mercredi 21 mai 2008

وودي يفوز


"نقطة المباراة" لوودي آلن
العدالة في ملعب التنس

نشرت في ملحق النهار في تشرين الثاني 2005

مرّة جديدة يُكذّب وودي آلن كل القائلين بنضوب موهبته وخلو جعبته من المفاجآت. ها هو يعود، من لندن هذه المرة لا من نيويورك الأثيرة، ويحقق نجاحاً باهراً، بعد فترة من النجاحات النسبية منذ "احتيالات صغيرة". إلا أن انجازه لا يقتصر على النجاح الجماهيري المستحق، أو على تغيير اللهجة التي اعتدنا عليها في أفلامه. الفيلم مفاجئ في العمق منذ أول نوطة في موسيقى الجنريك وحتى مفاجأة الختام، إلا أنه على خلاف ما حسب البعض، ليس على قطيعة تامة مع ماضي وودي آلن السينمائي، بل على حوار أكيد معه.

ثقافة الأسياد

بذوق الخبير المحنك يختار آلن الأوبرا (بدل الجاز المعتاد) يرافقها حفيف الأسطوانات القديمة، متجنباً نقاء الأقراص المدمجة المعقم. اختيار محنك وهو في الوقت عينه تحذير للآذان التي ألفت قََطْع الموسيقى عن حرارة الحياة لتبتلعها مُغلّفة دائماً بالسيلوفان. منذ البدء، يظهر وودي آلن التمييز إذاً بين اختيارات الخبراء، وبين الاختيار الذي كان أي حديث عهد سيعتمده. وهذا هو التحدي عينه الذي سيحاوله بطله كريس، الذي يعلن محبته للأوبرا في صورة من يتحدى مخاطباً محدثة الأرستقراطي ذا النبرة الساخرة، صهره لاحقاً.
كريس مدرب التنس الذي سيترقى اجتماعياً في لندن بزواجه من فتاة ارستقراطية بعد أن أتى من أصل إيرلندي متواضع لأب اكتشف المسيح بعد أن خسر رجليه كما قال. تحدي كريس أن يثبت أنه يمتلك ثقافة "الأسياد"، أي أنه ليس مجرد قردٍ يقلدهم. لا داعٍ للشك في ذلك حين نستمع إلى حديثه، لكن وودي آلن بخبث خفي سيكشف للمشاهد ما لا يعلمه أحد: كريس مفضلاً قراءة حياة دوستويفسكي على قراءة مؤلفاته. العلامة الأكيدة على حداثة عهده بكل ما يلح على صَبْوه إليه، وإن كانت الثقافة الانكليزية ستتسلل إلى أعماقه كما يُظهِر في الختام المشهد الماكبثي. في المحصلة نفهم لماذا يصعب على كريس احتمال أي خطر يهدد نمط حياته أي، بحسب ما يرينا آلن، الأوبرا والمتاحف والمعارض والخيول...إلخ. لا شك في أن الثقافة تولّد حرصاً عليها يكاد يشبه الجبن، ومثال تسليم باريس خوف دمارها مرتين في الحرب العالمية الثانية خير دليل. غير أن الخطر الذي يهدد كريس له اسم جميل الوقع: نولا، الممثلة الأمريكية المبتدئة وخطيبة صهره المستقبلي توم.
ليس من قطيعة واضحة بين الثقافة وبين الطبيعة، في الفيلم، إلا أن الثقافة تبدو أساساً سلطة ترويض للجسد، وما فشلت فيه العائلة الأرستقراطية حيال نولا، التي سيتركها توم لاحقاً، سينجح إلى فيه إلى أبعد الحدوود حيال كريس، (الانتهازي أم الطموح؟)، وهو ما كانت الأمريكية الجميلة واعية له منذ البداية، كما يطهر من حديثها مع كريس في الحانة، وهو الحوار الذي يلتقط وجه كريس في لقطات قريبة ممنتجة (خلافاً للشائع عن طريقة وودي آلن) كأنما الكاميرا تبحث في وجهه عن قرينة ما، عن دليل على الوجهة التي سوف يتخذها، هو المشغوف صبوة، الذي يغازل بالأسئلة وكأنه هو التلميذ الذي لا يحور جواباً، حيال خبرة نولا وسطوتها وبهائها.

كرة المضرب وكرة الطاولة

يبدأ الفيلم باصطدام كرة المضرب الصفراء بالشباك، فيما صوت من خارج المشهد المتباطئ يشرح أهمية الحظ في الحياة، وهو ما يتمناه توم لوليد كريس في نهاية الفيلم. إلا أن معنى الحظ سيتغير بالنسبة إلى المشاهد في خلال الفيلم، لأن لقطة مماثلة للقطة الكرة ستصور لنا اصطدام خاتم زواج بحافة حديدية قبل النهر. أبعد من تشابه الكرة والخاتم في اللون والاستدارة، ومن السخرية الخفيفة والدائمة لدى وودي آلن من نجاح العلاقات الزوجية، ينجي سقوط الخاتم هذه الجهة أو تلك امرئ من السجن ويدين آخر.الحظ بالطبع!
لكن الجمل تتطاير في الفيلم شأن الكرات أيضاً، لذا تندر في الفيلم المشاهد التي تضم أشخاصاً ثلاثة، ويكثر الشفع (شخصان، أو أربعة يشكلون فريقين) وثمة غالباً فائز وخاسر. وإذ يلعب كريس كرة الطاولة مع نولا (وعلاقتهما ستكون ككرة الطاولة، متفجرة السرعة، لا متمهلة وتصاعدية كالتنس) فإن دخول خطيبها سيحوله سريعاً من خصم إلى حكم يريده توم متواطئاً في الحكم على جمالها. وكما أن للطاولة قواعد وتقنيات مختلفة تماماً عن التنس، فإن كريس خبير التنس ستتجاوزه الأحداث في كل مرة مع نولا التي رسمت الكرة البيضاء الصغيرة نجمة لقائه بها.
ثمة استعارة "رياضية" أخرى هي الشباك، التي تشكل النوافذ رجعاً لها. والعربية التي تقارب بينهما بليغة الدلالة. الشباك هو دوماً الشبكة التي لا يصطدم بها النظر، بل يخترقها، إلا أن الشبك أيضاً حد فاصل بين ملعبين لا يجوز تخطيه. النظرات تتقاطع أحياناً، إلا أن العبور إلى الجهة الأخرى هو دوماً الخطر الذي لا يفلح كريس في تجنبه. والشباك أيضاً عين الروح ودليلها إلى شقق وسيعة ثلجية البياض، وأخرى حميمة دافئة رغم تقلب الفصول. هكذا تؤدي استعارة الشباك نفس الدور الذي كانت تؤديه استعارة العين في فيلم قديم لوودي آلن: "جرائم وجنح" (1989).

جرائم وجنح

الحق أن قصة "نقطة المباراة" كانت متضمنة في "جرائم وجنح": علاقة غرامية تهدد نمط حياة رجل ثري. إلا أن الفيلم الجديد يتخفف من القصة الساخرة الموازية التي كانت تدور حول شخص وودي آلن، المخرج الوثائقي، وغيرته من صهره المنتج الناجح لمسلسلات تافهة. بالمقابل يثري آلن فيلمه بالتفاصيل في صورة الطموح، الراغب في الترقي الإجتماعي، الأبيّ ظاهرياً والذي يريد الدفاع عن نمط حياة ليس هو هدوء العادات الرتيبة، بل هو الثقافة، التي لا تعفي في نهاية الأمر من جبن وتخاذل ولا من ضِعة أو خبث.
كما أن المقارنة بين الفيلمين تؤكد ما كان ذهب إليه غومبروفيتش، في "البورنوغرافيا" خصوصاً، من أن الكبار عاجزون عن القتل إلا بالواسطة، كما فعل جوشوا في "جرائم وجنح"، بعكس الأصغر. في الفيلمين يتحاشى وودي آلن تعقيد المشكلة الأخلاقية (القتل) بمشكلة أخرى (إدانة بريء)، ففي الأول يختفي المجرم وفي الثاني يدان ميت. غير أن الرد على امتعاض البعض من لا أخلاقية غياب العقاب على الجريمة في "نقطة المباراة" يجد جوابه في "جرائم وجنح": في مشهد متخيل، تناقش العائلة غياب العقاب رغم فظاعة الجريمة، وتقول العمة إن الخيار متروك للمجرم، ما لم تمسكه الشرطة، فإما أن يختار عذابه النفسي، وإما أن يعيش متجاوزاً كل ذلك. وهو ما يردده جوشوا في النهاية، رغم تذكيره ببعض نوبات الشعور بالذنب التي تخفت من ثم وتتباعد. إلا أن وودي آلن يجيبه بأن أسوأ مخاوفه هي التي تتحقق في هذه الحالة: العالم دون ضابط، أو معنى، أو مبرر، وهو ما كان يسع العدالة أو قدراً قليلاً منها، أن تشكله.
إذ يعود أمر العدالة إلى الفرد، يتناسى كريس جملة أخرى لدوستويفسكي، هي التي بنى عليها ليفيناس إطيقاه: "الكل مسؤول عن كل شيء وحيال الكل، وأنا أكثر من الجميع".

Aucun commentaire: