم حديثة في الدين، سواء بالتنقيب عن النصوص المتفردة، أو تقديم منهاج جديد لفهمها يسمح بتأويلها بحسب البيئة والتاريخ والاجتماع. على أرضية النصوص، يفوز دوماً الطرف الأكثر تشدداً وتطرفاً، ذلك أن وراءه حصيلة خمسة عشر قرناً منها. وهذا ما يحشر البعض الآخر في زاوية "عدم الالتزام بأحكام الدين" في حين أنهم يدّعون التزامهم التام بها.

هل يعني هذا أن الحوار مع الإسلاميين وبينهم سينتهي دائماً إلى انتشار الفكرة الأكثر تطرفاً؟ ربما. فلطالما كان النقاش بين الماركسيين ينتهي أيضاً لصالح من يجد الجملة الأبلغ لماركس والتي تقطع دابر كل جدال!

لكن أرض الواقع كانت دوماً تثبت، في الوقت عينه، أن الطرف الأقوى في الجدال هو الأقل وزناً في السياسة. ذلك أن مرجعية الجدالات كانت دوماً نصوصاً ثابتة في حين أن المجتمعات تسعى دوماً إلى التكيف مع ظروف جديدة لا يجدي فيها التمسك بأصالة الفكرة وأصلها شيئاً.

رغم هذا الأمل البسيط في أن تظل المجتمعات ترفض أن تجمد في قالب فكرة حجرية، يظل هنالك تساؤل خطير العواقب. هل يمكن للإسلاميين، في حال حلول الديمقراطية بين ظهرانينا كما حصل مع الفلسطينيين، أن يفرضوا قانوناً إسلامياً، بحجة الأكثرية؟ وهل يتوافق مثل هذا القانون مع أسس الديمقراطية نفسها، أي الفرد والقانون. من هنا ينبع سؤالنا عن صفات الأحكام الدينية بالمقارنة مع القاعدة القانونية.

القاعدة القانونية والأحكام الدينية الإسلامية
تحفل كتب المقدمات في علم القانون بالمقارنة بين القاعدة القانونية والقاعدة الدينية أو الأخلاقية، إلا أن هذه المقارنة تنطلق في الأغلب من موازاة بين الدين والمسيحية والأخلاق. فيمكن للبروفيسور هنري مازو القول بأن الفارق بين القاعدة القانونية والقاعدة الأخلاقية أن الأولى تتميز بعامل الإلزام الخارجي، أي بالاستناد إلى قوة خارجية هي قوة الدولة وليس فقط عقوبة أخلاقية داخلية وفردية، كما أن القاعدة الأخلاقية تتميز بالتسامي العالي عن واقع المجتمع وبغياب التحديد الكافي لتفاصيلها الأمر الذي ينعكس سلباً على "الأمن القانوني"، أي معرفة معنى القانون والثقة بالنتيجة الواضحة المرتقبة من تطبيقه. ويبدو جلياً هنا أن الدين الإسلامي، نظراً لكونه تشكل عبر التاريخ ديناً ودولة ليس متسامياً كثيراً عن حاجات المجتمع، بل هو يزعم، أو يزعم أهله، أن الفارق بينه وبين المسيحية هو غياب الحس الواقعي لدى هذه الأخيرة، في أمرها بالمحبة والمسامحة وبذل الذات، وتغييبها لعناصر المجتمع من أنانية ومطالبة بالحق والامتلاك والاستئثار. لذا يصير السؤال هل يكفي منح القاعدة الدينية الإسلامية قوة الإلزام الخارجي المستمدة من الدولة لتصير قاعدة قانونية "مقبولة في المنطق القانوني"؟

إذا اكتفينا بتحديد البروفيسور مازو، لربما كان الجواب بالإيجاب، ذلك أن الدين الإسلامي، خارج قسم العبادات ومعرفة الذات الإلهية، يتضمن جوانب المعاملات والعقود والإرث والحدود (أي القانون الجزائي)، وذلك بتفصيل تفنن فيه فقهاء العصور الغابرة. فهل يمكن لنا استقدام هذه القواعد، وصبها في إطار قانوني، استكمالاً لما بدأت به مجلة الأحكام العثمانية مثلاً، فتصير قواعد قانونية ملزمة، وذلك بغض النظر عن مضمونها؟

لم ينمُ إلى علمنا دراسة تتناول هذا الموضوع، سوى دراسة الدكتور سمير عالية "علم القانون والفقه الإسلامي" التي أفدنا كثيراً من جزء منها منشور على الإنترنت، وله أيضاً كتاب بعنوان "المدخل لدراسة القانون والشريعة".

يحدد الحقوقيون أجمالا سمات القاعدة القانونية بالعموم، أي شمولها الكل، والتجريد، أي عدم ارتباطها بحالة مفردة، والإلزام والعقاب عليها، إضافة إلى كونها قاعدة مفروضة على إرادة الفرد من خارجها بموجب القانون الذي تضبط به الجماعة شؤونها من أجل الصالح العام. وهذه السمات كلها ممكنة التوافر في حالة القاعدة الدينية، من نوع "من ارتد عن الإسلام يعاقب بالقتل"، إذا ما استند تطبيقها إلى قوة الدولة التي تقوننها.

يظل أن هنالك سمتين رئيسيتين، تتفاوت الإشارة إليهما شهرة، وأعني أولاً الاستمرارية، أي بقاء القاعدة القانونية ملزمة حتى إلغائها أو استبدالها أو سقوطها، وثانياً كون القاعدة القانونية لبنة في نظام هرمي تراتبي مترابط، صادر عن الدولة، ومتعلق بدستورها. ويترتب على هذين الملمحين نتائج مهمة بالمقارنة مع القاعدة الدينية الإسلامية.

فالقاعدة الدينية الإسلامية، إذا أسقطنا منها الحساب الأخروي على السرائر وعلاقة الإنسان بربه، تظل ذات أصل إلهي سماوي، وهذا يعني بحسب د. عالية أن قواعد الشرع تميزت "عن غيرها من القواعد الاجتماعية، ومنها قواعد القانون، بموافقتها للعدل والحق والصواب، وبعصمتها من الخطأ والنقص والجور والهوى الشخصي"، كما أن الشرع الإسلامي كما يتضح للدكتور عالية "يحقق في أحكامه العدالة المطلقة، في حين أن القانون الوضعي يكتفي بمجرد تحقيق العدل النسبي".

أي أن القاعدة الإسلامية الدينية، لما كانت معصومة من أي خطأ أو نقص، لا تقبل التعديل، فكيف بالإلغاء أو الاستبدال أو السقوط. ولما كانت القاعدة كاملة، فهي كاملة في ذاتها، تعدل أهميتها أية قاعدة أخرى، ولا ترتبط بغيرها، استثناء أو خضوعاً لمبادئ أعلى واردة في الدستور أو في المعاهدات الدولية.

يعني هذا أن منطق القاعدة الدينية الإسلامية يؤكد عناصر ثلاثة:
ـ خلودها في صورة واحدة ثابتة إلى يوم الدين، ولا يعتدّ في رأي الأكثرية الفقهية بالقول بتغير الأحكام بتغير الأزمان.
ـ فرديتها، فهي مستغنية عن الأخريات وينبغي تطبيقها في ذاتها وهو ما يجعل قضية فرض الحجاب على المذيعات تعادل في الأهمية وقف سفك دماء المؤمنين إن لم تكن تفوقها (انظر نشاط مجموعة "سيوف الحق" الغزاوية!).
ـ وأخيراً تفلتها من التزامات الدولة تجاه جماعة الأمم والمعاهدات التي لا تستطيع تالياً أن تسمو على القاعدة الدينية.

هذه العناصر الثلاثة تعاكس كلياً المنطق القانوني. إذ لما كان القانون تعبيراً عن المعارك الاجتماعية وحاجات المجتمع المتغيرة، كان من الواجب تعديله وتغييره توافقاً مع المتغيرات أو استباقاً لها أو تلبية للحاجات الجديدة. و"تخليد" القاعدة بحجة صدورها عن أصل سماوي يمنع القانون من لعب دوره الحقيقي.

كما أنه لمّا كان القانون صادراً عن الدولة جاز للدولة القيام بواجبات التعديل والتغيير والإلغاء وفقاً لسياستها ولجديد توجهات ساستها، فالسياسة لا تقتصر على النزاهة في صرف المال العام على ما يحسب الإسلاميون، وهم معذورون إذ لا سياسة فعلية في بلداننا! ولا ينبغي في حال قيام الدولة بتعديل القانون الرد على ذلك بثبوت النص على القاعدة ثبوته في موضوع إرضاع الكبير أو بول الرسول، فليس النص هو القاضي على صلاحية القاعدة بل رأي الجماعة في سبل تحقيق مصلحتها. وهذا أول شرط لقبول القاعدة الدينية الإسلامية في المنطق القانوني، أي قبول الإسلاميين بإمكانية التراجع عنها إذا ما شاءت الجماعة ذلك، وإلا وقعنا في ديمقراطية المرة الواحدة والقواعد الخالدة على غرار ما نعرفه من رسائل (ومن أنظمة) تخال نفسها سرمدية.

من جانب آخر، يعني ترابط القواعد القانونية تشكيل القانون لنظام متكامل وتراتبي، يسلط المبادئ الدستورية والمعاهدات الدولية على القواعد الداخلية، ويحدد المبادئ كما يحدد الاستثناءات عليها. فالقواعد القانونية ليست سواسية كأسنان المشط، بل فيها ما يستوجب التقديم والتأخير والتمهل في التطبيق أو حتى تأجيله أحياناً، ومنح سلطة التطبيق لمؤسسات متفاوتة كالقضاء العدلي والإداري والمؤسسات الرقابية المختلفة. فلا تجتمع سلطة التطبيق في يد واحدة. يعني هذا شرطاً ثانياً لقبول القاعدة الدينية في النظام القانوني، ألا وهو خضوع القاعدة الداخلية للمبادئ المتفق عليها في الدستور، وكذلك لالتزامات الدولة على الصعيد الدولي، وهي في أغلب الدساتير تعلو القانون الداخلي. في هذه الحال، يصبح تطبيق الشرعات والمواثيق الدولية مانعاً لأغلب الحدود، بما أنه يمنع القصاص البدني، فضلاً عن أنه يكفل حرية الرأي والمعتقد.

وليس فقط الخضوع لهذه المبادئ المكتوبة، بل أيضاً لمبادئ متفق عليها لكونها تشكل أساس المنطق، أي عدم التناقض، والوضوح في التحديد، والحكم على ظواهر الأمور بالأدلة الثابتة. فلا يمكن تالياً الجمع بين "لا إكراه في الدين" و"من بدل دينه فاقتلوه"، ولا الحكم على النوايا والمضمر. كما لا يمكن، أخيراً، توقيع عقوبة على جرم غير محدد، أو محدد بصورة تمنع تعريفه بدقة. إلا أن المبرّزين في هذا المجال الأخير ليسوا الإسلاميين، بل الأنظمة العربية الحالية، التي لا تتورع عن الحكم على المعارضين بتهم "إضعاف الشعور القومي"! أو "تغيير كيان الدولة الاقتصادي والاجتماعي"! (انظر آخر إبداعات المحاكم الاستثنائية في سوريا، ولا شك أننا لو نظرنا إلى سواها لرأينا أننا كلنا "في الهم شرق").

نخلص إلى القول تالياً أن صدور القانون بصورة شكلية سليمة لا يعني سلامته لناحية المنطق القانوني، كما أشرنا في الحالة السورية. والتعديل الدستوري المصري الذي فرض فيه السادات اعتبار الشريعة مصدراً للتشريع مثال آخر لأنه سليم شكلاً، لكن نتائجه كارثية على صعيد المنطق القانوني، لأنه يضع تشريعين متنافسين، بدل الاكتفاء بالإعلان عن حق الدولة في أن تستمد من الشريعة الأحكام التي تناسبها.

ونخلص إلى القول من ثم إن من الطبيعي أن تستمد المجتمعات أحكامها من إرثها وما ألفته زمناً طويلاً أو مما تعتنقه، لكن إدخال هذا الإرث المألوف، أو المستعاد أو حتى المتخيل، إلى إطار القانون يستوجب إخضاعه لمعالجة جذرية تجعله يقبل بشروط هذا الإطار الجديد ومنطقه. يتطلب هذا من القائلين بأن العودة إلى الإسلام هي الحل أن يتقدموا، ليس فقط بمشاريع قوانين واضحة ومحددة ومقنعة تشير إلى تفاصيل هذا الحل المقترح، لا إلى مصدره السماوي، وأن تسفر عن نشاطهم هذا مراجعة تقودهم إلى القبول بإمكانية التراجع عما يقترحون، حتى بعد إقراره، إذا ما ارتأى المجتمع ذلك، والانتباه أخيراً إلى أن الدولة هي مصدر التشريع، وهي ليست دولة منعزلة على كوكب آخر، بل هي ذات التزامات دولية ينبغي احترامها والتوفيق بينها وبين المشاريع المقترحة على قاعدة مبادئ المنطق العقلي الثابتة، لا الحكمة الإلهية التي لا تُطال ولا تنال، ولا نملك شيئاً حيال مكرها.

أخذ المكان على محمل الجد



القانون والمكان والمجتمع في إسرائيل المعاصرة
أخذ المكان على محمل الجد




لأسباب كثيرة يفترض بنا دراسة الفكر القانوني وعلاقته بالتنظيم الاجتماعي في اسرائيل، خاصة ونحن على مشارف مفاوضات جديدة قد تفضي، إذا ما أفضت، إلى تقاسم سيادي في بعض المناطق أو تبادل لأخرى، الأمر الذي يطرح قضايا عويصة على الصعيد القانوني والتنظيمي والإداري. إلا أن هذا السؤال ضروري ايضاً وملح، حين نعلم أن لطلب اسرائيل ان يصير الفلسطينيون فنلنديين ديمقراطيين قبل الالتفات إلى التفاوض معهم سوابق في تعاملها مع البدو العرب، ومع اليهود العرب من اهلها. وهذه القيود ستنسحب ايضاً على أي محاولة لاحقة للتفكير في وضع "عرب إسرائيل" في نظر سائر العرب ودولهم التي تبدو مجتمعاتها وكأنها تطالب وتغذ السير للوصول إلى وضع الغيتوات التي فر منها يهود أوروبا ليفرضوها على مجموعات بعينها في داخل دولتهم العتيدة. من بين الأسئلة التي قد يطرحها المرء هذه التالية: لماذا يستمر الفشل الدراسي عالي النسبة في أوساط اليهود من أصول عربية، ولماذا يستمر الفصل في المدارس بينهم وبين اليهود من أصول أوروبية، رغم جهود الحكومة الإسرائيلية؟ ماذا تعني تجمعات بدو النقب وتجاور بؤسهم مع ترف المستوطنات اليهودية القريبة؟ ولماذا تنقسم المحكمة العليا الإسرائيلية حول مطالب اليهود المتطرفين في القدس بإغلاق طريق سريع يمر بين ظهرانيهم احتراماً للسبت؟ وما الجامع بين هذه الأسئلة وبين الايديولوجية الصهيونية المؤسسة لدولة إٍسرائيل؟

يطرح إساشار روزن ـ زفي هذه التساؤلات في كتابه " أخذ المكان على محمل الجد: القانون والمكان والمجتمع في إسرائيل المعاصرة" (دار اش غايت، 2004، بالانكليزية، تجدر الإشارة إلى أننا سنترجم Space بـ "مكان" باستثناء الإشارة إلى "الفضاء السياسي"). ويقول روزن ـ زفي بأن الإجابة عليها تتطلب "صرف الأهمية من المعطى المكاني إلى التنظيم والمعنى المكانيين" بحسب ما ينقل عن ادوارد سوجا، أي العناية بالطريقة التي بها يُبنى المكان ويُتخيل ويُقوّى ويُعارض. فكما يقول ريتشارد فورد فإن "المكان، كما نختبره هو، بطرق عدة، ليس الإطار الثابت، بل النتيجة للتفاعلات الاجتماعية، والمفاهيم الايديولوجية، وبالطبع للعقيدة القانونية وللسياسة العمومية".

يحاول المؤلف إذن لرد على التساؤلات المطروحة بدراسة العلاقة ما بين القانون والمكان في إسرائيل، متابعاً الفصل الذي يجريه فورد حول النظرة القانونية إلى المكان، المتأرجحة بين فهمين خاطئين له: "المكان الشفاف" و"المكان غير الشفاف".

المكان الشفاف: اليهود العرب

بحسب الأرقام التي يوردها المؤلف فإن 16.7% من اليهود ذوي الأصول العربية يتابعون دراسة جامعية مقابل 51% من اليهود ذوي الأصول الأوروبية، و42% يتركون الدراسة قبل نهاية المرحلة لاثانوية مقابل 22% فقط من الأشكيناز. كما يورد أيضاً أن معظم المزراحيم (اليهود ذوي الأصول العربية) يتلقون تعليمهم في مدارس مهيئة "لذوي الاحتياجات الخاصة"، أي أن التعليم فيها يتم على اساس مقررات أبسط وأفقر، مما يؤدي عملياً إلى فصل واضح ما بين المزراحيم (أو السفارديم) والأشكيناز. وبالرغم من أن ردم الهوة ما بين أبناء إسرائيل ـ بحسب رئيس لجنة التربية في الكنيست ـ هدف وطني شديد الأهمية، ورغم أن سياسة الدمج هي السياسة الرسمية المعلنة، إلا أن الفشل المتواصل رغم كل الجهود، قد دفع بالجميع إلى اليأس عملياً، كما يقول روزن ـ زفي.

أسباب الفشل متعددة بالطبع، لكن أهمها، بحسب المؤلف، هو القانون الذي ينظم الدوائر التعليمية ويربطها واقعاً بالسلطات المحلية، وكذلك دور المحكمة العليا الحريصة على تطبيق القانون دون اعتبار للواقع المكاني الذي سيطبق فيه أو عليه.

فالدوائر التعليمية في إسرائيل مرتبطة، إلا استثناءات قليلة، بقاعدة قانونية تقول بإرسال الطالب إلى مدرسة لا تبعد عن منزله أكثر من كيلومترين، وترتفع المسافة المسموح بها إلى ثلاث كيلومترات لطلاب الثانويات.

وإذا ما بدت المحكمة العليا الإسرائيلية طرفاً مناضلاً من أجل إزالة الفصل الدراسي بين المزراحيم والاشكيناز، لا سيما من خلال رفضها طلبات الأشكيناز بالسماح لهم بالدراسة في مدرسة مختلفة عن تلك، المدمجة، التي عينتها لهم الدائرة التعليمية التي يقطنون في إطارها، فذلك، في الواقع، لأن طلباتهم كانت تعارض قاعدة الكيلومترين هذه. فالدور الحقيقي للمحكمة العليا يتبدى في رفضها طلبات أبناء المزراحيم بالانتقال إلى مدرسة جيدة المستوى، مدمجة أو غير مخصصة لذوي الحاجة إلى معاملة خاصة، بالدرجة نفسها. أي رفض أي خرق لقاعدة الكيلومترين.

فالمحكمة تتعامل مع تقسيمات الدوائر التعليمية مكانياً كتعاملها مع تقسيمات إداري بحتة تجري، لأسباب متعلقة بالفعالية ليس إلا، على أرض غير ذات صفة. تقسيمات تحدث في مكان شفاف ومتناسق في كل نقطة منه، مما يجعل الأمكنة المقسمة متساوية تماماً، بالضرورة، ويفقدها أي مبرر لإعادة النظر فيها.

إلا أن الواقع مختلف، فمنذ الهجرة الكثيفة لليهود العرب في الخمسينيات من القرن الماضي، توافقت هذه الهجرة مع حاجة إسرائيل إلى تملك المكان من خلال التواجد السكاني في الشمال (الجليل) والجنوب (النقب)، وحول المدن الاسرائيلية وفي البيوت العربية التي هجّر سكانها. أي أن ثمة فصلاً تاريخياً في الإقامة ما بين المزراحيم، سكان ما سمي بالمدن الجديدة في الشمال والجنوب والضواحي، وبين الاشكيناز، سكان المدن في الأساس ومن ثم سكان الضواحي الجديدة.

وبالتالي، فإن المفاعيل الحقيقة لقرارات المحكمة العليا الإسرائيلية جاءت بعكس سياستها المعلنة، وكانت سيفاً ذا حدين، أدى إلى اغلاق الدوائر التعليمية وفصلها عن بعضها، وأغفلت المحكمة رؤية الرابطة ما بين الفصل في الإقامة والفصل في المدارس. أي أن نظرة المحكمة إلى التقسيمات، في وصفها محض إدارية، تعمل في مكان شفاف، كانت في الواقع تعيد إنتاج الفصل المشكو منه وتعمقه. إلا أن هذه النظرة ليست بديهية، أو متلازمة بالضرورة مع فكرة القانون.

المكان غير الشفاف: البدو العرب

في قضية ساعدة، المتعلقة بقرار وزير الداخلية الإسرائيلية بضم قرية بدوية إلى دائرة قرية أخرى، يقرأ روزن ـ زفي انتقال المحكمة العليا الإسرائيلية من رؤية إلى المكان في وصفه شفافا (وهو ما يستتبع حق وزير الداخلية في تغيير التقسيمات الإدارية حقاً مطلقاً، كما لو أن لا معنى سياسياً واجتماعياً لهذه التقسيمات) إلى المكان في وصفه غير شفاف. فالمحكمة تشرح وتبرر قرارها بذرائع أن القريتين بدويتان، تتشاركان في الخلفية الاجتماعية والثقافية والديموغرافية، مما يسمح في المستقبل بدمج القريتين في واحدة. أي أن المحكمة تبرر قرارها من خلال العودة إلى ما هو دون السياسة والقانون، أو قبلهما، أي ما هو خارج في جميع الأحوال عن نطاق سلطتهما.

يعود المؤلف إلى تاريخ السياسة الإسرائيلية تجاه البدو العرب في النقب. ضمن ألعاب بهلوانية قانونية ما بين القانون العثماني (الذي يعتبر الأرض الموات ملكاً للسلطنة، إلا أنها لمن يحييها) والقانون البريطاني (الذي فرض تسجيل الأراضي في فترة محددة)، استملكت إسرائيل معظم أراضي البدو العرب ونقلتهم منها إلى شرق بئر سبع، داخل منطقة مغلقة عليهم، عادت فاستملكت نصفها. وفرضت عليهم السكن والبناء في بلدات محصورة الأراضي. والحال اليوم، فإن البدو العرب يشكلون 25% من سكان النقب، في حين تبسط سلطاتهم المحلية سيطرتها الإدارية على1.5% فقط من أرض النقب.

تم تفضيل مشروع البلدات هذه على مشروعي القرى الزراعية أو المدينة الكبيرة، لئلا يتمكن البدو من الانفصال عن دورة الاقتصاد الإسرائيلي. وليست سياسة إعادة إسكان البدو سياسة خيرية، تهدف إلى تحسين أوضاعهم، بل هي في الواقع وسيلة لإنشاء طبقة عاملة رخيصة، وهي أيضاً وسيلة، بحسب روزن ـ زفي، لتكوين الذات الإسرائيلية من خلال وضع الذات الأخرى، البدوية الفقيرة المتخلفة، مستقلة بإزائها. فالتقسيمات الإدارية وسيلة لتغطية الفصل العنصري الواضح، ولقسمة البشر مجموعات مغلقة. فالدائرة الإدارية هي، بحسب فورد، وسيلة لفهم العالم الاجتماعي وموقع المرء منه. والتقسيم الإداري يهدف إلى اظهار التعامل غير العادل مع فئة اجتماعية على انه ليس عداءً شخصياً يستهدفها، بما انها تعامل على قدم المساواة مع غيرها، متجاهلاً اختلاف الإمكانات وتفاوتها بين الدوائر. ونجاح هذه السياسة الأقصى يتجلى أساساً في مطالبة كل من الفريقين بالإستقلالية في دائرة خاصة به.

عملياً، نجحت إسرائيل عبر قانون البناء في نقل الصراع من صراع حول الأرض إلى صراع حول شرعية لابناء، ومن نزاع جماعي إلى جماعة من النزاعات الفردية. فالمحكمة تنظر إلى القضية دائماً في اللحظة الراهنة، لا في سياقها التاريخي، ومن نقطة القبول بشرعي القانون نفسه.

كما نجحت الدولة الإسرائيلية في تذرير العشائر البدوية غبر رفع عددها باعتبار كل عائلة موسعة عشيرةً، ما زاد خصوماتها، وعبر فرض إعلان كل فرد عن انتمائه إلى احداها.

كما أن المحكمة أفلحت في تجاهل القانون نفسه عبر التركيز على تفاصيل المهن وأذونات البناء... الخ، وكثيراً ما كانت المحكمة العليا ترى التقدم والحداثة في هذا التمدين القسري وتعاقب البدو على رفضه. صحيح أنها كانت، في حالات نادرة، تعاقب الدولة الإسرائيلية على عدم وفائها بالحد الأدنى من وعودها به، إلا أن ذلك، في الواقع، يهدف إلى اضفاء الشرعية على القوانين والقرارات الأخرى. فعلى ما يقول رونن شامير، فإن مصدر شرعية السلطة، في دولة بيروقراطية حديثة إنما هو وجود نظام قانوني شكلاني يبرر ويعقلن علاقات السيطرة ويخلق ارتضاءً إرادياً بها لدى المحكوم. والمحكمة بإداناتها، القليلة، للحكومة تشرعن قوانين الدولة، وقبلها قراراتها الخاصة التي غالباً ما أتت ترفض طلبات البدو وتدينهم.

تتجلى في هذا الإطار نظرة المحكمة العليا، والقانون في شكل عام، إلى الفضاء السياسي للبدو، (أي المكان بالإضافة إلى السلطة المحلية عليه) في وصفه تعبيراً، لا عن دائرة إدارية موّلدة أو توافقية تنشأ لأسباب منفعية فقط، بل تعبيراً عن دائرة عضوية أصلية، لا تنشئها الدولة بل تكتفي بالاعتراف بها. وتملك هذه الدائرة، بحسب هذه النظرة، القدرة والحق في الدفاع عن نفسها باسم الاستقلالية وحق تقرير المصير والحق في الاختلاف وفي حماية الثقافة الخاصة.

يتبدى عبر ذلك أيضاً خطأ شائع ومنتشر، لا سيما في أوساط اليسار التقدمي، هو المبالغة في إعلاء شأن الاختلاف. فيلاحظ المؤلف أن النظام العشائري البدوي الحالي هو نتيجة لضغط السلطات الإسرائيلية المتواصل عليه، وليس معطى طبيعياً ناجماً عن تطور الثقافة البدوية من تلقاء نفسها. وهو ينقل عن فرانز فانون قوله بأن الاستعمار يغلق تفتّح الثقافة التي كانت حية ومعاشة قبله، ويجمدها في قالب أنظمته بحجة احترام التقليد. وهذه هي المفارقة نفسها التي وقعت فيها المحكمة الإسرائيلية العليا حين كانت ترفض السماح لليهود بشراء الأراضي داخل منطقة البدو المغلقة بحجة المحافظة على ثقافتهم، في الوثت عينه الذي كانت فيه تبرر اجراءات وقوانين الدولة حيالهم بالرغبة في تمدينهم ونفلهم إلى الحداثة، معتبرة هذه الإجراءات مؤقتة إلى حيت اكتمال عملية تحديث البدو.

على ما يلاحظ فورد، إن سياسة إعلان شأن الاختلاف هي استغلال لسمات الاختلاف من أجل "صناعة" الآخر، إذ أن الواقع هو بالطبع شديد الاختلاف عن الصورة المرسومة له.

المكان الملتبس: اليهود المتطرفون

اليهود المتطرفون المتجمعون في القدس وضواحيها، وفي بعض المدن الإسرائيلية الكبرى هم، على ما يلاحظ روزن ـ زفي، منقسمون في ما بينهم في محاولاتهم لإنشاء مجتمع خاص بهم، وحول مسائل الاستفادة من الدولة الإسرائيلية التي يرفضونها، من حيث المبدأ، وحول ضرورة الانقطاع عن الفضاء السياسي والاجتماعي الإسرائيلية. إلا أنهم جماعة في مواجهة غيرهم، وهم غالباً ما يتوسلون العنف سبيلاً لفرض حدود مجتمعهم الخاص، ومن وسائل ذلك إغلاق الطرقات التي تخترق مناطقهم في يوم السبات.

حول قضية اغلاق الطريق يوم السبت، دارت قضية بار إيلان، وهو أوتوستراد عام حيوي طالبوا باقفاله. وقد انقسمت المحكمة العليا الإسرائيلية حول هذه القضية، فكان صوت واحد هو المرجح من أصل سبعة أعضاء. رأي الغالبية، بإيجاز شديد، يقول بأن الاعتبارات الدينية يؤخذ بها كأضرار قانونية وأن على اسرائيل الديمقراطية أن تحمي روح ومشاعر مواطنيها كما تحمي ممتلكاتهم، وأن اسرائيل اليهودية معنية متى تعلق الامر بيوم السبت، كما ان على الدولة أن تضمن حق المواطنين بالتنقل. لذا ينبغي الموازنة بين الحقين: حق التنقل، وحق احترام المشاعر الدينية، وذلك على ثلاث فئات: المتطرفين، والسائقين العابرين، والساكنين بين ظهراني المتطرفين دون ان ينتموا إليهم.
في الموازمة ما بين المتطرفين القاطنين وبين السائقين العابرين، ينبغي مراعاة شعور المتطرفين، لأن أمام السائقين طرقاً بديلة يعبرون منها، ولأن وقت اقفال الطريق قصير نسبياً. لكن حق القاطنين غير المتطرفين ينتفي بالكامل من جراء اقفال هذه الطريق، وله في هذه الحال الأولية. لذا تقبل المحكمة قرار وزير الداخلية باقفال بارايلان يوم السبت بشرط أن يحل مسبقاً مشكلة تنقل القاطنين من غير المتطرفين.

أما رأي الأقلية فكان يقول بأن لا مجال لأخذ ما لا يوجد نص عليه في القانون، كالدين، بعين الاعتبار. ولا نص على الدين في شان الطرقات. ذلك على الأقل في ما يتعلق بالطرق الكبرىـ أما الدروب الثانوية فيمكن للسلطات المحلية أن تأخذ في تنظيمها وضع الجماعة فيها.

يقدم روزن ـ زفي تحليلاً ايديولوجياً لهذه الآراء، فيرى أن رأي الغالبية ينطلق من فكر ليبرالي يقيم فصلاً قاطعاً بين الدولة المحايدة تماماً وبين المجتمع المدني، وينظر إلى المواطن بصفته فرداً دون أن تتوسط المجموعات الاجتماعية بينه وبين الدولة. هكذا كان المتطرفون أفراداً لهم حقوق في مواجهة أفراد سائقين لهم حقوق أخرى. وبحسب دي سوزا سانتوس، فن الزمكان المحلي (شأنه شأن ذاك العابر للأمم) يعتبر غير موجود البتة من جانب النظرية الليبرالية المهيمنة، وهذا ما سمح بأن تصبح الدولة الأمة هي الزمكان الأكثر مركزية بالنسبة للقانون في القرنين الماضيين.

أما الرأي المخالف فينطلق من نوع من الفكر التعددي يقول بأن المر يتحدد، جزئياً على الأقل، بانتمائة إلى مجموعة ما. والمجتمع يتكون من تعدد مجموعات حرة في إطارها، وعلى الدولة التزام الحياد في ما بينها. أي أن هذه النظرية تحل المجموعة محل الفرد في النظرية الليبرالية. وهي (أي النظرية) إذ تقول بالفصل ما بين الحيز العام والحيز الخاص، فإنها تقبل بتوسيع حدود الحيز الخاص أبعد من حدود الفرد. وفي قضية بارإيلان يقول القاضي هيشين في رأيه المخالف إن ثمة حيزاً خاصاً للمتطرفين يشمل الطرقات الصغيرة بين منازلهم إلا أنه لا يشمل أوتوستراداً عاماً يظل ينتمي إلى الحيز العام.

في مفارقة جديدة، تقرر غالبية القضاة الموافقة، المشروطة، على مطالب المتطرفين، رافضةً الاعتراف بهم كجماعة، في حين أن القضاة المخالفين يقرون بوجود المتطرفين كجماعة لها الحق في حيز خاص بها، إلا انهم يرفضون الموافقة على مطالبها. ويخلص الكاتب إلى القول بأن الفكر اللبرالي ينظر إلى المكان شفافاً، في حين يراه الفكر التعددي غير شفاف.

النظرة القانونية إلى المكان والعلاقة مع الفكر الصهيوني

يرى المؤلف أن الصهيونية هي تقاطع خطابين، الأول عملاني ينشد حلاً لمشكلة اليهود عبر البحث عن أرض خالية من السطان، والثاني ثقافي ينشد من اوروبا الشرقية العودة إلى أرض الميعاد. وقد خدم الأول الثاني عبر افراغه ارض فلسطين من سكانها نظرياً قبل أن يصبح ذلك فعلاً. هكذا ينبغي رفض الآخر، المقيم في مكان منقطع عن مكان الذات، قبل أن يتم اقصاؤه وملء الفراغ بالانا المؤسسة جديداً.

هكذا يقع المؤلف، ببساطة مستغربة، على تفسير لتفاوت النظرة القانونية إلى المكان في المسائل التي عرضها، في جدلية بسيطة: الأنا/الآخر، الانوار/الشرق. هكذا ينبغي اقصاء البدو وإنشاء مدن لهم في آن واحد، لعزل الآخر عن الأنا ولنصبه بإزائئها، وهكذا يتم اقصاء العرب من المكان اليهودي حيث لا يمكن القبول بهم إلا بشرط تجريدهم من كل تاريخ واختلاف.

هكذا ايضاً يقع اليهود الاوروبيون القادمون من عصر الأنوار على يهود عرب شرقيين فيرونهم متخلفين، جاهلين ومتوحشين. إلا أن كونهم يهوداً يظل يدفع باتجاه ساتيعابهم وتمثلهم وتحويلهم إلى أوروبيين.

في الوقت الذي كان فيه "الغريب" الفلسطيني يطرد ويطارد ويشجع على تعميق اختلافه، كان السعي إلى تنقية اليهود العرب من عروبتهم وشرقيتهم من اجل استيعابهم داخل الأنا.

إلا أن الحقيقة تظل، بحسب ما يعبر ساندر غيلمان، أنك "كلما شابهتني أكثر، عرفت القيمة الحقيقية لقدرتي، التي تريد نشاركتي بها، وتنبهت أكثر إلى كونك لست سوى مقلّد، مزيّف، دخيل". أو ما يسميه غيلمان، اللعنة المحافظة المهيمنة على المشروع الليبرالي الساعي إلى تمثّل الآخر. في حين يقيم الآخر ـ العدو في مكان منقطع عن مكان الذات، فإن على مكان الذات أن يكون موحداً ومتناسقاً. وهكذا ينظر إلى أي تقسيم له على انه تقسيم بيروقراطي نفعي ليس إلا. وإذ يرفض القانون النظر إلى تاريخ وواقع الفصل في توزيع السكان، فإنه في الواقع يعمق ما يصفه الكاتب بـ"الفصل الاثني"، ويخلقه في آن ماً بالتعاون مع الفصل السابق في الإقامة.

أما التباس الرؤية إلى المكان في قضية اليهود المتطرفين فذلك عائد إلى التباس النظرة إليهم. فهم بالنسبة إلى الصهيونية "غريب" لا يقبل التصنيف النهائي إلى عدو أو صديق. فهم معادون للصهيونية على اعتبار أن الخلاص يكون بتدخل الهي لا بعمل بشري، لكنهم في الوقت عينه "الأنا" اليهودية الأكثر تمسكاً بعنصرها هذا.

يشير المؤلف إلى ان اختلاف الحلول القانونية أدى عملياً في كل الحالات إلى عيش هذه الفئات (العرب المنبوذون ـ اليهود العرب المرغوب في ضمهم ـ اليهود المتطرفون زارعو الحيرة) في مناطق عزل وانقطاع عن سواها. ويقول إن استبدال الأسس الصلبة، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بالأسس الرخوة للرمزي والثقافي في الخطاب التعددي، الذي يدافع في واقع الأمر عن هذا الانفصال السكاني ويبرره بالخصوصيات واحترامها، يؤدي إلى غياب القدرة على تحديد الفئات الخاضعة والفئات المهيمنة في المجتمع.

فالفئات المهيمنة تستفيد من استقلالية دائرتها التي تمنحها نفوذاً وتأثيراً لا تملك وسائلهما الفئات الخاضعة التي يحول الاستقلال دائرتها إلى معتقل. فالمعاملة بالتساوي قد تنتج مفاعيل مختلفة. ويضيف إن النظام الديمقراطي هو في مفاوضة دائمة ما بين وحدة الشعب المدمج وبين احترام وحماية الفئات الاجتماعية والمجموعات ومناطقها. فهل يمكن تجاوز هذه الثنائية؟

إعادة النظر في مفهوم السلطات المحلية

يقول روزن ـ زفي بضرورة تغيير وظيفة الفضاء السياسي ومعناه، عبر اصلاح قانوني، وتغيير المفهوم الاجتماعي للمكان، دون أن يكون في ذلك مس بالضرورة بإقامة أي فرد. وهو يرى ان نزع العزل في الفضاء السياسي سيؤدي على المدى الطويل إلى عملية دمج مكانية، لانتفاء الفائدة من العزل أولاً، ولأن الفضاء السياسي، ثانياً، لا يكتفي بعكس الوقائع كالمرآة بل ينتجها. هكذا فإن أي تغيير في المعنى السياسي للفضاء، بحسب فورد، يؤدي إلى تغيير هوية الجماعة الثقافية نفسها.

بعد دراسة للتقسيم الأداري للسلطات المحلية في إسرائيل وعلاقته بالمكان، شفافاً أو غير شفاف، يخلص المؤلف إلى القول بأن قانون السلطات المحلية يقود، في النهاية، عبر حرمان هذه السلطات من المعنى السياسي باعتبارها محض إدارية، وعبر الإصرار على وجودها المستقل، بل والسابق، معاً وفي آن، يقود كل ذلك إلى إعادة إنتاج تراتبية السلطة والفصل السابقين.

لذا يقترح إعادة نظر في موضوع السلطات المحلية، مستوحياً أعمال فورد (جعل الحدود أقل عزلاً) وفروغ (زيادة القدرة التشريعية للمشرّع المحلي بهدف زيادة المشاركة الديمقراطية) وبخاصة هارفي وبريفو (نظرية الحكم الإقليمي حيث يكون الإقليم نوعاً من سلطة محلية لمنطقة المتروبول وضواحيها، لما في ذلك من اخذ بعين الاعتبار لحقائق النقل اليومي والمساواة في توزيع العناية والخدمات العامة)، مشدداً في الوقت عينه على ضرورة الإبقاء على فكرة الحكم المحلي إذ أن المؤسسات المحلية، كما يقول توكفيل، "هي للحرية كما المدارس الابتدائية للعلوم. إنها تضعها بمتناول الجمهور وتعلمه كيف يستخدمها ويسعد بها".

هكذا، يقترح روزن ـ زفي انشاء حكومات اقليمية قوية حول المناطق المدينية الكبرى، تتمتع بسلطات واسعة، وسلطات محلية يحق لأي مجموعة إنشاؤها دون إذن مسبق من الحكومة التي عليها أن تعترف بها. وهو بذلك يوافق على نظرية فورد بان الحدود التي تصنعها الممارسة هي التي تصنع "المحلي"، لكن روزن ـ زفي يربطها بنظرة أكثر جدلية بماء على حالة المجتمع اليهودي المتطرف السابق على الممارسة الحدودية. فالمهم في نظره هو إعطاء سلطة كافية لحماية المجموعة، لكن ليس السماح لها باقصاء الآخرين ورفضهم.

القانون ومنطقه

إما أن نقول بأن الحدود هي حصيلة مجموعة من الخيارات الفردية، تأتي الدولة بقانونها ومحاكمها لتقبل بها، أو تعدلها، وإما القول بأنها مجرد تقسيم ضروري إدارياً تجريه سلطة حكومية مركزية، لكن لا معنى سياسياً له. أو ان الحدود حصيلة قوى طبيعية (السوق، الطوبوغرافيا، الجماعة)، سابقة على السياسة والقانون العاجزين عن التأثير عليها تالياً.

يشدد روزن ـ زفي على خطأ هذه النظرات إلى المكان والدوائر أولاً، لأنها، بطرق مختلفة، تحمل على الظن بأن الدوائر كلها متساوية (إذ تقوم كلها على مبدأ واحد مما ذكرنا) علماً بأنها لا تملك الوسائل والإمكانات عينها. وثانياً، لأن هذه النظرات تغفل التأثير السياسي والإجتماعي للقرارات القانونية نفسها.

والحق، إن الكاتب يقع في الخطأ الذي ينبه إليه. فإذ يكتب في المقدمة إن هدف دراسته هو تفحص العلاقة بين القانون وبين انتاج المكان وتمثيله في الإطار القانوني، فإنه يعود لينظر إلى القانون وكأنه مجرد انعكاس لنظرة خارجة عنه (الفكرة الصهيونية) يعتبرها الوحيدة المؤثرة، ويؤدي ذلك عملياً إلى حصر الدراسة بكيفية تمثل القانون للمعطيات المكانية والاجتماعية، وهي كيفية مشروطة بالنظرة الصهيونية، في إغفال لدور القانون في انتاج هذه المعطيات منذ البدء، وليس فقط في تعميقها وتأمين استمراريتها. فكأنها القانون مرآة تعكس الفكر الايديولوجي المهيمن فحسب، دون أن يكون له منطقه الخاص. وذلك رغم تذكيره برفض رونن شامير تفسير القانون (حول استملاك اراضي البدو) بجشع الصهيونية إلى الأرض، فقط، أو أي سبب سياسي خارج عنه، وضرورة ربطه بمنطق القانون الداخلي، أي، في حالة إٍسرائيل التي ورثت القانون البريطاني "الحديث"، هوس القانون بالثبات والقدرة على احتساب الأمور والأشياء، بما يفرض "شبكة مفاهيم على المكان ـ مكان سوف يقسّم ويجزّأ، ويسجّل ويقيّد".

هكذا يغفل روزن ـ زفي الإشارة إلى منطق القانون "الحديث"، المختلف عن القانون العثماني اختلافه عن القواعد القانونية لدى القبائل الافريقية أو الجنوب ـ أميركية مثلاً، وصعوبة تطبيقه على مجتمعات ذات رؤية مختلفة إل قضايا الملكية العقارية والإرث والنسب على سبيل المثال.

وغفل أن من منطق القانون "الحديث" الأوروبي، تذرير النزاعات الجماعية إلى نزاعات فردية، وإغراق الحق بمجموعة من القواعد الإجرائية غالباً ما تقود إلى إنكاره. ويغفل طبيعة كتابة القرارات القانونية الصادرة عن المحاكم. فالتبريرات التي تقدمها المحكمة الإسرائيلية العلي (ضرورة الحفاظ على ثقافة البدو ـ ضرورة تمدين البدو ـ النظرات إلى مجال الحيز العام ـ ضرورة ردم الهوة التعليمية في إسرائيل... الخ) ما كانت لتبدو ممكنة في نظام قانوني أوروبي قارّي (كما في فرنسا أو ألمانيا)، حيث أن النظام الأنغلو ـ ساكسوني يسمح للقضاة بتبرير قراراتهم بأسباب متنوعة، بما أن هذه القرارات ستشكل سوابق قانونية، في حين أن النظام القاري يفرض على القضاة تطبيق القانون كما هو، أو تفسيره، واستثناءً استكمال قواعده الناقصة عبر اعلان قواعد قانونية، دون اللجوء إلى استدخال أسباب اجتماعية أو تاريخية أو سوى ذلك (ولا يعني هذا أنها لا تغيب عن نفس القاضي، إلا أنها تدخل أكثر في إطار النقاش العام والأسباب الموجبة للقوانين المكتوبة). في الواقع، القانون ليس مجرد سلاح بيد السلطة، أو مرآة للأيديولوجية، بل هو أيضاً ثقافة في حد ذاتها تملك منطقها المتطور باستمرار.


المواطن العربي ومعاني المكان

ثمة أهمية استثنائية لدراسة العلاقة في إسرائيل تحديداً ما بين القانون والمكان. ليس فقط لأهمية "فكرة" القانون التوراتية في الفكر الأوروبي الذي يشكلنا من جوانب كثيرة. بل أيضاً لأن النزاع على ارض فلسطين، ومسألة القدس تحديدا، فضلاً عن قابلية الدولة الفلسطينية للعيش، مسائل تظرح بشدة ضرورة إعادة النظر في مفاهيم السيادة والأرض والحدود، وتفكيكها.

كما تطرح مفارقة إسرائيل، "قلب أوروبا" بحسب أحد الكتاب الشهيرين، مسألة الحد الذي يمكن ان يبلغه تطور القانون "الأوروبي"، بخاصة في ظل المفارقة التي تربط المواطنة بفكرة المكان والإقامة من جعة، وبالخصوصية الدينية المنتشرة في العالم من جهة أخرى (وهو الموازي الإسرائيلي للتقسيم الفرنسي لانتقال الجنسية بالدم أو بالمكان ولادةً وعيشاً). وكذلك مفارقة إٍسرائيل في الإصرار على يهوديتها وديمقراطيتها معاً وفي آن، وهي المشكلة عينها في العديد من البلدان العربية، وحتى في أوروبا إذا ما وسعنا مفهوم المواطن ليشمل المقيم (وهو مسار جار في داخل الاتحاد الاوروبي).

في شكل ما إذاً، تشكل دولة إسرائيل مختبراً يسمح بطرح واستجواب عدد من المسائل الهامة، التي لا مجال لبحثها هنا. نكتفي إذاً ختاماً بالإشارة إلى نقطتين، الأولى في ما خص "المواطن غير المقيم"، والثانية في ما خص مطالبات الفئات الإجتماعية في بلادنا بالتقسيمات الإدارية ومعانيها السياسية المضمرة.

في شأن النقطة الأولى، يلاحظ إدوارد سعيد إن إسراائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي هي ليست دولة مواطنيها بل دولة اليهود في كل العالم. ذلك بالطبع مفارق مع ما هو معروف من ارتباط اسرائيل الوثيق بمفهوم الأرض. ولكن أليس ذلك أيضاً حال بلد مثل لبنان، حيث لا يهدأ التغني به، أرضاً وجبلاً وبحراً، في حين أن قسماً كبيراً من "المقيمين" فيه محرومون من أبسط الحقوق (راجع أيضاً ما اشارت إليه الصحف من طرد إمارة دبي لأربعة آلاف عامل في قطاع البناء لانهم جرؤوا على الإضراب مطالبين بتحسين ظروف عملها وأجورهم). أيضاً يحلم "بعض" اللبنانيين بأن تكون دولتهم دولة "ملايين اللبنانيين" المنتشرين في العالم، وهم بهم فخورون! وتطرح قضية اقتراع المهاجر في المواسم الانتخابية والمقصود بها فعلياً، إذا ما شئنا حقاً احداث تغيير في الموازين، اقتراع أحفاد المهاجرين ممن لم يعودوا يحملون الجنسية اللبنانية. والسؤال عندئذ يتعلق بمن هو "المواطن"؟ (الهجرة العراقية الكثيفة المستمرة منذ ثلاثين عاماً تطرح الأسئلة عينها وبضخامة أكبر). هل يمكن في واقع الأمر قلب العلاقة ما بين الدولة ذات لاسيادة وبين المواطن، تحديداً عبر التفكير في "ندرة المواطنين" (بخاصة بالمقارنة مع المقيمين من غير حملة الجنسية المحلية) والتساؤل عن مفاعيل هذه الندرة على دولة المواطنين؟

النقطة الثانية على مستويين: الأول إداري هو ضرورة التساؤل عن الخطوط التي ينبغي أن تقود المطالبات باللامركزية الإدارية، بهدف التخفيف من عيوب تمركز السلطات في أنظمة بعيدة عن الشفافية والنزاهة، وذلك في ظل تضاعف حركات النقل اليومية، واستمرار النزوح إلى المدن وتوسع الضواحي و"العشوائيات". والثاني انتخابي يدور حول تقسيم الدوائر الانتخابية وما يطالب به البعض من "أقاليم" وحكم ذاتي. فقد رأينا أن مثل هذه المطالبة تجازف بتحويل أهل "الاقليم" إلى معتقلين، واعاقة تطور ثقافتهم "المفترضة مشتركة" وحرمانهم من الانفتاح والمشاركة وإعادة انتاج التراتبيات والسلطات عينها. يمكن ايضاً ضرب المثل بلبنان، وهو محل ضرب كثير غالباً، حيث تتمسك الطوائف بفكرة القضاء للتمثيل الانتخابي، في حين أنه وسيلة للمطالبة باستقلالية الطائفة والدفاع عنها، بل والمطالبة باستمرار الفصل بينها وبين الأخريات، ويمكن السؤال عن جدوى ذلك حيث أن القضاء ليس معطى طبيعياً بل هو حصيلة تداخلات أبرزها تطابق القانونان الإداري والانتخابي بشكل يمنح "النائب" سلطة إدارية ليست من وظيفته التشريعية في شيء. ثم إن الهدف من كل ذلك إنما هو الاحتماء من الآخر وصيانة الذات منه، إلا ان الآخر هو ايضاً مصنوع بيد هذه الذات وليس معطى طبيعياً بدوره.

ببساطة إذاً يمكن القول بأن المطالبة بهذه التقسيمات الاقليمية أو القضائية، دون مسائلة أو حدود واصحة لتقاسم السلطات بين هذا المستوى من الإدارة وسائر المستويات الأعلى أو الأدنى، إنما هي الدليل الساطع على نجاح سياسات الفصل (التي نشكو منها وننسبها دوماً إلى "الاستعمار" قديماً وجديداً) وعلى رغبة هذه المجتمعات في تجذير سباتها وجمودها وانقساماتها.

بدلاً من ذلك، الا يسعنا أن نحلم بأن يكون تعريف الجماعة هو "تعايش الغرباء"، أي القدرة على العيش في عالم من مختلفين، دون محاولة صياغة اختلافهم أو محوه، بدل ان يكون تعريفها هو تكرار الأنا؟

الشارقة ـ باريس، أسطح المدينة


نشرت في موقع الأوان


الشارقة ـ باريس: أسطح المدينة

• الشارقة

ـ ليس السطح بالضرورة منبسطاً أفقياً.
زجاج المباني المغسول، اللمّاع دوماً، سطح يلتف على نفسه: ليس مرآة للناظرين، بل لنرجس لمعته الزرقاء.

ـ لم يكن ميسوراً لغلاف الكتاب أن يصير شاشة.
كان محو الكلمات ثمناً باهظاً للبياض.
لكن قد أمكن، باليد المنهكة، تثبيت صورة لا تبادل الأخريات انزلاقاً، سطحاً لسطح، وظهراً لظهر.
كان البياض الغالي قفلاً نتلصص من ثقبه، فيجلو لنا بؤرة البصر وعمقه.

ـ كانت المدينة ـ الإمارة تشبه سور نادي الزمالك.
لكن عشباً لم يكن وراء السور، ولا القاهرة أمامه.
كان السوق القديم يكرر حتى الإعياء واجهة الشواهق الزجاجية المتكاثرة.

ـ متحف 1: تلك الغرف المعتمة، تقف على النقيض من أخرى باهرة البياض. لئن كانت الأولى تشهد بثاً لا ينقطع من المشاهد فوق حيطان لا تُرى، فإن الغرف البيضاء لا تعدو الحلم بأفلام لا يمحوها الضوء، فتلونها بالخشب والملصقات من صور العائلة والصحف. في موازاة الشكل الثابت للأولى، والذي يبتلع كل ما يقدم إليه، تقف الاستعادة في الغرف البيضاء ثقباً أسود بدوره.

ـ كانت جنيفر تنوي استعراض "صراع العناصر" في تنافر الماء والزيت.
ما كانت ترى من كناية في ذاك. لم يكن الزيت أسوداً ولا الماء عذب المنبع المشرقي.
فتنتها كانت أسر الضوء داخل هذا الصراع: كانت تحسب أن للسطح عمقاً، يميّزه عن الشاشة وعن المرآة.
آه كم كان الانتقام رهيباً.
لقد هرست عجلات عربات التلفزة أداء جنيفر، ساحقة احتمال "صورة" تتشبث بمادتها ولا تعدوها، إذ لا تلتقطها كاميرا.
ما ليس يغرق في دفق الصور الموهومة وسيلها غير المنقطع يوأد حلماً.

ـ لم يقدنا اسفلت الطرقات الطويلة إلى أي صحراء. فقط أوصلنا إلى أرحامٍ مغبرّة تنتظر نطف البنائين.
في الانتظار، ليس من لحنٍ عابرٍ أهتزّ من باطني غلافاً لصداه.

ـ متحف 2: ليس كافياً أن يضم مكتبة أو يأوي حلقة نقاش للمشهود لهم، كي يخرج عن وصفه مستودع معاهدات الثقة والأمان، ومثوى الأعمال المعقّمة. كان لا بد إذاً من تقديم ما يفرّ منه... ما يحمله العابرون في حافظاتهم أو أيديهم... ما يقفز منه كالآملين بالنجاة من سفينة تغرق...

ـ كثيراً ما ردد صديقي دهشته لضآلة ما أنتجته جهود مثلثة أنفقت فيها أشهر طوال. لكنها تبدو إستراتيجية المجموعة، وإن غير صريحة: وحده ما لا يكلف حمله عبءً يستطيع حمله من ليس لهم إلا شبه وطنٍ لبناني يذرعونه بإلحاح، وهم في مكانهم، ككرات تكرج على سطح زلق.

ـ حين يتخفف الوطن من كل المشترك، ينبجس سؤال لم يكن ليخطر من قبل: هل يظل من الوطن سوى قطعة البسيطة هذه؟ هل هي سره الدفين؟
لا تسأل المدينة ـ الإمارة نفسها مثل هذا السؤال، فهي في حلٍّ منه ما دامت أرضها لا تنفصم لحظة عن مكنوزها. أما لبنان فيسأل، لأنه بات يبحث عن ملجأ أخير لكينونته، عن مبرر أخير للوجود.
في لبنان المحتلّ جواً وجوفاً، نتحصن بالثرى ونأوي إلى وجه البسيطة عله يعصمنا.


• باريس


ـ سبق لباريس أن طردت زجاج معابرها التجارية القديمة إلى ضاحية رجال الأعمال، أو رصفته هرماً يحاصره اللوفر. لكنها الآن تستعد لتستقبله في قلبها، في محور أسواقها، بساطاً يقي الأشجار والراقدين تحتها ماء السماء الدافق. باريس القرن الحادي والعشرين تعدنا بما يجاوز مرايانا، وتحلم بسماء خضراء.

ـ نادراً ما يفتح الباريسيون نوافذهم، أو يعرضون دواخلهم. لا عيون في جدران هذه المدينة، التي ترد إليك كرة أسرارك باستمرار.

ـ باستمرار، تتوسع مساحة باريس المحاصرة داخل جدار طريقها الدائري المقفل. لكنها لا تتمدد كبقعة زيت، بل كأخطبوط يمد أذرعه، شبكات المترو والقطار السريع، ليقطف قرى ومدناً راسخة عريقة. كل مقصد جديد فتح لا غزوة، وكل قطار يحمل الغنيمة: عشاق وآمال وعمال ورفاق.

ـ هي مدينة السينما. لا فقط لأنها اخترعتها، أو لأن ثلاثمائة فيلم تعبر شاشاتها كل أسبوع، ولا فقط لأن آلاف الأفلام تغلغلت في ثناياها وطواياها. هي مدينة السينما لأنها أصلاً أول من أثبت بالصورة القاطعة طابعها الشبحي. مدينة المعابر البانورامية، التي تصل ولا تصل... تماماً كالعين.

ـ تساعدنا باريس على تحديد تعريفٍ مثلث للمدينة:
إنها المتعددة الأسطح والطبقات، مركز شبكةٍ تجمع مواطن كثيرة في درع واحدة، وهي التي لا تنفك تبتلع مدافنها.

ـ يشتكي الكثيرون هنا من سقف السماء الواطئ الرمادي. يحتفلون حين تخترقه الشمس بنصالها، لتتلألأ على أمواج السين. لا أحد، على حد علمي، يأسى لغياب الأفق والشفق.
توهمنا المدينة، بشوارعها الطويلة، أننا لا نحيا في فقاعة، بل في المغامرة.

ـ ليست نجمة بعيدة ما يلوح بين الابتسامة والورق الصقيل للمجلة. إنها فقط رعشة المرآة الأليفة.

ـ يزعم ميرلو ـ بونتي أن كون الجسد مرئياً يمنعني من النظر أمامي كالنظر إلى مشهد سينمائي. أنا الرائي المرئي في حسبانه. لا عجب أنه كتب هذا الكتاب في الريف. ها هنا، لست مرئياً، ولا أكاد أرى لكثيرة ما تتقاذفني العمارات المرصوفة متواليات.

ـ يروي الصديق عن مدن مفتونة بشاشات البلازما، فتنة قبائل قديمة بأنواع من السمك أو من الفراشات، تجمع بين الرقة والعرض، مثل موسيقى شرقية قديمة نلجأ إليها بحراً نغرق في حنانه.

الفردية تحت شمس الرقابة


نشرت في موقع الأوان


تعقيب على تعقيبين أو ثلاثة:

الفردية تحت شمس رقابة ناقصة





على صفحة هذا الموقع، نقاشات ثرية سواء بين ياسين الحاج صالح وصالح بشير وبلال خبيز، أو بين ياسين الحاج صالح وأبي يعرب المرزوقي، ولئن كان موضوع المثقف والفردية طاغياً في النقاش الأول، في حين تناول الثاني تمريناً ذهنياً اقترحه الحاج صالح حول بناء الدولة على أساس العلمانية أو الأحكام الإسلامية، فإنني أحسب أن هنالك جذراً مشتركاً متقاطعاً في النقاشين، ينطلق من التصور الذي يعتمده كل منهم للتكوين المجتمعي، فئات أم أفراد.

لحسن الحظ، تغني روابط الانترنت عن التلخيص، إلا أن العادات الذهنية تفرض على الكاتب بعضاً منه بالحد الأدنى الذي يغفل بالتالي الكثير من الأفكار. يمكن إذاً التذكير بأن الحاج صالح اقترح علاقة تشطر الدولة كي تتضمن في داخلها اقليماً ذاتي الحكم، إسلامياً إذا كانت الدولة علمانية أو بالعكس. ورأى في نهاية تمرينه أن الناس سيفرون من المنطقة الإسلامية إلى المنطقة العلمانية فرار الألمان الشرقيين إلى ألمانيا الغربية. وهو ما رد عليه أبو يعرب المرزوقي مستشهداً بآية من القرآن تفيد بأن لكل جعلنا شرعة ومنهاجاً، ولا يمنع من تطبيق شرعات ومناهج مختلفة متفاوتة في الوقت عينه على شعب واحد. طبعاً يظل أن نفهم كيف يكون الظالمون من لا يحكمون بما أنزل الله! إلا إن كان ما أنزله ليس موحداً!

ما يعنينا من النقاش هو ملاحظة أن رهان الحاج صالح قائم على افتراض فردية في أشخاص "الهاربين"، لأنهم يهربون أفراداً، لا جماعات، بحثاً عن حرياتهم وراحتهم، وهو ما لا يثير في الأعم الأغلب حركات شعبية كبرى، لا سيما إذا كان مقصودها الفرار!

بالمقابل، لا ينظر أبو يعرب المرزوقي إلى "الشعب" إلا مكوناً من فئات، تكاد تتقطع سبل الانتقال ما بينها، إلا إن يكن "هداية" إلى الدين القويم الذي عليه الفئة الناجية. وهو حين يقول بتعدد الشرائع والمناهج المطبقة لا يترك للأفراد حرية اختيارها، بل ربما لا يعدو الإشارة إلى قواعد الذمية موسعة لتشمل العلمانيين!

أي أن الخلاف قبل أن يكون مسألة تنافر التعددية في الأحكام على شعب واحد، أو إمكانية تزامنها، هو خلاف في النظرة إلى هذا الشعب بوصفه مكوناً من ذرات أولى هي أفراد لدى أحدهما، وجماعات لدى الآخر. وكما أن تغيير الفرد لانتمائه لا ينزع عنه هذه الصفة، فإن الجماعة لا يمكن ايضاً أن تتغير جوهراً لأنها ليست إلا كناية عن جوهر يتجاوزها ولا يطاله التغيير، ذاك أنه ليس إلا فكرة مجردة.

في هذا الإطار أيضاً ينبغي فهم الالتباس في نقاشهما حول الحرية. إذ لم يزعم الحاج صالح أن الدولة العلمانية هي دولة الحرية المطلقة كما فهم المرزوقي الذي قرر، محقاً، بأن الدولة الدينية مثل الدولة العلمانية تغصان بالتقنينات والتشريعات الملزمة. لكن الفارق الذي يجعل من دولة العلمانية موئلاً للحرية يكمن في أن الحد من الحريات نابع من اختيارات "دنيوية" أو "شعبية" أو حتى "سلطوية"، يمكن تغييرها وتحريكها إن لم يكن هنالك من قبول بها، أما الدولة الدينية فتدعي خلود قواعدها واستقرارها إلى أبد الآبدين شاء من شاء وغُسِل دماغ من أبى إلى أن يقبل أو يموت. لكن تغيير تشريعات الدول الديمقراطية العلمانية، أو فرضها، ينطلقان أساساً من مصالح أفراد معينين ولو انضووا في مجموعات ضغط.

هذا يقودنا إلى النقاش الثاني، أي بين بشير والحاج صالح وخبيز، ومحوره العميق هو فكرة الفردية وإمكان إنتاج أفراد حقاً في المجتمعات. فما دامت الديمقراطية العلمانية في حاجة إلى تكوين مجموعات ضغط فهل يعني ذلك أننا مجدداً أمام نظرة تقسم المجتمع إلى فئات أو طوائف (حتى بالمعنى اللاديني كطوائف الحرفيين)؟

نقرر أولاً ونقر بأن لا مجال لممارسة ديمقراطية من دون تنظيم يجمع الناس على أساس مصالحهم. غير أن الفارق الأساس بين هذه النظرة الديمقراطية وبين النظرة الدينية، حتى المتطورة وفقاً لرؤية المرزوقي، يكمن في تنوع مصالح كل فرد، فقد يكون شاباً وعاطلاً عن العمل ومثلياً ومحباً لاستهلاك سلع خارجية معينة ووريثاً منتظراً لثروة ودارساً للحقوق في آن واحد، فينتمي تالياً على الأقل إلى ست مجموعات ضغط مختلفة إذا ما أراد، ويكون معنياً على الأقل بمصالح ست فئات مختلفة متنوعة ولا تختزل رغم تعددها المجتمع كله. الفارق الثاني هو طبعاً في تغير المصالح، فقد يتحول الشاب كهلاً، ومن وريث إلى ثري، ومن مطالب بفتح نقابة الحقوق أمام الشبان إلى مطالب بإغلاق أبوابها حذراً من المنافسة... الخ. أي أن الانتماء إلى فئات موضوعية، وإلى جماعات ضغط متى شاء، هو انتماء مؤقت دائماً ومتغير حكماً، ومتعلق في مطلق الأحوال بظروف الفرد وأيضاً بخياراته.

ونلاحظ ثانياً ارتباط فكرة مجموعات الضغط بفكرة القانون. إذ أن هدف المجموعة هو تحقيق مطالب ملموسة، وهو ما يتطلب إسدال العباءة القانونية عليها لأنها العباءة الوحيدة التي يمكن للدولة تنفيذ رسومها وتطبيقها. لكن هنالك بعض التبسيط في الزعم بأن القانون، في لحظته الآنية، هو ما يفرض تقسيم الناس إلى مجموعات ضغط أو إلى فئات ذات مصالح موضوعية في لحظة معينة.

في الواقع، يتعامل القانون تعاملاً ثنائي الاتجاه مزدوجاً مع "المواطن". فالمواطنة مفهوم يتضمن فكرة العلاقة المباشرة بين الدولة والفرد، فسيادة الدولة تكون حصيلة سيادات المواطنين الذين هم في نهاية الأمر من حصّل أجزاء السيادة المتناثرة من رأس الحاكم الالهي المقطوعة، وليس العكس. كما أن القوام السياسي للدولة، في مفهومها الديمقراطي، لا ينبع من تحكم قوى الأمر الواقع بسلطة على الآخرين، بل ينبع من اختيار كل فرد، في معزل (حرفياً) عن كل آخر، لطرق السياسة وممثليه فيها. لكن المواطن الفرد في مواجهة آخرين لا يستطيع من دون الحشد والضغط ومجموعاته فرض رؤيته أو بعضها على التوجهات العامة لسياسة دولته.

بالمقابل، إذا كان القانون يتناول الفرد أيضاً بصفته فرداً في المجال الجزائي، حتى لدى تكوين شبكة جرمية إذ يحاكم أفرادها فرداً فرداً دون انتظار القبض على الجميع، فإنه، في المجالات الأخرى، يتوسط بينه وبين المواطن الفرد أجساماً اجتماعية، من مؤسسات وتنظيمات، يتناوله بواسطتها أو من خلال منظورها. من هنا تأتي نقابات الحرف والمهن، وتقسيمات الوظائف أو التجار والقطاعات. فما يطبق على المحامي، أي المنتمي إلى جسد اجتماعي هو النقابة، غير ما يطبق على المهندس أو الطبيب، المنتميان أيضاً إلى أجساد اجتماعية هي نقابتاهما، والحال الضريبية للتاجر مختلفة عن الصناعي أو الموظف... الخ.

قد يكون من السهل الرد على تأكيد خبيز بأن الفردية ليست إلا يوتوبيا الحداثة بالقول إن الانتماء القسري إلى مجموعات بات شديد الندرة، فهو يرتبط إما بالسخرة المسماة خدمة العلم أو التجنيد الإجباري، أو بحالات الكوارث التي تصنف المنكوب فوراً في خانة المنكوبين وجماعتهم. في ما عدا ذلك فإن الانتماء يحمل في طياته صفة الفردية وحرية الاختيار. لكن هذا الرد المستعجل لا يعفي من نقاش عمق الفكرة التي تحسب أن الفردية لا تكون إلا بغياب الفرد عن شاشة كل سلطة مراقبة. لمثل هذا القول نتيجة تؤكد استحالة أن يكون أي مثقف فرداً، لأن المثقف من حيث اختصاصه في أيما حقل يخضع لتقاليد هذا الحقل واختبارات الدخول إليه والفوز بصفة الاختصاص فيه.

في تعريف خبيز للفرد اقرار باستحالة فعلية، وليس حتى بإمكانية نظرية، وإن تحول المرء إلى طيف كسالنجر الذي لا يزال حتماً يدفع الضرائب، لقيام أي فرد وأي فردية. لكن التعريف نفسه يمكن قلبه. الفردية لا تكون إلا بحضور المرء على شاشة السلطة المراقبة، شريطة أن تكون السلطة هذه واحدة من كثر، وأن يحضر المرء على شاشات أخرى أيضاً ويغيب عن غيرها.

المقصود أن تعدد الأجسام الاجتماعية، ولكل منها سلطة رقابتها، لا ينبغي أن يغطي كامل مساحة المجتمع. هنالك دوماً فائض في حسابات الديمقراطية، والتعامل مع هذا الفائض هو في الواقع ما يحدد ديمقراطية السلطة أو شموليتها.

النموذج اللبناني مثال لدولة تدعي الديمقراطية والانتخابات، لكنها شمولية العمق، رغم ضعفها عن تطبيق نزعاتها الشمولية. ذلك أنها حين تقسم الشعب إلى فئات تسع عشرة لا تترك فائضاً، أي أن خريطتها بحجم البلد نفسه، بحسب قصة بورخيس. الدولة الدينية أيضاً لا يسعها إلا أن تكون دولة دون فائض في داخلها، يخلخل الموازين ويدفع دائماً نحو نتائج غير محسوبة سلفاً.

أي إن تجزيء الحداثة نفس المرء، على ما أشار صالح بشير، إنما هو في الصلب من ارتباط الحرية بالديمقراطية، فلا تستنفد الثانية نفسه في الأجسام الاجتماعية التي ترسمها، ولا يستنفد هوى أو معتقد حريته، كما لا يستنفد اختصاص في مجال معين وصفه أو حركته.

إذا كانت معجزة الإغريق تكمن في التنافس بين أحرار، على حد قول دولوز، فإن هذا التنافس كان موزعاً على مجالات شديدة التنوع، ما بين السياسة والمعارف والخطابة والفنون والعشق، بحيث كان الحر من لا يكره على مزاولتها جميعاً. وربما كان المثقف الذي نحلم بأن يوجد في ظهرانينا مثيله هو تحديداً ذاك الذي يختار مجالات صمته.

حقوق الطوائف



البنى الحقوقية والطائفية في المشرق العربي



في كتابه "في أصول لبنان الطائفي، خط اليمين الجماهيري" الصادر قبل شهر واحد من الحرب الأهلية في العام 1975، أخذ وضّاح شرارة على الذين عالجوا المسألة الطائفية في البنى الحقوقية أنهم يحيلون القانون إلى متحف، ويجعلون من البنية القانونية خلقاًَ مستمراً للنظام الطائفي، بحيث يصعب عليهم تحقيبه، بما أنه "العامل الذي يدخل الزمن والديمومة في النظام الطائفي".

إلا أن شرارة أيضاً يقر بأهمية العامل الحقوقي في صوغ العلاقات الاجتماعية، وينقل عن روزا لوكسمبورغ أن المستوى الحقوقي يشكل عامل الممانعة الأول للمجتمعات غير الرأسمالية في وجه الرأسمالية الزاحفة، كما أنه يشير أيضاً في كتابه هذا إلى الثقافة الحقوقية المستقاة من الثورة الفرنسية والواضحة في المطالب التي كانت العاميات اللبنانية ترفعها، منذ أوساط القرن التاسع عشر.

إن كون المستوى الحقوقي عامل ممانعة رئيسي يفسر مطالبة الدروز اللبنانيين العائدين إلى النفوذ، بعد حقبة بشير الثاني، بالعودة إلى العمل بالقواعد السابقة المتعلقة بأحكام الأراضي والجبايات. هذا الارتداد ليس فقط ارتداداً إلى ما يعرفونه وحده، بل أيضاً ارتداد إلى ما يعتبرونه قواعد "النصر". كذلك الأمر، في إنشاء المسيحيين، في فترة سطوع زحلة ودير القمر، في القرن التاسع عشر ايضاً، لقواعد جديدة وغير مألوفة، لحياة المدينة، يشبهها البعض بالحكم الذاتي.

مغزى هذا أن الطائفية قد لا تفسَّر بالمستوى الحقوقي وحده، لكنها لا تقوم ما لم تظهر فيه، ولا ترسخ ما لم يقرّها. لفهم ذلك علينا أولاً أن نحدد المدى الذي نطلق عليه اسم القانون، والدور المناط به، قبل أن نحاول النظر في جدوى الدعاوى الفيدرالية المنتشرة والتي تزعم المداواة بالتي كانت هي الداء.


ليس القانون متحفاً

ليس القانون متحفاً، ذلك أنه تحديداً عنصر فاعل، صياغة للعلاقات وممانعة لمحاولات تغييرها. لكنه ينطوي دوماً على بذور قادمة من التاريخ. يقول أحد الفقهاء الفرنسيين أن القانون يكتب معاهدات وقف المعارك الاجتماعية. أي أنه دوماً نتيجة معركة، وتسوية متأتية عن ميزان قوى اجتماعي واضح في وقت معين. يمكن أحياناً كسب الحرب دون خوضها، وهذه طوبى تعاليم الإستراتيجية الصينية، كما حصل مع السيطرة المارونية على لبنان الكبير لدى إنشائه، فقد كانت موارد هذه الطائفة وتشكيلها أوزن بكثير من اعتراضات الآخرين على سيطرتها، لذا كانت هي من كتب شروط التسوية آنذاك.

من جهة أخرى، ليس القانون مفهوماً شكلياً. حتى خارج المجالس النيابية أو الأحكام السلطانية، تظل هنالك قواعد قانونية معمول بها تشمل التقاليد والأعراف في مجالات محددة، كالتجارة والقيادة العسكرية مثلاً. في هذا التعريف الواسع للقانون، يصبح من السهل تبين الدور الذي يلعبه هذا الأخير كضامن لوضوح مآل العلاقات ونتائجها، وكذلك كضامن لعدم تفكك المجتمع تحت وطأة التغيرات السريعة المتلاحقة لدى كل اختلال في موازين القوى الاجتماعية فيه. لكن هذا الدور لا ينبغي له أن ينسينا أن القانون يلعب أيضاً كعامل صياغة لهذه العناصر الاجتماعية وليس فقط كنقطة توازن بينها.

على سبيل المثال، كان من نتائج استبعاد العثمانيين للمسيحيين عن إدارات الدولة (وهو ما لم تكن الدول الإسلامية تعهده من قبل)، وعن العسكر، أن تحولت النخب المسيحية إلى التجارة والعلاقة مع الغرب. في هذا الاستبعاد تكمن ربما نواة تشكل المسيحية في المشرق العربي كطائفة متشابكة العناصر، وذات وجهة واضحة. أي إن فرض قاعدتين قانونيتين، تحت وطأة قوة العنصر التركي المسلم، حوّل المسيحيين المنتشرين في المشرق العربي منذ قرون من أتباع ديانة إلى طائفة اجتماعية، تكمن جذورها في مفهوم "الذمية"، لكن كان قد تم استيعابها داخل الدولة من قبل أن تعود فتنبذ نخبها.

بالمقابل، يسعى القانون إلى إبطاء الزمن الاجتماعي، وإلى استيعاب التناقضات الناشئة فيه داخل الأطر والمفاهيم التي يحددها، وهو في هذا يشكل إطار ضبط للمجتمع، كي لا ينفجر تحت وطأة التحديث السريع، كما حصل لبعض القبائل الأمازونية. أقصى الطموح القانوني ليس الصلاحية الخالدة، خلافاً للقواعد الفقهية الدينية، بل سلاسة الانتقال الضروري إلى قواعد أخرى، من خلال التأويل والتعديل والاستبدال. ليس الدستور إذاً، في وصفه القانون الأعلى، إلا الإطار الأشمل الذي يسعى إلى استيعاب التناقضات الاجتماعية ومتغيراتها، وتعديله بالتالي اعتراف بخروج هذه التناقضات عن الحصر، لكن كتابة التعديل تقتضي سلفاً أن تكون التسوية الجديدة قد أقرت وباتت واضحة وضوح موازين القوى الجديدة.


كتّاب الدساتير والطوائف

يظل أن عملية كتابة التعديل هذه كانت دوماً تستوجب وجود طبقة من المثقفين التقنيين، القادرين على صوغ التسوية كتابة وقواعد. وكان من حسنات هذا الوجود أن تمتعت الكتابة القانونية دوماً بشيء من الخفر إزاء مسألة الطوائف، فحتى في لبنان الأوضح دستوراً لهذه الناحية لا نجد للطوائف حقوقاً خارج اقتسام الثروة الرمزية التي تشكلها المناصب العليا في الدولة. ويأتي ذلك مشفوعاً بكونه مؤقتاً في انتظار إحلال اللاطائفية الكاملة.

السبب وراء ذلك أن للقانون الحديث منطقاً يتشربه دارسوه وكاتبوه يجعل من فردية الشخص القانونية حجر الأساس في أفكاره التعاقدية، سواء في المعاملات الجارية أو في الرابطة الاجتماعية.

كان يمكن إلى حد ما الرهان على قوة هذا المنطق الذاتية في درء تطرف بعض القوى. لكن المرء قد يتساءل بحسرة على تنامي غياب هذه الثقافة القانونية ومنطقها، وراء انتشار ثقافة فقهية تحل الحلال والحرام محل المشروع والممنوع، وتحل الله في أصل الاجتماع لا الفرد. ويزيد هذه المخاوف ما نشهده من انتشار أيضاً لـ"جامعات" طائفية. أي أن الطوائف التي كانت في ما مضى مفتقرة إلى تقنيين من خارجها يصوغون الاتفاقات، بشكل يتضمن حداً أدنى من المنطق القانوني، باتت اليوم تنتج "تقنييها" ولا ترتضي بغير اجتهاداتهم نصاً على الآخرون الرضوخ له، دون أن يكون لها في الواقع القدرة على الحسم والموارد الكافية لحسم المعركة الاجتماعية. وشواهد ذلك كثيرة في العراق، وفي لبنان، حيث يسعى "تقنيو" حزب الله إلى "ابتداع" أعراف وقواعد قانونية جديدة، يتأولونها تعسفاً من داخل النصوص الحالية (من نوع التمييز بين طوائف صغرى وأخرى كبرى، ولادستورية الحكومة التي يستقيل منها وزراء طائفة كبرى... الخ)، وما ذلك إلا لعجزهم عن حسم الأمر وفرض نصوص جديدة كما يشاؤون، ولرفضهم في الوقت عينه للأطر السابقة.


حين يولد الطفل لطائفته

يكثر المعلقون مؤخراً من استعمال عبارة التكاثر البيولوجي للطوائف. العبارة مستغربة ذلك أن الطوائف لا تورث جينات مخصوصة بعرق أو بنوع. فإذا جاز القول بتكاثر السود أو الصفر في العالم بيولوجياً، فإن افتراض سمة بيولوجية للطائفة، ناهيك عن لاعلميته، يفترض أن الطفل إنما يولد لطائفته، لا لأمه وأبيه، إلا أن كانا بدورهما أيضاً للطائفة مالاً وحالاً.

يغفل هذا الكلام التدقيق اللازم في أصول اندراج المرء في الطائفة، والخيار المتاح له في ذلك، ودور القانون بمفهومه الواسع في ذلك.

لا تتمايز الطوائف في المشرق لغة (باستثناء الأكراد) وثقافة وفنوناً ومعيشة وتركيبة اجتماعية بشكل يسمح بالقول إن ما يتلقنه الطفل في البيت يجعله مختلفاً تماماً عن طفل آخر من طائفة أخرى. كما أن من المعروف أن الكثيرين من الطائفيين المتعصبين ليسوا متدينين البتة، ولا يدخل الدين كمبرر لطائفيتهم.

يفترض بالقانون أن يجعل الطفل يولد لدولة وجنسية، إلا أن الدولة في ربوعنا تقيم من زعماء، يتم اختيارهم والتجديد لهم بناء على آلية طائفية يغذونها بسلطاتهم، وسطاء بينها وبين هذا الطفل. في تقديرنا إذاً، يصبح المرء طائفياً من خلال استرهان الأهل في معاشهم وأرزاقهم لوسطاء طائفيين في دول ريعية مثل سائر دول المشرق، وما يستتبعه ذلك من ولاء لرموز الطائفة والتفاف حولهم.

ليس الولاء الطائفي فطرةً أو غريزة، بل هو نتيجة لاتخاذ الطائفة أساساً لتقاسم الثروات، كما أن ما يغرسه في النفوس هو السماح للطائفة بامتلاك مؤسساتٍ خارج المؤسسات العامة، مدارس ومشافٍ ودور رعاية ومساعدات.

في هذا يتجلى مجدداً الدور الذي يلعبه القانون في صوغ الطائفية. كان يمكن لتقرير التقسيم الطائفي للمناصب أن يكون هامشياً، وأن يشكل فقط طريقة للتعايش. إلا أن غياب الدور الاقتصادي الفاعل للمجتمع المشرقي عموماً، واضطراره الأفراد الدائم للمرور عبر الدولة، إما لاقتسام ريعها (النفطي المباشر، أو غير المباشر كما في لبنان) أو للانتفاع بعقودها أو للتملص من الزاماتها، وتحويل الزعماء الطائفيين، من خلال الأوضاع والأعراف القانونية المعمول بها، إلى البوابة الإجبارية إلى هذه المنافع، كل ذلك يربط الفرد إلى الطائفة وشبكاتها، مثلما تربطه إليها قوانين الأحوال الشخصية الطائفية.

خلاصة القول إن الطوائف ليست قدراً، بل هي أسلوب لتقاسم المنافع والثروة المتأتية من الدولة مصدراً رئيساً. والمدخل الرئيس لتجاوزها هو تجاوز الاقتصاد الريعي، والتحول إلى الاقتصاد المنتج فعلاً، والبحث عن سبل أخرى لاقتسام الثروة الرمزية في مناصب الدولة، قد تكون على أساس مناطقي (حين لا تكون المناطق "صافية" أو "مصفاّة" طائفياً) أو على أساس قانوني آخر يعتمد المهن ونقاباتها مثلاً، فيفعل دور نقابات المهن الحرة، بالإضافة إلى الأساتذة والقضاة.

أما محاولة درء الاحتراب الأهلي من خلال تقنين الوضع الطائفي فتؤدي إلى منحه إمكانية تجديد نفسه ما طاب له، عدا عن أنها تمهد لحروب قادمة كثيرة كلما أنست طائفة في نفسها القوة لتعديل الموازين المعتمدة في الدستور.

شغل كايرو





"شغل كايرو" لمحمود عزت: ثراء الفتور


ربما كانت العامية المصرية أقدر اللهجات العربية اليوم على أداء "الشعر"، والنأي عن "الزجل"، بعد أن رسخت أقدامها في هذا المجال جهود كبار مثل بيرم التونسي وبديع خيري، ومن بعدهما صلاح جاهين و"والد الشعراء" الرائع فؤاد حداد، وأحمد فؤاد نجم ونجيب سرور وأحمد فؤاد قاعود وغيرهم. غير أن هؤلاء جميعاً طبعوها بطابع الموسيقى والغنائية والقوافي الرنانة والمرح الصاخب والشعور القاني.

اليوم، يحاول البعض شعراً بعيداً عن هذه الخواص التي شكلت مرجعية شعر العامية المصرية، وهو ما يضاعف صعوبة المهمة، إذ من المكلف للذاكرة الشعرية أن تتخلى عن ايقاعاتها الصادحة وأن تمضي إلى شعر خفر النبرة.

محمود عزت، في عمله المطبوع الأول "شغل كايرو" (والعنوان من أغنية لمحمود شكوكو) يحاول السير في هذه الطريق، رغم العنوان الغنائي الذي اختاره، متخففاً من أعباء رنين الكلمات ومتنكباً أعباء رؤياها البسيطة وعلاقتها بمدلولات حسية تحاول ألا تبتعد عنها كثيراً.

لذا لا يتعفف محمود عزت من التأكيد مثنى وثلاث أنه لا يرى مشكلة في أن يقف الشعر لوحده " فـ فراغ أبيض كثيف / من غير وزن ولا قافية / ولا صور/ و تركيب/ و مجاز/ بيستقبل المطر على صدره/ زي ما إتخلق على الأرض/ لأول مرة "، ولا يتمنع عن دعوة "غير الهشين" إلى ألا يخافوا على اللغة العربية من العامية المصرية، ويسخر من تفعيلات البحور القديمة و"يتريق" على نقاد العبث و"الشعرا" رغم الحزن من مثلية كفافي. لكنه أيضاً لا يصمد أمام اغراء "طبقي" قديم : الفتاة التي تعزف البيانو.

لكنه بالمقابل، يرسم خريطة للقاهرة، مثلما يعرفها أهلوها، حيث الحدود واضحة بين الزمالك وامبابة وشارع جامعة الدول العربية، وحيث يمكن أن نرى مناطق هجينة "جوه إمبابة/ شبه فيصل و المعادي الجديدة/ نسخة غير جيدة للمهندسين / حواليها المنيرة و الوراق و النيل و الدائري". وحيث التعارض بادٍ بين المول ووسط البلد، وحيث يصبح أولاد المدارس الحكومية غرباء في هذا الأخير، مثل أبناء امبابة في الزمالك.

"النهاردة كنت في الزمالك
و أول مرة أشوف الكيت كات
من الناحية التانية !

النهاردة
كنت في الزمالك
لأ
مش حلوة ..
زي ما بتبان من الناحية التانية للنيل"

في هذه الخريطة، للأماكن وظائف محددة: وسط البلد للاغتراب والصراخ والتظاهر وغسل النفس، الكباري (الجسور) للحب والتدرب عليه والموسيقى، وشارع القصر العيني للتعب والموت والخلود في اللامكان، وامبابة للحزن والعيش والحفر في الروح:

"أصل لا يمكن !
شوف !
بقولك لا يمكن
تعيش في إمبابة أكتر من عشرين سنة
و متبقاش فنان
هما بس الناس هنا غلابة
مش بياخدوا بالهم
إلا لما بيزروهم حد من بره

فـ إمبابة
إنت حتتعلم كل المهارات الأساسية
عن كل حاجة"

لكن هذه الخارطة المكانية، في الواقع، لا تنال لمن لم يعرف، ولو بالصدفة، امبابة والكيت كات والنيل وزحام القاهرة. لذا فالمرء قد يسعى ليلامس أكثر، وراء حكايات العائلة (الأب والأخ والأم والجدة) على رهافتها وأبعد من حكايا الأولاد اللاهين بمسرحية الحب، بعضاً من تجربة إنسانية تتجاوز المواعظ الحكيمة والأليفة (شذرة "كلم ابنك" مثالاً).

فقط في مواضع قليلة يقطف محمود عزت ثمار هذا الطريق الصعب الذي يحاول السير فيه، حين تندمج تجربته الإنسانية بفتور فني لطالما امتدحه الصينيون لأنه يختزل في داخله، دون استعراض، توازن النكهات المختلفة والظلال المتعارضة وأمواج المعاني الساكنة فيه، لكن هذا الفتور لا ينبغي له أن يكون كسلاً، بل هو ضبط فورة الحياة الأصلية، أو النبع الذي، بعد أن يتفجر، ينبغي له أن يترقرق بين ضفتين. هكذا يكتب مثلاً:

"وأنا في ثانوي/كنت بحقد على الكون/ و على كل الأفلام الأجنبية /لإني مش عارف آخد دور بسيط /في فيلم فرنسي /فيه الولد يصحى الصبح و يروح المدرسة /يلاقي حبيبته في الفسحة /و يتكلموا مع بعض عن أي حاجة"

أو يؤكد أنه: "زي القارب الفاضي / بيسحبه الموج / شوية بشوية/ بعيد عن الشط /كل يوم / بصحى / من النوم/أحس إن الشباك بقى أبعد"

إلا أن مشكلة محمود عزت أنه، أحياناً، لا يدرك أين يجب للقول أن يكف عن الاسترسال وعن السرد (وهذان شائعان ايضاً في شعر الفصحى المصري الحديث) كي تحتفظ الشذرة الشعرية بنسغها داخلها، بدل أن تبدده ضربة لاذعة ربما تجرح هشاشة الشعر:

"أمي بونبوناية إكلير/و أول حد أعرفه/مش بيعرف يزعل / ماما/ هي الكلمة الأنسب!/ من "أمي" اللي أشيك في الشعر/ على كل حال / هيّ ماما/ و ينعل أبو الشعر"

والأمثلة على هذا كثيرة، حين يذعن عزت لإغراءات الاستعراض اللغوي والتلاعب بالضمائر، أو المزاح والنكتة (ابتسامة بلاستيك واسعة مثلاً...)، أو حتى للمخيلة السريالية البسيطة (سرقة الكوبري للوقوف عليه وحيداً...). كما أنه لا يمتنع، بطبيعة الحال، أمام حوريات الغنائية اللطيفة حين يكون الصباح منتظراً قرب شباك الحبيبة.

ربما على الشاعر الشاب أن يكثر من الأسئلة (سكتنا و بصينا للنيل/ قال لي فجأة:/ أنا ليه مش عارف أبقى مبسوط ؟)، وأن يعمل بالنصيحة التي يتلقاها كتاب السيناريو: اقتل محبوباتك Kill your darlings.