إنصاف الشيخ سيد درويش: اختراع الذات
(إلى أبي العلاء)
نشرت في ملحق النهار، مطلع آذار2008
في الذكرى السادسة عشرة بعد المائة (17 آذار 1892 على ما يقال)، ورغم مرور أكثر من ثمانين عاماً على وفاته، إلا أن الشيخ سيد درويش لا يزال يثير الاضطراب في النقاشات الموسيقية. ففي مقابل المديح الإعلامي والرسمي الجارف له، واعتباره أباً للتجديد والتحديث والموسيقى العربية في القرن العشرين، فإن بعض المعلقين والنقاشات الرصينة لا تتوانى أيضا عن تحميله مسؤولية ما آلت إليه أوضاع الموسيقى (وإن كان التحميل يتم أساساً على عاتق عبد الوهاب) أو أنها ترى في موسيقى الشيخ سيد قصوراً عن مجاراة الفطاحل سواء من سابقيه كمحمد عثمان أو من معاصريه كالقباني وداود حسني، دون أن تغفل الإشارة إلى ضعف صوته وعدم صموده للمقارنة أمام كبار المطربين كمثل عبد الحي حلمي ويوسف المنيلاوي وسواهم.
بين اعتبار سيد درويش فاتحة التعبيرية العربية ومخلص الغناء المصري من عجمته التركية، بعد الفتح الحمولي الأول، وبين الحكم عليه بتواضع نتاجه وغنائه في مقاييس الطرب الأصولي ومعايير الغناء الخديوي، كيف السبيل إلى إنصاف الرجل، دونما تقديس ودونما افتئات؟ المشكلة في هذا المجال لا تتعلق بمحبة شخصية أو عامة لهذا النتاج، إذ أن الشعبية والانتشار، على ما تشهد الأيام، ليسا المعيار الأوفى في الحكم. وراء حيرتنا في التعامل مع الشيخ سيد مشكلة تحديد المعايير التي ينبغي اعتمادها مقياساً للتقدير.
فبالإمكان التساؤل عن موسيقى سيد درويش بالمقارنة مع نمط الغناء المتقن السابق عليه والمعاصر له، أي نمط الغناء الذي قام به أمثال الحمولي وعثمان والمنيلاوي والشيخ علي محمود وحسني والقباني وسواهم. هل "أجاد" الشيخ سيد درويش بمقاييس هذه المدرسة؟ هل أضاف إليها جديداً من داخلها، مطوراً قوالبها ومضيفاً إلى مقاماتها؟ بهذه المقاييس يبدو نتاج سيد درويش أكثر تواضعاً مما تحمل عليه شهرته، فباستثناء الموشحات التي أجاد وأطرب فيها، كماً (رغم أن العدد ليس أكيداً أيضاً بالرغم من مئات المقالات والكتب عنه) ونوعاً، فإن أدواره العشرة (أو الأحد عشر في قول آخر) لا تغني البتة عن أدوار الحمولي وعثمان وحسني والقباني وغيرهم، أما القصائد فلم يصلنا منها شيء، وأما أغانيه المسرحية فلم يسر فيها على هدى الشيخ سلامة حجازي الذي جعل من قصائده الشهيرة عموداً راسخاً من أعمدة المسرح دون أن يخرج فيها عن الإطار الموسيقى العام لعهد النهضة الموسيقية التي يصفها الباحث فريدريك لاغرانج بالخديوية، ويسميها نداء أبو مراد بالفصحي. أما الطقاطيق والأغاني الخفيفة فليست ترسو عليها أسطورة، على ما نعلم، وهي، على جمالها، لا تداني طرب طقاطيق عبد الحي حلمي مثلاً.
هل نقيس نتاج الشيخ سيد بمعايير "ايديولوجية" غير موسيقية؟ لقد لحّن الشيخ أغنيات للطوائف والحرف والجاليات المتعددة في مصر الكوزموبوليتية آنذاك، وغنى للوطن ومصر وسعد زغلول منتقداً الخارج والاحتلال. لكن، ناهيك عن أن هذه الأسباب لا تجدي في الحكم موسيقياً على الرجل، وإلا لفاقته طائفة كبيرة من ممتدحي الأوطان وقادتها، فإن الاعتماد على الطابع "التقدمي" للرجل يحجب عنا اختلاط نتاجه (كما هي حالنا أيضاً مع نتاج ابن خلدون الفكري) ودعوته إلى الشعبوية والإكثار من الأولاد والانغلاق دون الخارج وبقاء المرء في دائرته القروية أو وسطه الاجتماعي المغلق وعدم الطموح إلى "بنات البندر" وامتداح العريس بماله... الخ. ثم إن امتداح تخليصه للغناء المصري من عجمة عثمانية وعودته به إلى أصالته لا يتوافق، من ناحية أخرى، مع رغبة الشيخ الواضحة في تلحين أغنيات تصور جاليات غير مصرية، ولا مع توجهه إلى إدخال آلات كالبيانو وتوزيع موسيقي غربي، حرمه قصر حياته من دراسته في إيطاليا.
هل يكون معيار الحكم على سيد درويش انتشار سمعته، بعد وفاته بعقود، انتشار النار في الهشيم (رغم أن أغانيه لاقت أيضاً انتشاراً واسعاً في زمنه)، والإجلال الذي كان يقول به تجاهه معظم الملحنين الذين تبعوه، كزكريا أحمد وعبد الوهاب والسنباطي وسيد مكاوي؟ ليس ذلك أكيداً بدوره. فاتجاه زكريا، باستثناء طقاطيقه المسرحية، ليس فعلاً متأثراً بسيد درويش، ولا السنباطي بطبيعة الحال، أما تغريبية محمد عبد الوهاب فهي تتلطى وراء "نوايا" سيد درويش المفترضة لا وراء نتاجه، في حين أن تبسيطيته أتت متأخرة، حين شاء منافسة فريد الأطرش ومن ثم الموجي والطويل وبليغ حمدي. بل لعل الأقرب إلى القول أن القصبجي كان أوسع تأثيراً في معاصريه من سيد درويش، فعبد الوهاب اتبع النهج الذي فرضه القصبجي من خلال أم كلثوم وتحويل "تختها" إلى فرقة وكتابة لوازم موسيقية ودمج الآريا الاوبرالية في الغناء الشرقي من خلال تطوير فكرة المونولوج... الخ، أما السنباطي، في بداياته، فكان شديد التقليد للقصبجي، وقد نقل عنه بليغ حمدي قوله: "يا ابني، احنا كلنا كنا القصبجي"، وإن كان يُفترض استثناء زكريا أحمد من هذا التعميم.
رغم كل ما سبق ذكره، لا يمكن إنكار أن أعمال الشيخ سيد درويش تلقى قبولاً واسعاً، حتى لدى متذوقي الموسيقى الخبراء، وسهولة في الاستماع إليها بخلاف الأعمال التراثية الأخرى الأقدم، ناهيك عن "خفة الدم" الاسكندرانية فيها وتنوع مناخاتها وأجوائها. لذا أحسب أن من الواجب التنبه إلى أمور ثلاثة، متفاوتة المجال والأهمية على ترابط في ما بينها، في شأن نتاج الشيخ سيد، ألا وهي الجملة الموسيقية الدرويشية، وتطور المسرح الغنائي إلى مجال السينما، واختراع الذات والأنا في الغناء.
فجملة الشيخ سيد درويش الموسيقية، حتى إذا ما غضضنا النظر عن علاقتها بالكلمات ذات الطابع المسرحي غالباً، تشكل ابتعاداً عن الجملة المطولة التقليدية في الطرب، مثلما تشكل مرحلة أعقد من الأغاني الفولكلورية الشعبية البسيطة. إنها تأليف غير مطوّل، ولا يتطلب، أغلب الأحيان، أصواتاً جبارة لأدائه حتى في الأدوار، وهي تنقسم غالباً إلى وحدات أصغر منها وتتفادى بشكل كبير عرض هذه الوحدات على السلم الموسيقي المستعمل، مفضلة التكرار الحرفي وتجاور الأجزاء المختلفة، الأمرين الذين يمنحان هذه الجملة حيوية لافتة وزخماً متجدداً. هذه الجملة، البعيدة مثلاً كل البعد عن جمل سلامة حجازي بعدها عن "شغل" حسني والقباني الزخرفي البديع الصنعة، باتت أساساً لجلّ ما أتى بعدها من جمل موسيقية، فكانت فاتحة لأفق استماعنا المعاصر. فكان من نتيجة ذلك أن استماعنا لما سبقها باتت يتطلب دربة واجتهاداً لتحصيل القدرة على تذوق سلس، وأن استماعنا لما تلاها يزيد من استساغتنا لها. هذه الجملة "الدرويشية" لا نجدها بالطبع عند القصبجي الرصين، ولا عند السنباطي في بداياته رغم سلاسته، ولا عند زكريا أحمد أو حتى عبد الوهاب حين كان يغني "جارة الوادي" والمووايل الطويلة. إلا أنها عادت بقوة لتشكل مرتكزاً عملياً ونظرياً لكتلة ضخمة من الغناء عند فريد الأطرش ومحمد فوزي، ثم محمود الشريف والموجي وغيرهم، مثلما عبرت أيضاً إلى الرحابنة وبعض الحلبيين (على فرادة مخيلة بكري الكردي). تزامن ذلك أيضاً مع ايديولوجيا التحديث التي تزعمها عبد الوهاب، ومن ثم مع الثورة الناصرية التي سمحت بإعادة تسليط الأضواء على أسطورة الموسيقي المجدد الميت شاباً والذي طمسه عهد الملكية لأسباب سياسية... الخ.
ارتبطت هذه الجملة وتشكلت على الأرجح في المزيج الاثني والحضاري والمتوسطي الذي كانته الاسكندرية، كما ارتبطت بشكل واسع بالتلحين المسرحي الذي قام به سيد درويش، وتحيداً بنظرته إلى المسرح والغناء فيه بوصف الغناء أيضاً "تمثيلاً" للحالة المقصودة ولهجاتها ومشاعرها، ويفترض به أن يكون صادق الوصف موحي الدلالة على الحرفة والطائفة واللكنة. ويمكن أيضاً متابعة هذا التوجه، حين انطفأ المسرح الغنائي المصري لتضاء صالات السينما بأنوار النجوم، مثل عبد الوهاب وليلى مراد، وأيضاً بأدوار ممثلي الصف الثاني وأعمدة الأفلام الراسخة، كاسماعيل ياسين ومحمود شكوكو وثريا حلمي وسواهم. صحيح أن المعطى الاجتماعي "التقدمي" التوجه قد خفت بشكل كبير، إلا أن تمايز ألحان الشخصيات ورشاقة الجملة الدرويشية ظلا ماثلين ومثالين لما ينبغي فعله في التلحين للسينما حتى في أغانيها العاطفية.
هذه الرشاقة المشار إليها، وعدم تطلب غالبية ألحان الشيخ سيد لأصوات قديرة، وسهولة تناولها وتنوع مواضيعها، تزامنت في الواقع مع بدايات حقيقة لتكوين الفرد في المجتمعات العربية في بداية القرن العشرين، الذي كان من دلائله العديدة بدء مسار سياسي وحياة حزبية مصرية، وترافق ذلك مع انتشار الصحافة وبداية ترسخ الرواية، وتخلخل الرسوخ الطبقي السابق، وانتشار الغراموفون أبعد من منازل الأثرياء، وازدياد النزوح نحو المدن... الخ. في هذا السياق، يمكن القول بأن الفرد الناشئ وجد في أغنيات الشيخ سيد درويش ما يتخطى الأغاني الشعبية الفولكلورية، مع السماح له في الوقت عينه بأن يؤديه بنفسه تعبيراً عن مرحه أو عن خلجات مشاعره. في هذا الإطار ربما يجب وضع "التعبيرية" لدى سيد درويش، الذي لا يعبر عن الكلمة بمرادف موسيقي لها (وإن صادف ذلك في "يا ساتر" في لحن الشيطان فإنما هو استثناء)، بل يسمح للفرد بأن يجد صوته الخاص المعبر عن أناه، سواء الوطنية أو العاشقة أو ذات الشجن. لقد طمس أداء أم كلثوم وعبد الوهاب الأول هذا الوجه من موسيقى سيد درويش، إلا أن ازدياد بحث الأفراد الناشئين عن أصواتهم، وتحول السينما أيضاً إلى مرآة يرغب الناظر برؤية نفسه فيها، أعاد بشكل خفي الاعتبار إلى التوجه الدرويشي. كما أن "مضمون" الاستماع الوهابي والكلثومي كان يبحث غالباً عن هذا التماهي مع المطرب، لا عن مسافة ضرورية للحكم عليه، من أجل تحويل المغني لساناً ناطقاً بحال السامع.
لقد نظّر نجل الشيخ سيد بمفعول رجعي لهذا الأمر حين اعتبر أن ادوار سيد درويش إنما تروي جزءاً من سيرته العاطفية (دونما اعتبار لتاريخ صدور هذه الأدوار أو تسجيلها). بهذا التوجه بات الشيخ سيد درويش الصورة الأولى الواضحة (بعد الصورة المشوشة لعبده الحمولي) لفكرة "المؤلف الموسيقي" من حيث كونه "شخصية فنية" ذات سيرة وليس حرفياً صاحب صنعة، مانحاً أيضاً المستمعين إمكانية أن تكون لهم سير وشخصيات تحتاج معبراً عنها ومتنفساً لذاتيتها من خلال التماهي معه وإمكانية توقيع الصوت الفردي على نتاجه.
يحسب للشيخ سيد أنه يلزمنا بطرح كل هذه التساؤلات وسواها، ويشكل بؤرة تتوجه إليها أنظار البحث في الوقت عينه الذي يشكل فاتحة لأفق وعهد جديد، ربما لم يكن ليتبناه شخصياً بحذافيره. إلا أن من المؤكد أن تقدير الشيخ سيد درويش والإنصاف فيه يتطلبان التنبه إلى عدم جواز الحكم عليه بمعايير ثابتة، سالفة أو لاحقة، بل يتطلبان التنبه إلى أنه عمل داخل إطار القوالب التقليدية الموروثة، فارضاً على هذا الإطار دوراً ومضموناً ووجهاً غير مسبوقين، في الوقت عينه الذي شكل فيه جسراً بين مرحلتين (على غرار لبنان جسراً بين عالمين)، الأمر الذي يحرمه من الانضواء بشكل كامل في احداهما. من بركات الشيخ، وهي لا تحصى، تنبيهنا إلى أن النسق الغنائي النهضوي لم يكن نسقاً مغلقاً، ولا ينبغي له أن يكونه، بل هو نسق حيوي قادر على التجدد وتطوير معاييره، وتنبيهنا في الوقت عينه إلى الثقل الرمزي والوطأة المادية حين تتحملهما قنطرة الجسر حتى لتكاد ملامحها تغيم تحتهما.
mercredi 21 mai 2008
انصاف الشيخ سيد درويش
Inscription à :
Publier les commentaires (Atom)
2 commentaires:
مقالة ممتازة
تحياتي
شكراً يا محمد باشا
شرفت
Enregistrer un commentaire