jeudi 3 janvier 2008

أبواب للمدن



ملحق النهار الثقافي، تشرين 2007


أبواب للمدن مشرعة على الزمن


باب أول: ليس المقصود طزاجة سياسيينا، بل ذاك الباب الذي كان يلوح للقادمين من الصحارى شاهقاً بديعاً، باب زويلة بمآذنه الفاطمية، أو الأسوار الممتدة بين باب الفتوح وباب النصر. تلك القاهرة كانت، بلا ريب، حلماً يشهق له الآتي دهشة، ولا يسعه إلا التسليم بأن مدينة، ذاك بابها، هي حقاً "أم الدنيا" والمحروسة والقاهرة.

لا يزال باب زويلة، حين ننظر إليه من سوق "الخيامية" باهر الهندسة والروعة. لكن القاهرة التي كان يحرس قلبها امتدت كبقعة زيت في كل اتجاه. لا شك أنه بذل كل جهده لينتصب حارساً هناك، ينافس ربما أبا الهول المدفون في الرمال. لكن الصوت الذي كان ينطلق من المئذنة كان أيضاً يمضي في كل اتجاه، وكان يلاقيه صدى الحياة التي لا تكل في هذه الاتجاهات. الصوت الذي هو أيضاً زمن كان أوسع حيلةً من الحجارة الضخمة المشغولة. لئن بقيت شواهد، فإنه صار فعلاً. ربما أوصد باب زويلة طويلاً في وجه زوابع كثيرة، إبان زمن الفاطميين والمماليك البهي في القاهرة وطرابلس والشام، لكنه كان أعجز من أن يصد أصداء الزمن مثلما نعرف. على باب زويلة، بحسب إحدى الروايات، انتهى ايضاً زمن المماليك مشنوقاً.




للحياة مسالك غريبة ومتعرجة. في الجانب الآخر من الشارع المستقيم نفسه، شارع المعز لدين الله، شريان المدينة الفاطمية، يقف باب آخر، باب الفتوح، منكسراً. نرى أنياب الأسوار المثلومة. قبالة الباب محل يضع يافطته مجسماً صغيراً كرتونياً للباب العريق. الفارق بينهما كالفارق بين البابين. زويلة لا زال وسط أهله، تزحزح فقط من موقع الحارس إلى موقع الالفة. أما النصر والفتوح فباتا باهتين كالاسماء نفسها، أو كلون الحمير التي تعبر جارة وراءها عربات متعبة.

ابتلعت القاهرة أبوابها، ولم تخلعها، مثل باريس التي لا زالت تحتفظ بحفنة أسماء وبضعة أقواس حجرية، أو مثل طرابلس التي تحفظ الأسماء (باب التبانة، باب الرمل، باب الحديد) وتنسى أهلها. في هذه المدن لا زال هنالك خط، ولو اسمي، يقسم المدينة إلى قديمة ومحدثة، ولو أن القاهرة العريقة بها أكثر من مصر قديمة واحدة، ومدن جديدة متنابتة كثيرة. باب المدينة مدخل إلى العلم بها، إلى التيه بها والغرق، لكنه مقصد الغرباء دوماً.

باب ثانٍ: لست أدري إن بقي من أبواب دمشق (وبيروت؟) شيء، أم أن هستيريا التدمير الداخلي مستعرة الأوار. بيوت الشام الشهيرة تتوجه إلى الاقتصار على بيت أو بيتين، يجري تصوير مختلف المسلسلات السورية الرائجة فيها، دون أي تغيير، مثلما يجري تصوير الحارات في ما يسميه التلفزيون "القرية الدمشقية". أوّاه لهذه المدينة، الأقدم تاريخاً في رواية، والتي باتت "قرية".

حول "باب الحارة" أريق حبر كثير، تعرض للاستخدام السياسي للهجة الشامية وقبولها في العالم العربي، معتبراً في ذلك فك حصار للنظام السوري، أو تساءل عن مغزى إقبال الناس على المسلسل، مسقطاً بالطبع عليه أحوال العصر وغياب الزعيم (أو توقنا إليه) والحكيم (أو التشكيك به بعد فقد الأصل). وليس على هذا منعقد الاهتمام، إذا ما أخلّ المرء بالنظر إلى العمل أولاً بوصفه عملاً فنياً يحاكم بمعيار الفن على حسب الخطاب الذي يتبناه زاعماً تصوير ذلك العصر من زاوية الفن لا زاوية التاريخ. إلا أن الفن أيضاً لا يقوم على تزوير التاريخ أو تشويهه والتلاعب به، بطبيعة الحال. لذا قد يكون السؤال عن غياب أي دور عامل للمرأة، خلافاً لما كان عليه الواقع آنذاك، مبرراً تماماً.

يجب أن نضع جانباً الانتقادات اللازمة لرداءة الموسيقى التصويرية وفقر التنويعات (سواء بالعود أو الكمان الفائض البحة أو الأورغ) المقترحة على تيمات القدود الحلبية والشعبيات الشامية، وأن نطرح جانباً ايضاً فقر خيال المخرج في استعماله الرتيب لهندسة المكان، وقلة حيلته حتى عبأ ما لا يقل مجموعه عن بضع حلقات بأسماء المآكل والدعوات إلى تحضيرها. يظل هنالك سؤالان، متفاوتا المستوى، يستحقان ربما الطرح: غياب التوتر الاجتماعي الرئيسي أي السياسي عن الشاشة، وغياب صورة الشر وعلاقتها بنجاح الجزء الثاني من المسلسل.

إذ يبدو، أولاً، من غير المفهوم ألا يحضر المستعمر الفرنسي إلا في وصفه خيلاً، وليس في وصفه أيضا مساراً من المعارف وأنماط الإدارة والأحزاب والبرلمان والثورات المسلحة وغير المسلحة. حضور الآخر والمستوى السياسي في المسلسل هو حضور "براني" تماماً، حضور بارد لا يثير أي تفاعل في عمق المجتمع ولا يخترق حتى قشرته الهشة المبنية على فصل بين مراتب الرجال ومواقع النساء وعلى الداية رسولاً بين العالمين. في هذه الفقاعة المحيدة عن الزمن تبرز قضية فلسطين مسرباً، لكن خيطها واهٍ إلى حد أن فرداً واحداً فقط يمسك به (العقيد) دون أن تطرح القضية على هذا المجتمع مساءلة جدية لنفسه ومواقفه ومنظومة قيمه. وهذا طبعاً مخالف لما كان عليه الواقع، لكنه أيضاً مخالف لأي معطى درامي يفترض به أن يصور، كما في مسلسلات "حارات" القاهرة الأقدم عهداً والأوفر نضجاً (مثل "ليالي الحلمية") تطور المجتمع وتبدله، وتفاعله مع حوادث الزمن ووقائعه، خاصة متى امتد المسلسل على أجزاء متعددة.

لا شك، من جهة أخرى، أن براعة أداء بعض الممثلين وألفة أصوات آخرين كانت عاملاً مهماً في التغلب على مشاكل العمل التي أشرنا إليها، فضلاً عما يثيره المسلسل من حنين إلى تعابير وحركات (تجدر مقارنة حركاتهم في المسلسل بحركاتهم في "العراضة" التي نظمها تلفزيون المنار للتثبت من براعتهم) ومفردات وأسماء لأغراض العالم فقدنا القدرة على الإشارة إليها اليوم بألفاظنا نحن. لكن ذلك لا يفسر نجاح الجزء الثاني الشعبي الباهر في مقابل النجاح المتواضع للجزء الأول الذي هو أفضل منه فنياً بحسب برهان علوية محقاً. أزعم أن سبب هذا التفوق للجزء الثاني هو تحديداً غياب التوتر الدرامي واقفال باب الزمن على لحظة الحلم هذه وتغييب صورة الشر الداخلية المطلقة لصالح شر الخسة أو شر "الغريب". فالمسلسل مطمئن على هذا المستوى، ذلك أن الغريب (الأعمى المزعوم) هو القاتل، وهو ما نعرفه منذ العام الماضي، أما الشر المحلي المطلق الذي مثلته صورة الايدعشري فقد انتهى أيضاً في العام الماضي، ليحل بدلاً من الشرير المتعجرف القوي المحنك، وإن تاب لاحقاً، صورة النمام الخسيس صاحب الثأر القديم كعذر مخفف. هكذا يحل الخارج والغريب في صورة الشر الحقيقي والمكشوف مسبقاً، في حين تنفى عن الداخل قوة الشر لتستبقى خسته.

هذه الحارة لا تحب الغرباء، وهي حين تقابلهم لا تتفاعل معهم، بل تكتفي بالدوران في حلقة أعرافها الداخلية وفي زمنها الدائري التكراري وفي جغرافيتها الواضحة المعالم والحدود والمقسمة حيزاً فحيزاً وفق العرف (لا الدين) والسلطة. إنه، مجدداً، الحلم بأن يتركنا العالم وشأننا، مطمئنين إلى ركود الزمن، هانئين في هامشه. تفوح من المسلسل رائحة الحنين، كقهوة الأم نغمض أعيننا حنيناً إليها. لكن إذاعته على قناة فضائية ليست إلا مفارقة مضحكة.



باب ثالث أو، للدقة، "بين بابين": حين جلست، مع الرفيق ولا ثالث لنا، قبالة درج بيت الشيخ إمام المتهدم وبابه المتهالك، قال لنا صاحب القهوة، الرجل الذي نسمعه صبياً في بعض التسجيلات وبعضها في عيد ميلاده، إن الغرفة تهدمت، وأبو النجوم انتقل إلى تزعم جبهة المساكن الشعبية في المقطم. لكنه لم يتوقف طويلاً في الحديث عن "رجولة" الشاعر الذي كان يضرب امرأته، وفضّل أن يناقشنا طويلاً في عبقرية الشيخ إمام في العزف على العود.

في تلك العطفة من الغورية، قرب باب زويلة ومسجد السلطان الغوري وقبره، وعيت أن ما بقي من الثنائي إمام ـ نجم ليس "الشعر"، مهما نشر الفاجومي من كتب، بل سخرية كثيرة: سخرية الشيخ المغني بطبيعة غنائه، وسخرية نجم الذي ابتلعت شهرتها أسماء من كتبوا أيضاً للشيخ إمام ومنهم الرائع نجيب سرور وأحمد فؤاد قاعود وغيرهما، وسخرية القدر الذي جعل من شيخ ضرير يغني بغناء النصف الأول من القرن وكاتب شبه أمي منارة التقدميين في عصرهما، وسخرية القدر مرة جديدة التي جعلتنا مع صاحب القهوة نتحير في فهم طلبات الحشيش و"رص الحجارة حجراً فحجراً"، وفهم عبقرية ريشة الشيخ إمام، بعد أن فرقت توافه الأمور الصحبة التي وطدتها أيام الحبس والاضطهاد.

لكن يبقى أيضاً من هذا الثنائي أمر أشد أهمية ورسوخاً حتى من السخرية. إنها عدوى الحب. حب ذلك الزقاق في تلك العطفة من تلك الغورية، والتي ألف لها رفيقي أغنية... حب الحاتي وبائع الألبسة والقهوة... حب الباطنية القريبة وأبواب الأزهر المزخرفة... حب الزمالك دون كلابها، والأهلي دون "كباتنه"... حب الصوفية الأليفة والخرق الخضراء المعلقة على القبور، وحب الغرباء في موالد القاهرة يطوفون حول الحسين ومسجده دونما وعي باستحضار صورة الكعبة...

ربما هنا يكمن الفارق بين الثنائي إمام ـ نجم، وبين حجارة السياح أو مسلسلات الحارة السورية. مع صوت الشيخ إمام لا نشعر بالحنين الذي يبتزنا به مغنو الثورة اللبنانيون مطولاً، ولا برغبة في العودة إلى رحم الماضي الشامي البسيط التافه المشاكل، ولا نستحضر عيوناً غير التي لنا كي نرى، بمفعول رجعي، عظمة الأثر ونسجد لصانعيه.

مصر التي تنقل إلينا أغاني الشيخ إمام عدوى حبها لا تختلف البتة عما نراه ونلمسه ونشمه في حي الغورية أو الحسين. ولئن حسبنا أن الزمان قد فات على جزيرة الزمالك وتغيرت، فإن ديواناً ("شغل كايرو" لمحمود عزت) من ضاحية امبابة يعود فيرينا أن الجزيرة لا تزال عسيرة على غير أهلها وإن مدت جسور سريعة فوقها.

أغاني المرحوم إمام ونجم، مد الله في عمره ومنحه الصحة وحب المشاكسة على الدوام، لا تدعونا إلى اغماض العين لنتذوق حلماً متخيلاً عن الماضي، ولا إلى فتحها وراء عدسة الكاميرا التي تلعن وجود الناس في إطارها. إنها ببساطة وحب تصيبنا رغماً عنا بعدوى مقيتة: أن ترى الحال على ما هي عليه، وألا تندب أو تبكي أو تلعن. بل أن تضحك، زاعماً مع دولوز أنه لا محل للأمل أو للخشية، بل فقط لـ"شحذ أسلحة جديدة"، ومحل الاستشهاد هو بالطبع "جدة الأسلحة" أي خروجها عن مألوف ما هو متداول في ساحة الصراع التي لا تفتأ تحول الضحية إلى جلاد بالنصل ذاته، سواء أسميناه عزة ورجولة أو أسميناه ممانعة وصموداً أو حقاً "تاريخياً".

ثمة في تلك الموسيقى عبق "لا تاريخي"، رغم اندراجها في سياق محدد، بين زمنين (زمن النهضة وزمن الانحطاط الجديد)، يجعل منها في كل مرة دعوة إلى العيش في الحاضر وليس الهروب منه، إلى أمام أو إلى خلف وهما في الواقع الواحد نفسه. بين بابين مشرعين على هبوب تيار الزمن، لا موصدين على الحلم، تعبر هذه الموسيقى وتغزلها المودة.

Aucun commentaire: