mercredi 21 mai 2008

الانحناء على جثة لبنان، حنو وليد صادق



الانحناء على جثة لبنان
نشرت في ملحق النهار في تموز 2007


في بينالي البندقية العالمي، وفي إطار المشاركة اللبنانية الأولى من نوعها، قدّم الفنان وليد صادق عملاً بعنوان "الحداد في حضور الجثة" طرح فيه ما يلوح لنا أسئلة بالغة الأهمية عن عجز اللبنانيين عن الحداد ـ معاً، وكيف تم إفراغ الدماء المؤسسة للوطن من وطأتها الرمزية وذلك من خلال الهرب إلى غنائية مظفرة عن الوطن الحلمي.

هذا العجز المزمن تبدى مراراً في التاريخ اللبناني القصير، وهو يهدد مرة جديدة لبنان المعاصر، بعد انتهاء معركة التحرير وفي خضم معركة الاستقلال، إلى حد أن الجثة التي قد يوجب علينا أن نبكيها قد لا تكون هذه المرة سوى جثة الوطن نفسه.

لم ينشر صادق بعد نصه بالعربية، لذا لا محيد عن تمهيد لا يخلو من بعض تلخيص، مخل وناقص ضرورةً، تمهيداً لمماشاته، وعجزاً عن مجاراته، إلى تخوم النقاش الذي نحسب أنه لازم للخروج من الزمن اللبناني الدائري والدموي.

الحداد زمن حضور الجثة

تبدأ الرحلة في قاعة عزاء حديثة البنيان، ناصع بياض جدرانها، خالية من شواهد آلام المسيح وقيامته. يغدو البياض إذاً أفقاً لا يسع الميت أن يتخطاه نحو خلاص نهائي. التابوت المفتوح يجعل حضور الجثة يخرس ألسن الحكواتيين اللذين، ما إن ينطوي على صاحبه، سيشرعون في الحكاية التي تجعل الميت ميتاً والفراغ الذي تركه بياضاً ما بين الكلمات.

في القاعة أيضاً، المترمّلة Not yet widow (تمييزاً لها عن وضع الأرملة الذي لم تبلغه بعد، ولن تبلغه قبل أن يغادر "زوجها" نحو الحكي). المترملة، في وصف صادق، هي التي أسقط في يدها اسمٌ لا تدري ما تفعل به. اسمٌ فائضٌ لا مسمى له، بعد الآن، هناك محرقاً في راحة اليد، وعلى رأس الأنامل.

يستعين صادق بحكاية هينريش زيمر ليثبت أن الصمت ضريبة الجثة. لا يسع الملك أن يأخذ الجثة لدفنها إلا متى غار في الصمت أمام سؤال شبحها. حين طرح عليه الشبح لغزاً أخيراً، بهت وتحيّر، وظلّ سادراً في صمته، عندها منحه الشبح الجثة. والحق أننا نرى في حالة البهت شلل الفكر، لا جداله مع نفسه، وعجز الأفكار عن تخطي تحدي التجربة ـ الحد، لا تناسلها من هواجسها.

أياً كان الأمر، لا شك أن المرء إذ يدخل زمن الحداد يتقدم مثقل الكتفين بحمل إضافيّ فائض، حمل الجثة التي لم تتبخر بعد في فضاء الحكايا.

منتقلاً من مستوى العائلة إلى الوطن، يتساءل صادق كيف يمكن للناس أن يساعدوا المرء على الاستعداد للموت والتهيؤ لقبوله (أي القيام بما يبدو وظيفة المجتمع الأساسية)، إن كان هنالك خلاف على قيمة الموت نفسه؟ لم يسمع أحد دعوات المثقفين الكثيرة إلى التوحد في ظل العذابات المشتركة. ذلك، في رأي صادق، أن للموت معاني كثيرة وقيمة متفاوتة بحسب الجماعات والطوائف. وفي ظنه، على ما يلوح، أن التوحد لا يتم سوى في حضور الجثة وزمنه. لكن الشهادة التي يرفع إليها المتحاربون المختلفون قتلاهم تحرجها الجثة.

وحده كان يسمح بمثل هذا الصمت الواعي، بحسب صادق، تمثال الشهداء القديم الذي نحته يوسف الحويك، مصوراً "مترملتين" لا تتلامس أصابعهما المحيطة بإناء الرفات المترمد. لكن سرعان ما تم استبداله، بما نحته الإيطالي مازاكوارتي الذي يصور، على العكس، الشهداء حشداً ومسيرةً (لا رفاتاً مترمداً) نحو النصر والحرية الظافرة. عنى هذا الاستبدال، في نظر صادق المستشهد بكتاب تويني وساسين عن ساحة البرج، انتقالاً من حالة الحداد إلى الاحتفاء بالنصر.

زمن الحداد الإيروسي

يبدو زمن الحداد في حضور الجثة إذاً زمناً "إيروسياً" بامتياز متى تذكرنا وصف سقراط في المأدبة لإيروس" ابن أبولون والشحاذة، ذاك المتقلب بين السعادة والأسى، بين الصحة والمرض، بين الوصال والجفاء، دون أن يبلغ حداً لأي حال.

فالمترملة هي الفقيرة التي لم تفارق زمن الزوجية ولم تفتح آفاق الآتي، والحاضرون بين التفكر في أثر المآل النهائي الذي ينهي بالإخفاق كل المشاريع وبين عافية يحسدون عليها. إنها، بخاصة، اللحظة التي تسمح بابتكار المعنى، وهي "قابلته" على ما يصف سقراط، نقلاً عن ديوتيم، "الشيطان ايروس". بيد أن المعنى هنا لا ينبع من لقاء وجه بوجه، على ما في عمل ليفيناس، بل من المثول حول الجثة، أي من الاجتماع في دائرة حول الحد النهائي لأي معنى. لا وجهاً لوجه، بل التحلق بأنظار مصوبة إلى مركز الدائرة. المعنى هنا يأتي من تلاز الأجساد التي يسمح لها حضورها معاً بالخروج من زمن الجثة إلى الحكاية، أي إلى زمن اللغة والتواصل، كأنما سؤال الموت يفتح أفق المعنى في الوقت عينه الذي يشكل فيه جداره الأخير.

إلى حدّ ما، يمكن القول أن وليد صادق يعمل، على مدى أعمال عدة وبصبر دؤوب، على نسج حكاية أخلاقية تبحث في بنى اللقاءات والمجتمع، عبر ردها إلى مفردات لا محل فيها للنفسانية: الأب والابن أو الابنة، الرجل والمرأة، الانسان والأرض، الجثة ومترملتها، الأجساد والجثث، الجسد والوجه... الخ.

لكن اللقاء الأصلي ليس لقاء وجه الآخر، بل لقاء أجساد حية في حضرة جثة في غرفة بيضاء ما بها من صورة خلاصية. في هذا اللقاء يجد صادق نواة الاجتماع، لكنه يجد أن ما يمنع اللبنانيين منه إنما هو اختلافهم في تقدير قيمة الموت. لذا يمكن الاستدراك عليه أنهم في حقيقة الأمر لا يختلفون على هذا الأمر. فصادق يعلم جيداً، وهو عالج ذلك في عمل سابق بعنوان "جاين لويز تيسيه"، أن المتحاربين جميعا يحيلون شهداءهم وجوهاً بارزة السفور الواضح، في حين يتلثمون هم بالأقنعة واللحى والكنى. أي أن شهداء المعارك، أياً كانت وأياً كانوا، هم دوماً وجوه حاضرة بل جثث. تختم أكفانهم وتوابيتهم على عجل، ليكون التحلق حولهم إعلاناً عن اعتزاز الجماعة بقدرتها على تقديم ضريبة الحرب، لا صمتاً في حضور الجثة على طريق المعنى.

الفارق بين اللبنانيين إذاً ليس في اختلاف قيمة الموت، بل في طبيعة الجماعة. فمنهم جماعة "محاربة" وأخريات ندعوها تجاوزاً "مسالمة"، أي أن الأخيرة لا تحل قتلاها الشهداء في إطار معركة تسوير الجماعة، بل تسوير الوطن، إذا صدقت بالطبع.

بالمقابل، حين كانت كل الجماعات اللبنانية متحاربة، لم تكن اجتماعاً موحداً. ينبغي إذاً البحث عن سبب آخر لهذا الافتراق المزمن.

زمن ما بعد الحرب، لا زمن السلم

يكفي ربما أن نتساءل عن مبرر هذه السهولة التي يميز بها صادق ما بين الوجه والجس، وبين الجثة والشهيد. يرجع ذلك حتماً إلى نقطة أصلية هي الخروج من زمن الحرب إلى ما بعدها، أي إلى ذاك الذي يسميه صادق تجاوزاً زمن السلم، وما هو بسلم. فبحسب قوله في "جاين لويز تيسيه"، فإن الوجوه في زمن الحرب تتوارى، ما عدا الشهداء السافرين، في التشبه بالجماعة وحياضها، أما في زمن "ما بعد الحرب" فهي تتلطى جاهدةً في سعيها نحو إزالة قلق الحرب ومعانيها وآثارها عن صفحة الوجه المليسة.

أي أن في الإمكان أن نحدد في هذا الخروج من ومن الحرب إلى ما بعدها نقطة الإنطلاق في فكرة صادق عن استحالة السفور اللبناني، إذا ما كان السفور يعني الاختلاط وفساد الترتيب وآثار العيش ومواطن الاختلاف وسوء الفهم. في زمن الحرب وفي ما بعدها، يغيب الوجه الخاص الفردي السافر ولا تحضر إلا الأجساد أو وجوه الشهداء المعلقة على أسوار الجماعة.

الأيقونة والخلاص، ابتلاع الأسئلة

هذه الأجساد لا تنحو صوب الاجتماع واللقاء رغم تحلقها حول أموات جماعاتها، ذلك أنها لا تصمت حداداً، بل تهزج، هاذية بخلاص جماعتها وانتصارها.

لا يمكن لزمن الجثة أن يكون قابلة المعنى واللحمة ما لم يؤدي سؤالها إلى بهت الفكر وتحيره. لكن في حضور الأيقونة والقرآن، وهزج الشهادة ما ردّ به الإنسان (أو توهم الرد) على سؤال الموت. لذا كانت إشارة صادق إلى غياب نموذج القيامة الخلاصي أساسية في رسم مشهده الأول في الغرفة البيضاء.

يصير التخلي عن أفكار الخلاص والمهدوية والمسيحانية والقيامة والبعث والنصر النهائي على آفات الحياة وشرورها شرطاً لازماً وأساسياً كي لا تبتلع شبكة الأوهام والتأويلات المسبقة سؤال العيش والموت وأسئلة الاجتماع والزمن (كما في خطاب سياسيينا)، محولة إياها إلى أقنعة وأدلة زائفة على ما سبق التيقن منه والإيمان به.

علينا إذاً التمثّل بباكيتي الحويك اللتين يسميهما صادق بـ"المترمليتن". رفات من ذا الذي ترملت به وأيمت المسيحية والمسلمة معاً وتنحنيان عليه حانيتين؟ ربما يكون لبنان، الذي ذات يومٍ قريب اقترح عليه (وعلى العرب جميعاً) حازم صاغية أن يعلن الاستسلام والهزيمة أمام الغرب، فيما اقترح عليه ساطع نور الدين اعلان الهزيمة والاستسلام أمام النظام السوري. لبنان ذا الذي لا تعده الأناجيل ولا القرآن بالبعث والخلود. جثة لبنان على ما نعاين، سواء لبنان ـ الحلم أو لبنان ـ الساحة، بدأت عملها النشط في الجانب المظلم من الكينونة. ربما، إذا ما انحنينا عليها، نصمت معاً، وندخل معاً في زمن الحداد، وربما ـ ربماـ زمن السلم والمعنى.

Aucun commentaire: