lundi 10 mars 2008

زياد الرحباني والأشباح


ملحق النهار، حزيران 2006


كشاش أشباح الأورينتال جاز وأرباع الصوت الدرويشية والرحبانية




في عدد صحيفة السفير، الصادر يوم الأربعاء 30 أيار، وفي حوار أجرته معه الزميلة العزيزة ضحى شمس، أتحفنا زياد عاصي الرحباني مجدداً بآرائه الكشكشية، نسبةً ربما إلى كشكش بيه (الشخصية التي لعبها طويلاً نجيب الريحاني)، أو ربما إلى لعبة الغميضة (cache-cache) التي يحلو له أن يلعبها أحياناُ مع محبيه من المستمعين، مستعيضاً عنهم بجمهور من القراء أحياناً.


الجديد في الحوار هو تطور أراء الرحباني الصغير في الموسيقى، حتى لتشابه آراء بعض الكتبة في الدستور اللبناني، وما أنزل الله به من سلطان من غير ذوي العيون الباصرة. فمن جملة ما قاله "أبو الزوز"، واستحال عنواناً للحوارـ النهر، أن ليس هنالك جاز شرقي ولا شيشاني، "وما نقدمه هو موسيقى كلاسيكية".


مثل كثيرين، كنا ننتظر أن يعود زياد الرحباني إلى رحابة الموسيقى، ومثل نسبة ربما تفوقهم كثرة كنا ننتظر أن ينسحب من مجال الوله الصحافي، "يا وله"، ضناً بوقته الثمين على أقل احتمال. فإذا بنا كالمستجير من الرمضاء بالنار، وكالهارب من "الدلفة إلى تحت المزراب"، ويا له من مزراب يؤكد الرحباني في أحد زواريبه أنه "نفّر" منه انفاراً اتهموا بالجاز الشرقي، بسبب اصراره على هذه العبارة. وفي زاروب آخر يعلن عن اكتشافاته النسائية بالقول إنه أقنعهن، وهن الراطنات بالافرنجية، بأن يغنين "بالعربية" إذ اقترح عليهن أن يغنين "مثل الرحابنة وفيروز"، معتبراً أن ما أدى إلى شهرة هؤلاء هو ما لحنوه دون ربع صوت، "وهنا يلتقون (أي الرحابنة وفيروز) مع سيد درويش" (يا للطامة الكبرى!).


كنا نود لو نخصص هذه المساحة لنقد "شريط" الرحباني مع لطيفة، والذي بات موضع سخرية لابتذال وتناقض ورجعية (معاً؟!) نجمة أغنياته "بنص الجو"، حتى من دومينيك حوراني! ولا يخفى أن الشريط متفاوت المستوى جداً، وأن ما فيه من "شغل جميل" كان مصاغاً على قياس فيروز لا على قياس لطيفة. لكن خطورة ما يورده الموسيقار زياد الرحباني، في هذا الحوار، يستدعي إعادة ترتيب الأولويات، لئلا يتخذه البعض مرجعاً في الموسيقى، كما سبق أن اتخذوه في العيش والسياسة!


إذاً، ثلاث نقاط: الجاز الشيشاني والشرقي، وتقديم الرحباني الصغير لموسيقى كلاسيكية، وشهرة الرحابنة وسيد درويش القائمة على تغييب أرباع الصوت الشرقية!


لا شك أن أبا الزوز عليم بأن تسمية عمله بالجاز الشرقي، أو بكوز الرمان، ما كانت لتؤثر على استقباله ولا على متعتنا به، ولا شك أنه في الحوار يقصد أبعد من مجرد الاعتذار من توفيق فروخ واعادة الاعتبار إليه جازياً عالمياً. يقول زياد أن الجاز جاز ونقطة. وأن له الحق في المرور بكل الحضارات لأنه بني على خلطة من كل الحضارات. هل يعني هذا أن الجاز، أو الجاز ونقطة، لو لم يكن بني على "خلطة" من كل الحضارات لما جاز له المرور بها؟ ألا يحق له أن يتخذ صفات مختلفة، كالجاز الأبيض والجاز الأسود، أو أن تكون له أصول متفاوتة التسمية كالبلوز والراغتايم، أو فروع ذات "نكهات" مختلفة سواء أتت تسمياتها مناطقية، كالجاز اللاتيني بأنواعه، أو أتت التسمية بحسب أنماطها وتطوراتها مع تنوع العازفين واختلاف التقنيات والإمكانات كالسوينغ والبي بوب والفيوجين والأسيد والأسيدسوينغ وغيرها؟


ألا تعني ملاحظة زياد الرحباني أنه اضطر إلى "كتابة" تقاسيم لبعض عازفيه، أيام "الجاز الشرقي"، أن ما كان يطلبه لم يكن متوافراً من قبل؟ فلو كان يريد فقط أن يعزف "جاز" أبو نقطة لكان في وسعه أن يعثر على كميات من العازفين الجيدين، ولو كان يريد فقط أن "يقسّم" العواد معه كما يقسّم وراء صباح أو عبد الحي حلمي، لوجد أرتالاً. لكن ما يريده لم يكن مسبوقاً، لأنه كان تماماً نتاج دمج روحية الجاز وبعض هياكله مع جملة موسيقية مختلفة ذات نفس وبنية "شرقية". أفلا يستأهل هذا الوليد عمادة؟


هل نعمّده "سمكة" بحسب الطرفة التي كان مارون عبود يرويها بظرف لا يوازى؟ أم نعمده موسيقى "كلاسيكية"؟ وهل المقصود بالكلاسيكية هنا مصطلح الموسيقى الكلاسيكية الغربية الموضوعة تاريخاً ما بين الباروك والرومنطيقية؟ أم المقصود هو إتباع منهج وليد غلمية في عبارة "الموسيقى الكلاسيكية الشرق عربية" والتي تعني حصراً تقريباً الموسيقى المصرية واللبنانية منذ انطلاقة ثومة وعبد الوهاب إلى وفاة كوكب الشرق؟ في كلا الحالتين لا أثر للكلاسيكية، الغربية أو الشرق عربية، في نتاج الرحباني الجازي، فلعله إذا يقصد الموسيقى التي باتت في العبارة الشعبية كلاسيكية لأنها تعتمد الأوركسترا السنفونية؟ حتى في هذا، نتاج الرحباني ضئيل، كما أن الأوركسترا السنفونية لا تتسع لباص عبود السعدي في تعريفها. أما اعتبار كل ما يدخل البيانو في نسيجه موسيقى كلاسيكية فهو يتجاهل أن البيانو نفسه الذي يعزف عليه صاحبنا لا يشبه البيانو الكلاسيكي! فضلاً عن أن الكثير من كلاسيكيات الموسيقى لا بيانو فيه، والكثير من لا ـ كلاسيكياته، أياً كانت التسمية التي يريد، تضم البيانو. بالطبع، الكلام عن الموسيقى التراثية أو الفلكلورية أو الكلاسيكية بمعنى القديمة لا يغنينا شيئاً في هذا المقام، فلا يظل إذاً سوى تعريف مشهور، ونرجو ألا يكون المقصود، للأعمال الكلاسيكية، أي تلك التي لا أحد يعرفها لكن الجميع يتحدث عنها!


أخيراً، مسألة الرحابنة وسيد درويش. الرحباني الصغير أدرى بالتأكيد بتراث عاصي ومنصور وفيروز، أما أن يدعي أن شهرتهم قامت على غياب ربع الصوت، فمثير جداً للعجب، إذا تذكرنا تاريخهم منذ "وقف يا أسمر" إلى الموشحات المستعادة إلى الزجليات اللبنانية المسرحية التي شهرتهم على أساس أنهم يدخلون التراث في الحداثة، ناهيك طبعاً بدور فيلمون وهبي المظلوم دائماً مع آل الرحباني! أما الحديث عن سيد درويش فيغدو تزييفاً خالصاً لتاريخ الرجل الذي، وإن كان ثمن مبالغة بعض الشيء في تبجليه، لم يقصر في أغانيه المشهورة في استعمال أرباع الصوت، وتواسيعه كما في استعمال العشاق في دويتو "على قد الليل"، أو استعمال الأرباع إلى جانب البيانو في "البحر بيضحك والله" (مقام بيات)، أو في أدواره مثل "ضيعت مستقبل حياتي" (مقام شوري)، أو في موشحاته وأشهرها يا "شادي الألحان" (مقام راست)، أو حتى في طقاطيقه مثل "طلعت يا محلا نورها" (مقام جهاركاه وليس عجم كما قد يحسب البعض)، أو "اقرأ يا شيخ قفاعة" (من مقام العجم الذي يداخله الراست) أو حتى في خاتمة "الحلوة دي" (مقام حجاز) فضلاً عن "خفيف الروح بيتعاجب" (مقام حسيني) أو "سالمة يا سلامة" (مقام محير) ورائعته الشهيرة "أهو ده اللي صار" (في نسختها الأصلية المتأرجحة ما بين مقام المحير أيضاً وقفلة الكرد).


إذا كان صاحبنا يقصد أن ما سار واشتهر حتى طبق الآفاق، للشيخ سيد ولآل الرحباني، هو ما كان عزفه على البيانو ميسوراً، فلا شك في أن طول عشرته لهذه الآلة يكون قد أثر بعض الشيء على أحكامه التأريخية. أما إذا كان معيار شهرة الأغنية عنده هو غرام من لا تلين أوتارهن الصوتية لاصدار المقامات الشرقية، فإنه يكون يفترض لسيد درويش والرحابنة جمهوراً من الشقر زرق العيون حليبيي البشرة، على ما يحلو للأدبيات الإيرانية الاطناب في الوصف، ولا شك أن داليدا كانت ستشكل مغنية سيد درويش الأثيرة، وأن أجمل ألحان الرحابنة ستكون، في هذه الحالة، "كانوا يا حبيبي"!


نرجو لزياد الرحباني، ملحن "أنا عندي حنين" و"حبيتك تا نسيت النوم"، أن يقيم ما طابت له الإقامة بين "الكشاكش" (وقد خطر لي الآن معنى جديد لها) وبين "المزدوجات" والخطوط الحمر. ففي ما سبق أن قدمه لنا من "أغانٍ طربية" (أي أغان مطربة وإن لم تكن تتبع الطرب كنمط من الغناء)، ومن بدع "الموسيقى الكلاسيكية" ومحدثاتها، قدر من المتعة يكفي ليغفر له ما سبق من ذنبه وما تلا. ولا شك في أن الجمهور الذي يفد غزيراً إلى حفلاته لن يشعر بالغبن من جراء نزاع المصطلحات هذا. لكن جمهوراً آتياً سيفتقر بشدة إلى الآلات "الوترية الأفقية" (القانون والعود) التي يبشر حديث الموسيقار الرحباني باندثارها، بما انها تنهي احتمالات الشهرة للفنانين، وذلك لمصلحة وتريات "عمودية" (البيانو، مثلاً، إذا ما ظلت فيه أوتار

Aucun commentaire: