هنالك، على أطراف الخليج، الذي سمع صوت السياب الناده لعراقه الجريح، والملتهب بآبار النفط والصراعات، بقعة تبدو كما لو أنها خارج منطقتها، جامعة بين الزي والعمامة التقليديين والانترنت، وبين وقوعها على تقاطع الطرق التجارية الدولية منذ القديم، وبين هدوء مستقر ومستغرب. هنالك، حيث الخبر الأول في نشرات الأخبار لا يتعدى برقية تهنئة من جلالته إلى رئيسة فنلندا (تلك الدولة الخرافية الأخرى، وهل نحلم سوى أن نكون مثلهما) للتهنئة بعيدها الوطني (آه، هنالك من يحتف بأعياد الأوطان؟).
في عمان، يغفو الأهالي، إذا ما صدقنا التلفزة، على وقع الموسيقى الأوروبية التي تؤديها الأوركسترا السيمفونية العمانية، برقة بالغة، وهناك أيضاً تعقد مهرجانات ونشاطات ثقافية، وموسيقية، بعيدة عن العراك اللفظي السطحي الذي نسميه حواراً. هذا الأسبوع، في مهرجان العود، (الذي سمح الانترنت بمتابعته)، كان الحوار بين المدارس المختلفة للعود، دون تعصب أو حساسية، فقد ضم عازفين من سوريا والعراق ومصر، وأيضاً من إيران، ومن تركيا ومن اليونان، فلكل هذه المنطقة تراث مشترك، يحفر في النفس أعمق كثيراً من حفر القنابل التي يسعى هذا الطرف أو ذاك إلى استملاكها.
في هذه العجالة، لا مجال لمتابعة مستفيضة لجميع من شاركوا في المهرجان، لذا سنكتفي بإشارة سريعة إلى ثلاثة عازفين هم، لأسباب متعددة، أبرز من لفت الأسماع إلى الاختلافات الكبيرة وأبرز من لمعوا في هذا المهرجان، في رأيي الشخصي.
عثمان يوردال توكان، الغني عن التعريف لمتابعي العود، الآتي من تركيا، محملاً بمدرسة عريقة، وعميقة النزعة الروحية، جاء أيضاً بتأثرات العزف التركي على العود بتراث الساز، وتقنياته، لكنه جاء أيضاً بارتجالات وجمل ونبرة تعكس قلقاً اليوم وتوتره، وانشداد تركيا نحو عالم أوروبي، يبدو السلام مميزه الأول. بين الروحانية والسلام، يقع القلق، برزخاً، مثلما يقع استخدام توكان لصدى آلته الجميل ولقرارها الفخم، في درامية لا تنفك لحظة عن شرقيتها، ولا ينخفض منسوب توترها وأسرها.
الأسر، هو مميزة أخرى بارزة لدى نصير شمه، العراقي، وأحد أشهر العازفين في يومنا هذا، الذي يعرف كيف يأسر اهتمام الجمهور منذ اللحظة الأولى، حين، بعد سهرة من العازفين، يتساءل، كعنترة عن شعرائه المغادرين، إن كان انتظار الجالسين لم يطل، ممازحاً بالطبع، أو حين يستدر مواقفهم من شهداء العراق، أو من تراثية الفرس ورمزيتها، أو من عراقة آشور إلى قيثارات اشبيلية. يعرف شمه جيداً كيف يقدم نفسه، إلا أن عزفه لا يقل ابهاراً، في رشاقته وأناقته، ومزاجه المبني أساساً على مدرسة الشريف محي الدين حيدر، الموزع بين تركيته وعراقيته، وتصويريتها. يقدم شمه صوراً بارقة الألوان، ويستغل قدرته التقنية العالية، ليقدم أحد أروع الاستعراضات التي يستطيع محبو العود أن يتفرجوا عليها. لكنه يقلل من الارتجال، ويكاد يبدو أن شهرته تجعلنا نحس أنه بات يكرر نفسه في أعماله، لكن نبرته ومزيجه يظلان، منذ الضربة الأولى للريشة، معلماً خاصاً به.
المفاجأة الأكبر في المهرجان، وهي ليست الأكبر لمن كان يتابع هذا الشاب الذي قد نطيل الكلام عنه لكونه غير مشهور حتى الآن مقارنة بالآخرين، كانت حازم شاهين، المصري الاسكندراني، وتلميذ نصير شمه في أحد مراحل دراسته، وتلميذ عبد المنعم عرفه في مرحلة أخرى، والعامل مع عبده داغر في ثالثة، لكنه يظل دائماً نفسه، خاصاً ومميزاً وضارباً في أسلوب عزف مصري الجذور، لكن غير منغلق، بل منفتح على النفس العميقة وعلى الآخر. يفترض أن يتمكن متذوقو الموسيقى في بيروت من الاطلاع على أول قرص مدمج، لحازم وفرقته، واسمه "العيش والملح"، على اعتبار أن المنتج شركة لبنانية (انكوغنيتو)، وربما نعود إليها لاحقاً، لكن عزفه المنفرد يظل متفرداً.
في الارتجالات التي سبقت المقطوعات الثلاث التي قدمها العازف الشاب (وإحداهم كانت "العيش" من تأليفها، في حين جاءت االأخرى من تأليف عبد الوهاب وفريد الأطرش)، بدا واضحاً أن ثمة نفساً جديداً في التعامل مع هذه الآلة، يهدف، ليس إلى التطريب فحسب، ولا إلى رسم لوحات على الطريقة العراقية، بل إلى التقاط نبض الزمن والشباب والعنفوان. في القطعة التي ألفها شاهين نلحظ أحد آثار مدرسة عبده داغر، أي تركيب الجمل الموسيقية، تأسيساً على فكرة السؤال والجواب التراثية، بحيث تتضمن بينة الجملة نفسها مساحة للارتجال المنضبط ايقاعياً وزمنياً. استبطان الإرتجال في التأليف، يتوازى ويتوازن مع قدرة هائلة لدى هذا الشاب على "تأويل" الجملة الموسيقية، بحيث تخرج من حالتها السكونية المكتوبة أو من ألفة سماعها، نحو الإعراب عن مخزوناتها وتوتراتها وقلقها الداخلي غير المستقر إلى على التلاعب مع الزمن.
فكرة العلاقة مع الزمن تتوازى في العزف مع العلاقة مع الإيقاع من جهة، والقرار من جهة أخرى. إذ يتم التعامل مع القرار كما لو أنه الأرض التي، في الأساطير، يستمد العمالقة منها قوتهم كلما مسوها. أما الإيقاع فإن شاهين يعرف كيف يحافظ على إحساسنا به وإسماعنا له في كل نبرة، بحيث لا تنخفض متابعتنا وانشدادنا إلى المقطوعة أو التقسيم، إلا كما تتحرك "الموجة" ("ي الموجه" هو أيضاً عنوان لإحدى مقطوعات القرص المدمج) في توتر لا ينقصه السكون، ولا يخرج إلى الزعيق. في شكل غريب، يجمع شاهين بين كل تقنيات العزف، بالريشة وليس بالأصابع كما يفعل نصير شمه أحياناً على طريقة الغيتار، وبين جناحي الإيقاع والجملة، ويخرج من العود طاقة فرقة متكاملة، متنقلاً بين القرار والجواب، وبين الهمس والشدة، لكنه يضيف أيضاً جناحاً ثالثاً من لهب، لا ندري بالضبط كيف يخرج، لكن منبعه واضح، من نفثات الروح المتوثبة. فجأة، تصبح النغمة لاذعة، محرقة، لكن دون شجن تقليدي ودون استدرار للعطف، إنها حرقة التوثب، لا أسى الخنوع. بجناحين من تقنية وإحساس، وثالث من لهب الروح، يشعل فينا شاهين روحاً مغلولة ويطير إلى فضاء الحرية الأصفى. معاً نغدو عصفور نار
jeudi 3 janvier 2008
عصافير النار
مقالة نشرت في ملحق النهار الثقافي، كانون الثاني 2007
مهرجان مسقط للعود: معاً نغدو عصفور النار
للاستماع إلى مقاطع من الحفل
Inscription à :
Publier les commentaires (Atom)
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire