mercredi 21 mai 2008

معارك السماء، معارك الجلد


"معركة في السماء" لـكارلوس رايغاداس
صراع على الجلد المكسيكي
نسرت في النهار، تشرين الثاني 2005

المعركة ليست فقط في السماء، بل عليها. وعلى جلدها المشدود. في الجلد ينحفر القانون، كما أشار كافكا. في جلد ماركوس، رجل الكولونيل، انحفر القانون وسلطة الدولة. كل يوم يساعد ماركوس الجنود في مراسم رفع العلم وإنزاله. في جلده أيضاً انحفرت الجريمة، حيث مات الطفل الذي خطفه ماركوس بمعاونة زوجته، الضخمة الجثة بقدر ماركوس نفسه. وحين تعود آنا المراهقة، ابنة الكولونيل الذي يعمل ماركوس لديه سائقاً، وحين تذهب إلى "البوتيك"، بيت الدعارة التي تزاولها آنا للتسلية، تنحفر الرغبة أيضاً في جلد ماركوس، الذي لا يتورع المخرج المكسيكي رايغاداس عن استعراضه، كاشفاً بشرة سمراء وبثوراً كثيرة وقبحاً تزيده الكاميرا سطوعاً لأن ضوءها لا يكاد يسيل على هذه البشرة، بل يلتصق بها كغراء قديم مُصْفّر. بل إن رايغاداس لا يتورع عن لجم كاميراه لتسجل صاغرةً بزوغ سوائل الجسد: تقطّر العرق من طرف قميص ماركوس، البول قبل الجريمة الثانية، دموع آنا في نشوة صوفية لفرط تأثرها برعشة ماركوس جراء الجنس الفموي الذي يفتتح في لقطات بديعة الفيلم، ترافقها أصوات التنفس الهادئ والمنتظم.
يبدو لي أن رايغاداس هو أول مخرج يولي كل هذه العناية إلى الصوت في فيلمه. تارة يعزل صوت النَفَس، أو وقع خطوة محددة من بين آلاف يعبرون في مترو مكسيكو، وتارة يترك لزعيق المعلق الرياضي على التلفزيون المجال كله ليصمّنا بتفاهات الدعاوة الرسمية. قبل أصوات الزيّاح الديني، تعلو موسيقى تصويرية هاذية دافقة، لكن امرأة تترجل من سيارة أمام محطة بنزين تطالب بإسكاتها، متساءلة :"من أين تأتي هذه الموسيقى؟".
للمرة الأولى ربما (منذ جاك تاتي الذي كان يخلق طرفاً بديعة من خلال الأصوات الساطعة في برودة الهندسة المعدنية) يخترق أحد البديهة القائلة إن الأذن، بخلاف العين، لا تستطيع عزل تفصيل واحد بين عدة. التزاوج الذكي مع الآلة، ومع شريط الصوت في الفيلم، بات يسمح بإجراء لقطات مقربة "زوم" للأصوات، لا تكتفي بإشاعة مناخات مرغوبة ومحددة، كما هي حال الموسيقى التصويرية عادة، بل بتكوين فيلمٍ موازٍ، يتفاعل مع الصورة دون أن يكتفي بترجمتها، ويحض على التساؤل والتنبه لا على الفهم السهل والبسيط.
إثر جريمته الثانية، ينهار ماركوس ويرتمي على ركبتيه في زيّاح طويل يحج إلى كنيسة سيدة الغوادلوب، يقنّعه أحد ممتهني الحماسة الدينية صارخاً في أذنيه بمكبر الصوت: "لا أثداء بعد اليوم، لا أثداء بعد اليوم..."
بالطبع لن يمتلك ماركوس ثديي آنا بعد اليوم، لأن التناقضات، التي لم تكن سياسية فحسب، كانت ضخمة حد التفجّر: القبح/ الحسن، الكبر/ المراهقة، الهندي/ البيضاء، الفقير/ الثرية، اليائس/ اللعوب، المسحوق/ ابنة الجنرال...إلخ
لكن دمعة آنا التي تفتتح الفيلم وضحكتها التي تختمه تشيران إلى اللحظة الوحيدة التي سمح فيها تقارب بشرتين هائلتي الاختلاف بتجاوز كل الثنائيات السابقة، في سماء الرغبة.
يتمزق ماركوس بين سماوات ثلاث: الوطن، الجنس، والكنيسة. وإن كان الأول يعمل كأداة لتقسيم الزمن وصهره في قوالب ثابتة، وبلهاء، والثاني يعمل كأداة للخروج على كل تقسيم (مثلاً دورة الكاميرا 360 درجة، خارجة من نافذة غرفة آنا، لتعود إليهما في "موتهما الصغير")، فإن حضور الكنيسة يخترق بخاصة علاقة الشخصية الرئيسية بامرأته والجيران، وتتحول الكنيسة إلى الملاذ الأخير، الذي بالطبع يصادر كل احتمالات الخلاص، والذي حين نأوي إليه... نموت.
ربما لن يُعرض فيلم رايغاداس في لبنان، ذلك كي لا يُفسد استمتاع اللبنانيين بلهجتهم المكسيكية ولئلا يستفيقوا على أشياء أخرى تأتي، لا من بلاد العم سام، بل من بلاد العمتين: ماريا مرسيديس وسلمى حايك.

Aucun commentaire: