"ليلة سعيدة و حظاً سعيداً" لجورج كلوني"
لماذا لا يستشهد الإعلامي مورو؟
(غير منشورة)
فيلم جورج كلوني الجديد "ليلة سعيدة..وحظاً سعيداً" ليس فقط فيلمه ممثلاً بل أيضاً مخرجاً. في هذا يبدو الممثل الوسيم أذكى من طلّته حين يرسم بالأبيض و الأسود عالم التلفزيون الجديد آنذاك في أميركا منتصف القرن الماضي. لا نملك إلا شكره على تضحيته بألقه و ببطولته المطلقة حيث يلعب الدور الثاني (فرندلي) خلف دافيد ستراتهيم الذي يؤدي ببراعة و صرامة دور مورو، المذيع التلفزيوني الذي أسقط السناتور مكارثي في عز سطوة هذا الأخير و لجنته و محاكم تفتيشه عن "شيوعيي" أميركا المفترضين. تقشف الفيلم في كل شيء و هدوءه الرصين يمنعاننا منذ البدء عن الحماسة و يعصمان منها. منذ البداية نرى مورو في خطاب ما بعد المعارك، ما بعد الفوز أيضاً، في خطاب المتقاعد الذي لا يسعه كتمان ما بقلبه من شجاعة، لكنها شجاعة الفشل المحتوم للمهمة التي اعتقد مورو أن على التلفزيون تأديتها، تنوير الناس وإطلاعهم على حقائق الأمور لا إلهاؤهم و عزلهم عن أنفسهم و عن الآخرين.
ذلك أن مورو الذي نجح في إنهاء سطوة مكارثي، و الفيلم يروي قصة هذا الصراع، ما لبث أن اضطر إلى التراجع عن السير في المواضيع الجدية، ثم تراجع حضوره التلفزيوني، أمام ضغوط شركات الإعلانات التي لم يعجبها هبوط عدد متابعي برنامجه من المشاهدين. اليوم، مورو أسطورة أميركية لا تجارى، بالمعنى الحرفي، أي أن أحداً في التلفزيونات الأميركية لا يعترف بالعجز عن مجاراته في المهنية و المناقبية و المعايير التي وضعها لبرامجه، وأداء هذه التلفزيونات منذ 11 أيلول إلى حرب العراق خير دليل، لكنه في حينه وُضِع خارج ساعات الذروة و همِّش.
لا يسع المشاهد العالمثالثي و اللبناني بخاصة سوى التساؤل: لماذا لم يبعث السناتور أحد رجاله لإسكات مورو بالطريقة المعروفة جيداً لدينا، الترغيب و الترهيب، و القتل في نهاية المطاف؟ لماذا فضّل الظهور على التلفزيون و محاولة تشويه سمعة مورو، ربما على أمل دفعه إلى الإنتحار كما حدث مع إعلامي آخر؟ و لماذا كان النقاش الرئيسي في الفيلم، و هو ما يستغرب أمثالنا بداهة الإجابة عليه، هل ينبغي على التلفزيون أن يكون موضوعياً حيادياً أم يجوز له، في الأحوال الخطيرة، أن يتبنى موقفاً و يدافع عنه؟ و كيف يتأتى للإعلامي أن يصير سلطةً؟ ماذا عن مسؤولي الشبكة الذين لا يظهرون على الشاشة بل يديرون الصفقات المالية و السياسية؟
طبهاً الإجابة عن هذه الأسئلة ليست سهلة، لا سيما خارج إطارها أي الإطار الزماني و الإجتماعي للولايات المتحدة، و إن كان تاريخها في الحريات ليس كله ناصع الإشراق، ولا يكفي تماماً لاعتباره رداً جامعاً مانعاً. ما يحسب لكلوني أن تقشفه الإخراجي و ضيق الأماكن التي اختارها و الايقاع الرتيب المتعمد للأحداث يسمح للمرء بالتنبه لاحتمالات الأسئلة و لا يجبره على اللهاث المتواصل خلف سيل الصور.
يقدم الفيلم عدداً من الإشارات على وجهات محتملة للإجابات أو لبعضها على الأقل: شهرة مورو لا تعصمه من الهجمات على سمعته لكنها بالتأكيد تعصم من القتل ما دام قد أشهر عدوه، لذا لا يكاد مرور يبدو خائفاً سوى من... الإعلام، فيتلهف على قراءة ردود الفعل على حلقته، و يرفض فتح معركة مع صحافي آخر يتهجم عليه و على أصدقائه قائلاً أنه ببساطة لا يستطيع أن يكسب إذا ما استعدى في الوقت عينه السناتور و صاحب الصحيفة. مع الأسف لنا، يبدو أن الأميركيين أضيق مخيلةً من الرد بأن القتل في هذا الوقت بالذات دليل براءة الخصم لشدة ما يبدو بديهياً توجيه الإتهامات إليه!! بحسب هذا الرد، يبدو أن الأميركيين يجهلون الحقيقة وهي أن القتلة لا يقتلون أعداءهم، بل أصدقاءهم، بهدف توجيه الشبهات إلى الأعداء، أي أن الرِيَبَ لا ينبغي أن تتوجه إلا في الأقربين!
من جهة أخرى، يبدو أن من شروط التنطح لمثل مهام مواجهة السياسة بالإعلام أن تسبق شهرته معركته، و ألا يكترث أصحاب الإعلانات بمضمون البرامج التي يعلنون فيها. من وجهة النظر الإقتصادية يفترض للعولمة أن تلعب هذا الدور تحديداً حيث أن المعلن كخريج مدرسة تجارة لن ينظر سوى إلى نسب المشاهدين، و في هذا ضمناً تبرئة لأصحاب الإعلانات و لأصحاب التلفزيونات من التهم المغرضة التي تصمهم بفرض البرامج التافهة على المشاهدين. أليس أن انخفاض المشاهدين هو ما أدى إلى انحسار مورو و ضمور حضوره، و ليس انزعاج المعلنين ولا السياسيين منها من مضمونها؟ أليس إذن أن الإعلامي قادر على الإنتصار على السياسة ولكن ليس على التفاهة العامة التي تستشري؟
لكن الواقع يغاير مثل هذه النظرات المتعجلة. فالواقع أن العولمة بعيدة من أن تعلن نهاية السياسة و الدول أو أن تزدري السياسة كإرث مضرّ متخلف عن عصرها الذي تديره العقلانية الحسابية البحتة. بل إنها تزيد شد الروابط بين شخوص الساسة و بين الشركات، و مثال بوش و تشيني واضح، و أقل منه شهرة تحوّل جاك شيراك بائع طائرات إلى حكام الصين أو روابط اليميني الصاعد ساركوزي وأخوه بأوساط أرباب العمل الفرنسيين، و آثار ذلك على السياسات الدولية جلية من حرب العراق إلى مؤتمرات منظمة التجارة العالمية و حروب اليورو و الدولار ... إلخ.
أما في العالم الثالث واقتصاداتها الذاوية فإن لهذه العلاقة إسماً هو الفساد، فلا يكاد ثمة سياسي بارز فيه ليس مرتبطاً بشبكات فساد و صفقات و علاقاتٍ مشبوهة لا سيما بالأوساط المالية، فالمال عصب السياسة في كل العصور، وما الفساد سوى البديل العصري لمصادرة الأموال و الضرائب التعسفية و الجباة والملتزمين مما لم نكد ننساه. الفارق إذن أن ما كان معتبراً جوراً بات "شطارة" و مصدر سلطة و عزوة. مع تنامي الإقتصاد و تعولمه لم يعد بمقدور أرباب العمل ترك السياسة للنبلاء و الإقطاعيين أو لذوي النسب و الحسب و العمل في صمت على تكوين ثرواتهم على أمل ألا تتعرض للمصادرة، بل بات عليهم في ظل تنامي العروض من كل حدبٍ و صوب إقناع السياسسن ببضاعتهم، أو استخدامهم لترويجها، كطوني بلير يبيع ترشح لندن لعشرات الملياريات التي تشكلها الألعاب الأولمبية.
اليوم، ليس بمقدور أي شبكة تلفزيونية، ولا حتى صحافة الرأي التي تحقق خسائر في كل العالم، النأي بنفسها عن التحالفات السياسية، حتى تلك التي يدفع مستقبلوها اشتراكاتهم، لأنه ما عاد من مسافة فعلية بين المعلنين و بين السياسيين. لذا يجري التفكير في فرنسا مثلاً بمشروع قانون، مستوحى من قانون منع الإحتكار في المطبوعات، يسقط ورقة التوت و يسمح لشخصية قانونية واحدة بامتلاك قناة تلفزيونية على أن يُكافَح الإحتكار لا من خلال فرض الملكية المشتركة بل من خلال مراقبة نسبة مشاهدي القناة و منعها من تجاوز حدٍ معين. الحالة اللبنانية في مثل هذا المعرض غنية عن الشرح لناحية نوعي الإحتكار إذا ما اعتبرنا جمهور كل طائفة لوحده. يبدو أن من الضروري إذن التفكير في إعادة هيكلة هذه القطاعات في لبنان في شكل أكثر شفافية.
لم يكن مورو يطلب من رؤسائه مثل هذه الشفافية بل كان جلّ اهتمامه ألا يفرضوا عليه رقابة، لا يتعفف هو عن فرضها على نفسه، لكنه يدرك جيداً أن الحركة والإعتراض هما وحدهما ما يوسّع دائرة الحركة والإعتراض، و هذه ما قام به عدد من الصحافيين في لبنان منذ مطلع التسعينات وإلا لما تحول الإعلام اللبناني أداة فعّالة إلى هذا الحد. ويعرف مورو أن ثمة مجازفاتٍ لا يمكن الإمتناع عن إرتكابها بدعوى إنتظار الوقت الأنسب و الآمن. ما دام الخوف قد بات في داخل هذه الغرفة، يقول لمساعديه، لا مفر إذن من المواجهة وافتتاح المعركة. هكذا في الفيلم أيضاً يواجه مورو المزيّف (الممثل ستراتهيم) بمشاهد ممثّلة السناتور ماكارثي الحقيقي في مشاهد من الأرشيف، فلا مفر بعد دخول الماكارثية في صيغتها الجديدة إلى كل دار في أميركا بل وفي العالم سوى مواجهتها.
غير أن أسلوب المواجهة بالغ الأهمية. كان في وسع كلوني أن يكون كمايكل مور، أن يسخر من بوش و يكشف علاقاته و أكاذيب تصريحاته و تناقضاته مكتفياً فقط بالأقوال دون حتى التعليق عليها، كما يسع أياً منا أن يقوم بالأمر نفسه حيال مختار الزعماء أو سعادة الشيخ أو مقاوم السيادة أو صخرة طانيوس شاهين أو قديس البربارة أو الهزبر الغضنفر (حسناً ربما ينبغي استثناء هذا الرئبال الأخير ـ الذي لا يبدي أي حس بالنكتة في أي حال ـ عملاً بنصيحة المتنبي الشهيرة حول نيوبه)، لكن فضيحة التناقض فيها ما عادت فضيحة كما في أيام ماكارثي. ما عادت الفضيحة سلاحاً فتاكاً بل إنها اليوم لا تكاد تخدم سوى الأسياد الذين يزدهون بسعة صدرهم و ديمقراطيتهم، قبل أن يستخدموها هم مدمرةً ضد من ليس أمامه مجالاتهم في الكرّ و الفرّ. لذا لم يكن أمام كلوني سوى استدخال الإزدواجية و الغش في نسيج صور الفيلم.
الغشاش في الفيلم هو ذاك الذي لا يمثّل، الصور الخادعة هي المادة الأرشيفية، أما التمثيل، فهو أساساً فاقد للقدرة على الوعظ بضرورة الصدق من حيث أنه محض إيهام على ما كان لاحظ روسو من قبل.
بازدواج الغش وانقسامه على نفسه ربما يعود ثمة محلّ للتفكر في الحقيقة، وحده التفكر، على نقيض الفضيحة، يكشف بوش دون أن يدعم الزرقاوي مثلاً. غير أن ذلك مستحيل من قبل أناس ينفث الخوف أنفاسه الباردة في أعناقهم. في الفيلم يقبل مورو في النهاية أن مكارثي سيحاسب و تُكفّ يده لكنه سيظلّ طليقاً بل وسناتوراً، و ربما كان هذا جوهر النظام الديمقراطي في الواقع. في بلاد الثورات الدموية المستدامة مثل هذه النصيحة من ذهب: ينبغي كشف الحقائق و كف يد الظلم ووضعها خارج دائرة القدرة على الأذى، أما الثأر وسلاسله و رعبه فلا يستولد غير الثأر والعنف.
mercredi 21 mai 2008
ليلة سعيدة وحظاً سعيدا
Inscription à :
Publier les commentaires (Atom)
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire