samedi 5 janvier 2008

الرحابنة، لهجة موسيقية للبنان

ملحق النهار الثقافي، 17 حزيران 2006
في ذكرى عاصي الرحباني
تأسيس لهجة لبنانية في الغناء العربي





لا تكاد شمس العائلة الرحبانية تغرب عن لبنان، منذ اندلاع ثورة الأخوين في إذاعة الشرق الأدنى، مروراً بأجيال الأبناء المتنوعي المصادر. ولا يفتر اهتمام اللبنانيين بهم، ما بين مؤتمرات ومقالات، وكتب، ولا تزال كل حفلة لفيروز حدثاً في البلد. لا شك في أن الرحابنة يمتلكون أدوات التواصل الإعلامي وحسه، وأن إقلال فيروز من إطلالاتها ورصانتها يحفظان لها موقعاً وتقديراً لدى اللبنانيين. لكن المرء لا يستطيع إلا التساؤل عن سر هذه القدرة المميزة على الاستمرار في صلب الاهتمام الشعبي، في حين أن يوتوبيا الوطن الرحباني الأصلي قد تبددت نتفاً ممزقة في الحرب، والمسرح الغنائي، أي عملياً النتاج الرحباني الجديد، في طور احتضارٍ طويلٍ وممل، وفي حين أن ما يجتاح الأسماع والإذاعات اليوم لا يكاد يمت بصلة إلى الغناء العربي.

في هذا الإطار فإن ذكرى وفاة عاصي فرصة جديدة للتفكر في التجربة الرحبانية ككل. فالأسطورة اللبنانية تعطي لعاصي دور الفنان العميق والميتافيزيقي داخل المؤسسة الرحبانية، وتقصر منصور على "الصنعة"، وهو ما تكاد تثبته انتاجات منصور بعد وفاة أخيه، لولا أن الحكم نفسه ينطبق على ما سبق وفاة عاصي ولكن بعد الافتراق مسرحياً عن فيروز.

الصوت الفيروزي

يبدو إذن أن تجربة الأخوين رحباني كانت انتهت قبل وفاة الكبير عاصي، لارتباطها العضوي بالطرف الثالث في العادلة، أي الصوت الملهم والحامل للمشروع الرحباني، وهو أيضاً عين ما حدث للقصبجي حين ابتعدت عنه أم كلثوم وبعد وفاة أسمهان، وما حدث للسنباطي تقريباً في كل مرة لم يلحن فيها لأم كلثوم. هذا الكلام إن صح يستتبع ملاحظتين على الأقل، الأولى أن تفسير المعجزة الرحبانية ب"صوت فيروز، ولا حاجة لمزيد" (السبب الأول من أسباب أربعة يقدمها فواز طرابلسي في كتابه) تفسير يحتاج هو نفسه إلى تفسير طويل. فتذوقنا الجمالي لأصوات المطربين والمطربات يحتاج أيضاً إلى قراءته في سياقه التاريخي، الفني تحديداً، وليس إلى قراءته على ضوء مانشيتات صحف الحقبة، ولا بناءً على نظرة مسحورة ومبهورة بالعذوبة الفيروزية. ببساطة، من قال إن خامة صوت فيروز عذبة؟ وبأي معيار؟ وهل كانت فيروز لتصلح للغناء في عهد منيرة المهدية وقبل اختراع الميكروفون؟ أي بكلام آخر، إن افتراض قيام معايير طبيعية تسمح بالحكم على نتاج فني هو افتراض سحري النظرة إلى العالم، ويكتفي، خلف هذا الانبهار، بتكرار الكليشيهات والأفكار الرائجة في فترةٍ ما. لا مجال هنا للتوسع في هذا الجانب من تاريخ التذوق الفني للمدرسة الرومانسية العربية التي قد تبدأ من أم كلثوم القصبجية مروراً بفيروز ونجاة الصغيرة وعبد الحليم حافظ وسواهم، لكن الإشارة قد تكون ضرورية إلى استحالة تخيل استقبال الأذن للخامة الفيروزية لو لم تسبقها تجارب أسمهان وليلى مراد خصوصاً، هذا من جهة، ولو لم تكن فيروز الصوت الحامل لمشروعٍ فني متكامل هو مشروع الرحابنة، الذي يتطلب مغنية بحساسية مختلفة عن طاقات من سبقوها.


وحدة العمل الشامل

الملاحظة الثانية إن استحالة التمييز بين حصة منصور وحصة عاصي في عملهما المشترك ليست إلا دليلاً جديداً على وحدة هذا العمل العضوية وعلى فرادته في التاريخ العربي المعاصر. فالأخوان رحباني، وهم عملياً آخر المشاريع الموسيقية الكبرى في الوطن العربي، كانوا يطمحون دوماً إلى عمل فني شامل على الطريقة الفاغنرية، ومحوره بالطبع المسرح الغنائي، وفي درجة أقل السينما. إلا أن ذلك يتطلب تعبئة قدر كبير من الأدوات الفنية، وصهرها في وحدةٍ لا تنفصم، وفي هذا فإن كونهما أخوين لا شك ساهم في تحقيق هذا الإنصهار، وفي تقديم تجربة فريدة من حيث امتلاك كل هذه الأدوات معاً (الكتابة للغناء وللمسرح، والتلحين والتوزيع، والإخراج، والتواصل الإعلامي). وحدة العمل وسيطرتهم التامة عليه لا تسمح حتى بتقدير حصة الآخرين فيه، إن صح ما ذُكِر عن كتابة الماغوط لهم مثلاً، إنهم مسؤولون تماماً عن كل النتاج الذي قدموه في المسرحيات أو قدمته فيروز تحت إشرافهم، حتى من ألحان عبد الوهاب، سلباً وإيجاباً، فأثر توزيعهم مثلاً جليّ على طريقة تلحين عبد الوهاب في "سهار بعد سهار"، وأوضح حتى في "ضي القناديل" التي غناها عبد الحليم. أما السلبي فأبرزه ضيق المجال الذي سمحوا فيه بالتعاون ما بين صوت فيروز زالملحن اللبناني الأكثر احساساً بالروح الشرقية، أي في الوقت عينه الأكثر مرحاً، فيلمون وهبه الذي قدم بعض أجمل أغاني فيروز لناحية تطريبها، المشبع خفةً دون افتعال.

الأغنية أم المسرح؟

رغم بحثهم المتواصل عن العمل الفني الشامل، فإن ثمة قلقاً دائماً في استقبال الإنتاج الرحباني، وفي أولوية الأغنية أم المسرح فيه. ويعكس هذا القلق واللااستقرار شروخاً في الوحدة الرحبانية، فكثير من مشاهدي مسرحهم كانوا يذهبون ليسمعوا آخر الأغنيات، وإلى اليوم تبدو الأغاني هي المسموعة على نطاقٍ واسع، في حين يكاد يصبح كل استماع إلى المسرحيات استماعاً ايديولوجياً أو باحثاً عن أصداء اليوتوبيا اللبنانية فيها.

وينطبق هذا حتى على الأغاني المسرحية. فهي تنفصل بسهولة عن النسيج المسرحي وتقبل العيش منفردة مستقلة في وسط الأغاني الأخرى، باستثناء الـ"ردات" الزجلية. وهو ما يعكس خاصية أخرى من خواص العمل الرحباني هو أن مرجعية مسرحهم الغنائي ليست أعمال سيد درويش والمسرح الغنائي المصري في الربع الأول من القرن العشرين، بل هي سهرات الزجل، والشخصيات التي يلعبها الزجالون تبدو الأكثر تأثيراً في بناء شخوص المسرح الرحباني، لذا يغيب بُعْد تصوير الفئات والطبقات والمهن الحقيقية، أي احد جوانب ثورة سيد درويش الأهم. فلا بائعة البندورة بائعة خضار فعلاً ولا عامل المحطة يعرف شحم القطارات، بل هم رموز، محتواها الاجتماعي ليس مباشراً بل محصور باستعمالهم في العالم الرحباني المتخيل والمطهّر، العالم المنزوع الفتيل دائماً، ما منع التعبير القصصي الفعلي من خلال شخصيات حية، وأقصى التعبير عن العنف. حتى يكاد يكون المرجع الآخر للمسرح الرحباني هو مسرح كراكوز وعيواظ والدمى التي تحركها دوماً الأصابع من وراء الستار كي تقدم في النهاية حجج الخطاب المستتر المعلن.

في المقابل، تستطيع الموسيقى دوماً أن "تخربط" هذا الخطاب، كما كل خطاب، وأن تخرج عليه. وأن تجمع اللبنانيين، حتى في فترة الحرب، على ذائقةٍ لحنية كانت مستحيلةً قبل الخمسينات، لأسبابٍ عديدة أهمها ربما ريفية منطلقها الجبلي بالنسبة إلى المدن الساحلية المرتبطة موسيقياً كما سياسياً بحلب وبالقاهرة.

الموسيقى الرحبانية أيضاً تلوح الإرث الحقيقي المستمر لهذه المؤسسة، فالمسرحيون لا يرون في المسرح الرحباني مرجعاً، ولا السياسيون، إلا الأكثر سذاجة، يرون فيه تجسيداً لحلم أو لفكرة عن الوطن اللبناني.

تأخر الثورة الرحبانية

في إطار السياق الموسيقي العربي يمكن أن نلاحظ تأخر الثورة الرحبانية عشرين عاماً على الأقل عن الانقلابين الخطيرين الذين أحدثهما سيد درويش في البداية، ثم القصبجي وعبد الوهاب في الفترة ما بين 1928 إلى أواسط الثلاثينات. والذين فتحا أمام الموسيقيين العرب آفاق المقدمات الموسيقية البحتة، والتفاعل مع الموسيقى الأوروبية، واستخدام فرق كبيرة تحتاج إلى عملية توزيع موسيقي عالمٍ، تولاه في مصر أناس مثل ابرهيم حجاج وأنطوني رايدر. من دون هذه المقدمات، كان من الصعب للتجربة الرحبانية أن تلقى قبولاً واهتماماً من الناس.

أهمية الرحابنة إذن ليست افتتاحيةً، وإن كانوا قد أسسوا لخصوصية في التعامل مع هذه المعطيات والعناصر الموسيقية الجديدة على الذائقة العربية. كما أن أهميتهم ليست في الإشباع الطربي رغم قصر مدة الأغنية، على خلاف ما حسب عبد الوهاب يوماً. قصر الأغاني ليس معياراً، ففي مصر، وفي ظل الأسطوانة القديمة، أي ما قبل تسجيلات الإذاعة، تفككت الوصلة الغنائية وتتابعها الموروث وتركت وحداتها المكونة أغنيات قصيرة، طقاطيق أو قصائد أو مووايل، لا تكاد تتجاوز الست دقائق وهي تقريباً مدة المونولوج الكلثومي كما صاغه القصبجي في البداية، قبل حفلات أم كلثوم الشهرية.


تكوين الذائقة الجديدة

في المقابل، أدخل الرحابنة على الأغنية العربية جمالية شعرية لطالما ترددت حيالها المدرسة المصرية الأكثر محافظة والأقل عناية بالكلمة، باستثناء سيد درويش طبعاً. فالمقارنة بين أحمد رامي مثلاً وبين سعيد عقل تظهر كل الفارق في الرنة المتحررة من رصانة النمط التقليدي، وإن حافظت على أوزانه، كما تظهر الفارق في طبيعة العالم الرمزي الذي تحيل عليه مفردات وتشابيه عقل، في حين تظل رومنطيقية رامي مفتقرة إلى ثراء الألوان، وسرعة الضربات في بناء لوحته، وتظل أسيرة العشق العربي في صوره التقليدية. كما أن الرحابنة بالتعاون مع عدد من شعراء العامية اللبنانية نجحوا في تطعيم الكلام المغنى يالروح نفسها، وهو ما لم تستسغه المدرسة المصرية التي ابتعدت عن تجارب شعراء عاميتها الأهم، كفؤاد حداد، وبقيت في إطار "الصنعة" عينها مع حسين السيد مثلاً أو أحمد شفيق كامل، باستثناء تجربتين لافتتين ومقموعتين، الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، والشيخ سيد مكاوي في أعمال لم يصلنا سوى رأس جبل الجليد منها، أي الليلة الكبيرة والمسحراتي، مع حداد وصلاح جاهين.
اللافت في هذه المقارنة هو اهتمام المشايخ بتطور العامية المصرية، في حين كان "العلمانيون" أكثر تقليدية. والاهتمام الرحباني يوازي هنا، على صعيدي اللحن والكلمة، اهتمام المشايخ.

وربما يعود ذلك إلى اهتمامٍ رحباني بالموسيقى الدينية التي تولي أهميةً قصوى للكلام، وهم الوحيدون، على أي حال، الذين استطاعوا أن يقدموا فناً موسيقياً استوحى الكثير من قداسات وتراتيل ومدائح الكنائس المشرقية، خلافاً للمشاريع الموسيقية العربية المرتبطة عموماً بالتجويد. هذا التأثر البارز، شعراً ولحناً وتكويناً لصوت فيروز، بمصدر مختلف وثري، أضفى لهجة لحنية خاصة على أعمال الرحابنة، أبرز سماتها التقشف الزخرفي، والتواضع الخاشع للصوت الذي قلما يستعرض نجوميته وقدراته، خلافاً للتجويد الذي يقوم بدرجةٍ كبيرةٍ على استعراض تطريبي هائل وبديع. كما أن من سماتهم أيضاً التركيز على المقاطع لا على أحرف العلة في تكون الجملة اللحنية، كما هي الحال غالباً في الموسيقى الكنسية، وكذلك القلة النسبية في استعراض الوحدة الإيقاعية على درجات السلم الموسيقي، في ما يعرف بالتتابع، أو القيام بذلك ضمن نظام معقد يكسر عمداً التتابع، ونجد مثالاً على ذلك في "عصفورة الشجن".


في لاجدوى النقاشات المكرورة

من السمات اللحنية التي تثير دائماً النقاش حول الرحابنة، كما حول عبد الوهاب، هي العلاقة بالموسيقى الأوروبية. إنه السؤال المتكرر عن التغريب، عن الاقتباس والتضمين والتعريب. لكن هذا السؤال في الواقع لا يؤدي إلى غاية. فنقاد الشعر العربي القدامى يعدون أكثر من دزينة من أنواع التوارد المقصود بين شاعرين، بعضها مستقبح وبعضها مستملح للغاية، وتطبيق مثل هذا التدقيق على الموسيقى سيفتح مجالاتٍ لتصنيف أوسع بعد، بحيث تنتفي منه الفائدة الفعلية. في الواقع، لا يملك المرء إلا التفكر في إن ادخال كلمة إلى اللغة، الديمقراطية مثلاً أو الموسيقى، يفتح بالضرورة آفاقاً هائلة أمام من يفكرون بها، فكيف بادخال كل هذه المفردات النغمية والتوزيعية والخلايا اللحنية والايقاعية ؟ ذلك بالطبع بشرط مراعاة الذائقة الفنية الأصلية وعدم تنفيرها، وهي الشروط التي تنطبق على كل استدخال ناجح للجديد.

النقاش المكرور الآخر هو حول شعبوية النتاج الرحباني، أو تغريبه. والواقع أن السياق الفني الرحباني، والمصري منذ أواسط الأربعينات، يشهد على عزلة أم كلثوم التي تراجعت عن التطوير مع القصبجي لتفرض نيوـكلاسيكية السنباطي. أي بمعنى آخر كان التغريب آنذاك شعبوياً، كما أن اسماع "الآخرين" للزجل الجبلي اللبمامي كان تغريباً للمستمعين عن مألوفهم. في كل هذا لم يكن فن الرحابنة فناً "شعبياً" (خلافاً لما يحسب أيضاً فواز طرابلسي)، سوى في جزءٍ منه وفي الجبل اللبناني، أي أنه لم يكن ينهل من ثقافةٍ شعبية موروثة، وهو حين قارب الموشحات والقدود مثلاً قاربها بتوزيعٍ جديد بالغ الأوركسترالية أدخلوا فيه البوليفوني والهارموني، وعدل في كلماته. أي أن الرحابنة تعاملوا مع التراث غير الزجلي كمادة أولية يخضعونها لأساليبهم هم، دون أفضلية لها على غيرها.

اختراع الأنماط

لكن يظل أن احد أهم خصائص الرحابنة قدرتهم على اختراع أنماطٍ جديدة من الأغاني. ولا نعني هنا القوالب، وإن جددوا فيها، بل تلك الوحدة التي تنتج عن تناغم عميق الانصهار ما بين ايقاعٍ معين (أو تسلسلٍ إيقاعي) وبين مناخ موسيقي (ومقامٍ غالباً) وبين طريقة توزيع وكتابة للآلات (البيانو والفلوت، أو آلة نفخ أخرى كالترومبيت أو الساكسوفون أو أكورديون في الخلفية الموسيقية لنمطٍ ما، في مقابل طريقة استخدام البزق، أو القانون في آخر، أو استخدام عود منير بشير في دور غير تقليدي في ثالثٍ)، ويضاف إلى ذلك أيضاً مناخ شعري أو حقل دلالي ومعجمي متقارب في كثير من الأحيان. والتوزيع في مثل هذا الاختراع بالغ الأهمية لأنه يضمن وحدة العمل الحقيقية، ويعمقها.

لذا ثمة اعجاز في عمل زياد الرحباني في إعادة توزيع أعمال يشكل التوزيع ركناً أساسياً في تركيبتها النمطية وفي وحدتها، وفي الآن عينه إظهار وحدة كل نمط وفرادته! يثبت زياد في ذلك إمتلاكاً هائلاً لتقنيات الكتابة الرحبانية للآلات، وفهماً عميقاً لها، دون أن يقع أسيرها. فيكاد شريط "إلى عاصي" أن يكون قائمة حصرية بهذه الأنماط المختلفة، متفادياً غالباً التكرار فيها، وإن أغفل ربما بعض المحاولات القديمة السابقة على تمام النضج الرحباني واكتمال مدرستهم وطريقتهم.

اخترع الرحابنة إذن مجموعة كبيرة من الأنماط، التي نسجوا أيضاً الكثير على منوالها، لكن ذلك لا يقلل من أهميتهم، فما قدمه السنباطي مثلاً على هذا الصعيد يكاد ينحصر (وهو لا ينحصر فيها فعلاً، لكن نتاجه الآخر قليل وغير معروفٍ جيداً) في بعض الأعمال الخفيفة (على نمط على بلد المحبوب) وفي القصيدة الدرامية المطولة، رغم أنه قدم أعمالاً فائقة الجمال داخل هذين الإطارين. وهم في هذا لا ينافسهم ربما إلى الانتاج الضخم لعبد الوهاب.

الإرث اليوم

يبدو اليوم أن الإرث الأكبر والوحيد ربما للرحابنة هو تأسيس لهجة غنائية لبنانية واضحة وخاصة، وهو جهد شاركهم فيه آخرون بالطبع، كفيلمون وهبه وتوفيق الباشا وسواهم. ولقد أثروا بالتأكيد على فنانين آخرين تلوهم، كمارسيل خليفة وغيره. مثل هذه اللهجة مستمرة، لكنها تبدو كما لو بدأت مسيرة انحدار سريع، منذ أواسط التسعينات على أقل تقدير، إذا ما دققنا في توجهات المغنين اللبنانيين، وحتى الملحنين والموزعين اللبنانيين.
قد لا نأسف كثيراً إدا ما كان ذلك تأسيساً لجديد، أو دمجاً للهجاتٍ عربية أخرى في نسيج اللهجة اللبنانية في الغناء العربي، لكن الأسى سيكون بالتأكيد مضاعفاً إذا ما تحقق ما يلوح من أن التوجه العام اليوم هو نحو الغاء كل علامة على الخصوصية من أجل زيادة المبيع، وتحقيقاً لحلم البعض بعالميةٍ ما. فالرحابنة كانوا أيضاً أحد الأسباب المبررة لاستقلال بلد يبحث عن مقومات وطن. والاجماع في الحرب على صوت فيروز كان أيضاً محاولة من فئة لامتلاك ما تعتبره فئة أخرى رأسمالها الثقافي والرمزي، لكن هذا الإجماع كان أيضاً رمزاً على تعلق الجميع ببعض ما يبرر استمرارهم، رغم الحرب، في الانتماء إلى بلدٍ واحد، له كما لكل البلدان خصوصياته التي يصوغها أناسٌ يحلمون، حتى وإن كان البلد مغايراً ومبايناً لحلمهم، كعاصي الرحباني وأخيه.

Aucun commentaire: