jeudi 3 janvier 2008

لكل سينماه




ملحق النهار الثقافي، تشرين الثاني 2007

لكل سينماه



على نسق "باريس، أحبك"، احتفل مهرجان كان تحت عنوان "لكل سينماه"، بعيده الستين داعيا نيفاً وثلاثين من المخرجين إلى تناول موضوع صالة السينما في ثلاث دقائق لكل منهم. النتيجة بالطبع غير متعادلة للجميع، وإن كانت طرافة الفكرة تعوض هذا التفاوت بإظهار مكانة الصالة كمكان للحب والحنين والمرح والشجار والجنس والعلاقات العائلية. لكن بعض هذه الأفلام القصيرة يستحق وقفة (قصيرة) أيضاً عنده لأسباب متفاوتة. فهناك "ممثلنا" القومي، الفائز بسعفة كان عن مجمل أعماله، الأستاذ الكبير يوسف شاهين الذي انتقل من رواية سيرة ذاتية ومتخيلة تجتازها أبرز خطوط المعاصرة في المجتمع المصري إلى تمجيد الذات على طريقة بهجاتوس لكن دون السخرية منها في فيلم ينبغي أن يكون عنوانه "أنا وسعفة كان".

بالمقابل، يرسم ايليا سليمان المواقف المحرجة واضعاً نفسه في قلبها، محولاً شخصيته وجسده إلى معادل فلسطيني لكبار الكوميديا الأميركية الصامتة. أما عاموس غيتاي فاستغل المناسبة بشكل انتهازي حقير، مقيماً قياساً بين سينما وارسو، قبل النازي، وسينما حيفا قبل سقوط صواريخ حزب الله، وكأن الفارق الذي يتذرع به الصهاينة دوماً عن عدم امكانية مقارنة أي جرم بالمحرقة النازية يسقط حين يكون ضحية جريمة الحرب اسرائيلياً، أو كأن لا فارق أخلاقياً أو قانونياً بين جرم الإبادة الجماعية وجريمة حرب في خضم المعارك (وإن كان هذا لا يبرر ذاك من جانب حزب الله ولا يبرؤه).

وإذا ما كان حضور رومان بولانسكي مخيباً، فإن أنجيلوبولوس قدم تحية إلى ماستروياني تتراوح، كما هي الحال دوماً لديه، بين ماضٍ لا يمضي وحاضر معلق. والحق أن فيليني بشكل خاص، كان بارز الحضور في هذه المقتطفات الفيلمية، وكذلك كان حال السينما الفرنسية ورموزها الكبار مثل رنوار وتروفو وغودار. لكن ذلك لم يمنع أيضاً من التأكيد على حضور بارز للسينمائيين الآسيويين (لا سيما كيتانو الساخر القسوة) وإن على تفاوت في القدرة على بناء سيناريو في هذا الوقت الضئيل، الامر الذي جعل الكثير من المخرجين يلجؤون إلى التقاط أنواع مختلفة من التوتر (سواء الحنين، أو الانتظار، أو قلق الحرب) وليس إلى السرد. هذا ما يمنح فيلم أكي كوريسماكي "المصهر" سحراً فذاً. هذا الأمر يبرز أيضاً بالنظر إلى تكرار فكرة الضرير، أو الضريرة، في الصالة في عدد من الأعمال.

تصوير كياروستامي للنسوة الباكيات في الصالة ممل جداً لولا جمالهن، في حين أن زانغ جيمو يصور انتظار القرية وحماستها للعرض السينمائي الجوال بمتعة فائقة، موضحاً في الوقت عينه، مثل فيم فندرز في افريقيا، أن السينما أوسع من أن تحصر بصالة سينما خاوية على النمط الغربي الفخم والقديم، أو على النسق الروسي الضخم البارد.




إلا أن مصير الصالات (ومصير اليهود) في عصر التلفزيون والبث الواقعي المباشر بلا انقطاع هو تحديداً موضوع عمل دافيد كروننبرغ البديع، الذي يشكل درة الفيلم بالتأكيد، والمعنون "لدى انتحار آخر يهودي في العالم في آخر صالة سينما في العالم". مصوراً نفسه عن كثب متلاعباً بالمسدس، متخيلاً أفضل أسلوب للانتحار، يستخدم كروننبرغ ببراعة أصوات التعليق التلفزيوني التي بتنا معتادين عليها في التغطيات المباشرة للأحداث ليمرر لنا مستقبلاً افتراضياً يربط فيه ملاحقة اليهود بمنع إقامة صالات للسينما، باعتبار أن اليهود هم من صنع هوليوود، حتى لم يبق من كل منهما سوى ممثل وحيد: صالة متنكرة في هيئة كاراج، يقبع في مرحاضها من سيقوم بانتحار مباشر على الهواء. ببساطة فائقة، ودقة مرعبة، يثير كروننبرغ في هذا الاختصار الكبير أصداء المكارثية الأميركية واللاسامية الأوروبية، وتشاؤم جورج أورويل، ورعبنا المعاصر من عدسات التلفزة التي تعلن في كل مكان الموت والدمار. لكنه أيضاً يتبنى صورة اليهودي الذي، في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وجد في العلم والفكر والحرية سبيله إلى الاندماج في مجتمعات أوروبا، فقدمت جاليات ضئيلة العدد نسبياً اسهامات ضخمة (لنتذكر ماركس، وآينشتاينن وفرويد، وكافكا وبنجامين، وغيرهم كثيرون)، قبل أن يأتي الجنون النازي ليقتلع هذا الحلم نهائياً. بالنسبة إلى مشاهد عربي، يثير كروننبرغ تساؤلات ضخمة، لكنها مشروعة، بخلاف استفزاز غيتاي المجاني، لأنه أثناء ربطه اللاسامية بمعاداة الحرية، وهو ما لا يمكن انكاره، يجعل أيضاً من السينما مجالاً لخلخلة سطوة التلفزيون والإبقاء على هامش للحرية والفكر والابداع. وهو، أثناء ذلك، يستفز فينا التنبه إلى إحدى نقاطنا الضمنية العمياء، والتي تبرز بشكل كاريكاتوري طبعاً في تصريحات نجاد، أي رفض الاعتراف بإرث اليهود، العربي والاسلامي والعالمي، مكوناً بين مكوناتنا، رغم أن ثمن ذلك قد يكون أيضاً الخروج من التاريخ ومن القدرة على فهمه.

في معظم هذه الأعمال، صالة السينما شبه خاوية، إن لم تكن خاوية تماماً، عدا في قرى آسيا وافريقيا. ربما كان السينمائيون متشائمون بشأن قدرتهم على تحريك الحشود. إلا أن هذا العجز، الذي شهده الشعر من قبل، قد يكون في المحصلة مفيداً أيضاً، خصوصاً مع تطور التقنية نحو آلات أكثر خفة واقل ثمناً لمن يشاء الابتعاد عن النجوم والمؤثرات الخاصة. "لكل سينماه" هدية من احتفال كان إلى نفسه، لكنها أيضاً تكريم من السينمائيين إلى معابدهم المهجورة (رغم الاقبال الجماهيري الضخم على بعض الأفلام ذات الميزانية الهائلة). "لكل سينماه" ولكل الهه أيضاً، حيث لم يرفض هذا المكان (الصالة) يوماً نزعة انسانية، بل أفسح المجال لأهواء الروح المتنوعة كي تجد لها صوراً باقية رغم هشاشة آلة العرض وشاشته.

Aucun commentaire: