mercredi 21 mai 2008

سينما بيروت



بيروت في ثلاثة أفلام لبنانية من مهرجان باريس السينمائي
نشرت في محلق النهار في تموز 2007

كان لبنان ضيف شرف مهرجان باريس السينمائي الذي اختتم الأسبوع الماضي. لا تسعى هذه المقالة إلى "تغطية" شؤون المهرجان، ولا حتى البرنامج اللبناني فيه، الذي كان وافراً وإن لم يخلُ من نقصٍ كغياب محمد سويد وغيره. قصارى هدفنا هنا، مع الاعتذار الحار من الآخرين، هو مقاربة ثلاثة أفلام لبنانية جديدة يجمعها، إلى جانب الطابع الروائي الطويل، كونها تعرض للمرة الأولى في باريس، وكونها تحاول تشكيل صورة سينمائية لمدينة بيروت، على تفاوت في الأدوات والأساليب والأصوات.

لكن، لا بد أولاً من إزاحة التباسٍ ترددت أصداؤه على صفحات الجرائد اللبنانية وفي الكواليس، ويزيده بلةً، دفاع بعض النقاد عن تمثيل السينمائي لذاته وحدها، وكأنما هي من صنع يديه، على ما كانت أرندت تقول ساخرة من المتفاخرين بلغتهم الجرمانية.

كان خليل جريج وجوانا حاجي توما، بين المكرمين إلى جانب دانييل عربيد والمخرج الشاب وائل نور الدين عن فئة الأفلام القصيرة (ليس خطأ تكريم شبان في أول نتاجهم إلا متى فهمنا التكريم إعلان نهاية، لا دفعاً وتشجيعاً!). لقد أثار هذا الخيار بعض الضجة، مثل كل اختيار في كل مهرجان، حيث تساءل البعض عن سبب اختيار هذا الاسم لا ذاك، وإبراز ذا والتعمية على آخر. والحق أن كل اختيار إشكالي وظرفي، لكننا نحسب أن اختيار الثنائي جريج ـ حاجي توما هو أيضاً تكريم لجيل كامل من الفنانين والسينمائيين والمفكرين، إذ يبدو جلياً في أعمالهما ملامح نقاشاتهما وتفاعلهما مع أعمال غسان سلهب وجلال توفيق ووليد رعد وبلال خبيز ووليد صادق وربيع مروة وغيرهم كثيرون. مثل كل عمل جدي، تحاور أعمال جريج وحاجي توما أعمال مجايليهم وشغفهم بمدينتهم وتتقاطع مع اهتمامات هذا الجيل الذي فتح أمام الفنانين اللبنانيين أبواب مهرجانات العالم ولقاءاته وجمهوره الغفير الذي أمّ صالات باريس في هذا المهرجان الأخير، واعداً بمزيد من الترحيب بالفن اللبناني.

سنتناول إذاً، من بين أعمال هذا الجيل، فيلم السينمائي البارز غسان سلهب "أطلال"، ومن بين الوافدين الجدد فيلمي نادين لبكي "سكر بنات" وميشال كمون "فلافل".

غسان سلهب والغطس في عمق طلل

فيلم "أطلال" ليس الفيلم الأول لسلهب، وليس فيه من تردد أو تلعثم. يعرف سلهب ما يريد، ويملك أن يقدمه في جمال بصري أخاذ واقتراحات بصرية لافتة، مثل المشهد لدى طبيب العيون. وهو بعد أن استنفد أصوات بيروت وتصويرها من زوايا مختلفة (من الأسطح، والسيارات، في الليل والنهار، في سوليدير وفي الآثار المتبقية) في "أرض مجهولة"، يتوجه الآن ليصور بحر بيروت. البحر موقعاً، ومشهداً واستعارة. يمكن للغوص في البحر أن يكون استعارة للبحث في أعماق المرء، الذي يصوره كارلوس شاهين نيابة عن كل منا، مثلما يمكن لصور الأشعة الطبية أن تكون أيضاً استعارة عن الأعماق، وكما يمكن للفلامنكو أن يكون استعارة للكبر والتحدي ورائحة الدم الماثلة في مخيلة الشمس الاسبانية وعين الثيران.الزرقة والشمس والكوريدا المستدعاة، ليس باتاي بالطبع بعيداً. لكن الفيلم ليس مجرد استعارات، بل ربما ليست الاستعارة سوى ما يضيفه المشاهد نفسه على الفيلم، مثلما قد يضفي عليه قراءة سياسية.

نجرؤ على القول إن سلهب أيضاً يصور مادة رؤيته، وليس استعارتها النظرية. فهو لا يتردد فيمنحنا ما يشاهده مصاص الدماء، مثلما يشاهده، زائغاً مشوشاً، وبعد انطلاقة رائعة يتباطأ الفيلم بشكل غريب، لكن أليس التباطؤ أيضاً إدخالا لنا في زمن مصاصي الدماء، الخلود البطيء والممل.

يمكن الزعم أن الفيلم بعيد عن القراءة السياسية، وإن تزامنت جولات مصاص دمائه الخفي عن الكاميرا (لكن إن كان لا يصور، كيف تلتقطه عدسة سلهب؟) مع موجة قتل واغتيالات بيروتية وتنبأ بتحول الأطباء إلى قتلة، كما في بريطانيا. في الواقع، ينجم ابتعاد الفيلم عن الإسقاط السياسي من كون إنتاج مصاص دماء يهدف، برأينا، إلى قتل ندٍ آخر له الطبيعة عينها. هو إذاً عمل انتحاري. صناعة قاتل لقتل الذات.

لماذا مصاص الدماء؟ لماذا الأشباح والدم والقتلى؟ إنه، مرة جديدة، قبول ارث الموت متغلغلاً في نسيج الجماعة، عائداً من الغيب ليقيم لها لحمة وسدى. لا تغيب الجثث في الفيلم غيابها في أعمال جريج وحاجي توما، لكن الحداد أيضاً لا يحضر كما لدى وليد صادق. ما يحضر لدى سلهب هو موت حديث، ليس مرتبطاً بالحرب التي يمكن النظر إليها من هذا الجانب على أنها حرب ريفية، أو حرب ترييف المدينة. إنه موت سائر، سادر في عمله. موت يتطلب موته، يبحث عنه، ويشحذ على مهل السكين التي يأمل أن تأتي لتجز عنقه ككبش أخير.


إنها ظواهر مدينية تلك التي تروي عن مصاصي الدماء، والجرائم الجنسية، والعلاقات المتعددة الطبائع دون أي عقد، و توري عن شخوص دون عائلات، دون إخوة أو آباء ودون أبناء أو زيجات. يصور سلهب إذاً ما يمكن افتراض طابعه المديني بامتياز: فرد في شارع، انحرافات وجرائم، مدينة حبلى بأساطير حديثة.

يمكن بالطبع الطعن في تصوير سلهب لواقع المدينة، بدءاً من حقيقة مصاصي الدماء وجدوى أسطورتهم، وصولاً إلى افتراض أن "مدننا" ليست مدنناً بل كونفيدرالية قرى. لكن ذلك أيضاً مردود،فبيروت لا تني تبتلع مدافنها مثل أي مدينة حديثة، وتفكك النازحين إليها، ببطءٍ ربما ولكن بفعالية أكيدة تثبنها، للمفارقة، الجرائم والفضائح والقدرة على الاهتباء والسعي في هوامشها. لكن السؤال لاذي قد يكون سلهب يطرحه علينا هو عمن يعض، مثل الطبيب خليل ونسائه الفاتنات، ثدي المدينة إن لم تصور نفسها عذراء كوالدة الإله في الأيقونات؟ إنه سؤال كشف الغطاء عن حياء المدينة كي تتقبل العنف والموت الوارف في ثناياها، دون مزاعم عن إلهية هذا العنف أو "برانيته". إنه، في معنى ما، عنف البحر المتأبد كالأمواج في مفتتح الفيلم، لا ينفصل عن المدينة التي تنطوي على مدنٍ كثيرة في طبقات طياتها.

في بيروت فيديو كليب لبكي ودماها الجميلة، وبيروت ليل الشباب والمغامرة والمقامرة في فيلم كمون، هنالك متسع بعد للنضج، للأمل والرغبة. لكن سلهب يزعم أن لا مجال لإغفال عنف المدينة وقسوتها، على أفرادها وفيهم، أو لنسيان ذكر الموت والرغبة في دفع الحيوات والشوارع إلى أعماق سحيقة، لا تعود منها سوى أطلالاً نبني فوقها أحلاماً أخرى ونسياناً كثيراً. ربما ينبع انزعاجنا مع عمل غسان سلهب أننا فعلاً نشعر بطعم الدم تحت نواجذنا وأسناننا. ولسنا نبكي! أليست هذه معجزتنا المؤسفة؟


"سكر بنات": الإشفاق على المشاهد من دموع الدمى المتحركة

لقي فيلم نادين لبكي الذي لم يعرض بعد في لبنان ترحيباً حاراً من قبل بعض النقاد حين عرض في مهرجان كان الفرنسي، لكنه أيضاً قد يلقى اعتراضاً مثيراً للسخرية من قبل رافضي "الاستشراق الذاتي"، الذين قد يرون فيه "شداً" للمشاهدين من خلال استعراض جمال اللبنانيات واختراق تابو المثلية النسائية، على خفر مزعج، وإرضاء للغرب بإظهار مشاكل العذرية والعلاقات "غير الشرعية" فضلاً عن الفرنسي العجوز ومغامرته البيروتية. الاعتراض طبعاً سخيف لأنه لا يرى أن هذه العناصر موجودة في بيروت وليست متوهمة، ولا يكفي أن تكون أجساد النساء أرض الصراع اليوم بين دعاة حقوق الإنسان والأصولية السلفية حتى يكون في تصويرهن استشراق.

لكن الفيلم الذي يقدم تصويراً ناعماً وأنيقاً يعاني دون شك من الفتنا الشديدة بلغته البصرية التي لا تختلف عن فيديو كليبات نادين لبكي السابقة، فيبدو أشبه بفيديو كليب طويل منه بفيلم سينمائي يفترض بأدواته أن تكون أكثر كثافة وأغنى تنوعاً وملاءمة لما يطرحه.

كما أن لبكي، على ما يبدو، تشفق على مشاهديها، فلا تكاد ترد مورد حزن إلا وأشفعته بطرفة أو نكتة، مازجة مطلع الأسى بتواصل السرور. قد تقول لبكي لنا أن هذه هي طبيعتها، ولا شك أن الحياة مزيج منهما معاً، إلا أن منهجية هذا الخلط، فضلاً عن كونها تمنع من تعميق الحالات والمضي إلى أغوارها، تصبح بسبب طابعها التكراري نوعاً من "البرهنة" المسيئة للأعمال الفنية، لا سيما حين تفيض عن الحاجة وعن الواقع، كما في مشهد المحجبة التي لا تنزع حجابها حتى في وسط بناتها!

إلا أن أعمق مشاكل الفيلم، في رأينا، هو كون دماه (والدمى في العربية الغواني الجميلات) تتحرك في فقاعة معزولة عن بيروت التي تهدي لبكي إليها الفيلم! بيروت لبكي صور مسطحة لشوارع قليلة، وحارات مقفلة، تبدو غاطسة في مناخ موسيقي يداني النشاز والتنافر. تمتنع لبكي عن دخول المدينة من باب أصواتها، وتحرك دماها في مناخ معقم، وعقيم، من الكليشيهات الصوتية. إلا أننا نعرف أن المدن لا تؤتى أزمنتها سوى من أصواتها، كما سبق لسلهب أن فعل في "أرض مجهولة" أو رايغاداس في "معركة في السماء". على عكس الفيديو كليب، لا يمكن لفيلم "بيروتي" أن يكون حكاية على غرار حكايا لافونتين أو والت ديزني، أو أرضاً معلومة ومفارقة لبيروت.

سبق للبكي أن خلقت عالمها الفيديو كليبي، إلا أنه بطبيعته ليس سينمائياً لأنه يقوم اساساً على موسيقى لم تصنعها المدينة، بل أنتجت مسطحةً في حواضن اصطناعية معقمة بعيدة عن أصوات المدن (والصوت اللحن) ومشاهد أيامها ووقائع زمنها.

على لبكي أن تخرج من اللوحة التي نسجتها لنانسي وهيفا إذا شاءت أن تدخل إلى عالم ليل وريما ونسرين و"طانط" روز، اللواتي لن تظل حينها دمى متحركة تشفق علينا لبكي من دموعها دون داعٍ حقيقي.




"فلافل" ميشال كمون: بيروت واسعة الليل

لا يهدي كمون فيلمه الروائي الأول إلى بيروت، بل إلى شقيقه الشاب المتوفى روي. رغم ذلك، لا يكتفي كمون بتقديم صورة عن عالم بيروت وشبابها الليلي، بل يثبت أيضاً أن مدينة بيروت ليست تتطابق مع حدودها الإدارية. تصل كاميرا كمون إلى كسروان، لكنها لا تغادر بيروت. بيروت هنا هي زمن عيش، وليل، ومنطق المقامرة والمغامرة، وليست مباني وتقسيمات جغرافية أو دوائر إدارية، وبالتأكيد ليست شعاراً انتخابياً أو سياسياً.

خلافا للبكي أيضاً، يستعمل كمون الصمت وأصوات المدينة الليلية والسيارات، دون أن يتعفف عن استخدام الأغاني الراقصة متى انبعثت من علب الليل أو من مسجلات السيارات والمحال والبيوت. إلى جانب ذلك، لا يمكن إلا التنويه بالشريط الصوتي الذي يستخدمه من موسيقى Soap Kills الالكترونية وغناء ياسمين حمدان المفعم بالمتعة وعيائها وتجارب توفيق فروخ وفرقته في عزف النغمات الشرقية على الآلات النحاسية. المشكلة ربما تظل في حاجة كمون إلى المزيد من التفكر في أحوال القطع والوصل بين هذه المواد الموسيقية.

غير أن الأهم في فيلم كمون، في نظرنا، يتجاوز طرفة الفلافل وبائعها، وإمطار السماء سقف المباني بحباتها الضخمة الشهية، وهي طرفة ظريفة، غير أنها غير مقنعة في تقصيها وتطويرها من ثمّ. ربما كان الجانب الأهم يتبدى في الرغبة في التصوير الليلي، واستعراض مغامراته، العاطفية والجنسية والأمنية والذكورية معاً، وفي مد حدود بيروت إلى كامل مساحة الرغبة الليلية.

يتبدى أيضاً جانب مهم في محورية موقع كازينو لبنان من الفيلم. ليس ذلك أن لبنان كازينو، على ما يحسب بعض مدعي الفضيلة والتعفف والمال الطاهر، بل لأن الكازينو في الفيلم دليل على نمط حياة لبناني يتوسل المقامرة بكل شيء، بالحاضر والمستقبل والمال، في سبيل دواعٍ ليست دائماً مفهومة. بالحظ، تقفز حبة فلافل هاربة من قعر الزيت، وبالحظ أيضاً نجد المال ونشتري به سلاحاً، وحين يخوننا الحظ نقع في الحصر والغيظ. ليس هنالك من تراكم عقلاني مخطط لدينا، هنالك فقط الوعد بالحلم، صادقاً أم كاذباً.

بالحظ ربما تنضج حبة الفلافل الهاربة التي يدعو فادي أبي سمرا إلى أن يكونها ذلك الشاب المفعم بالحيوية والتماع الأعين. إلا أن نضج ما يبدو أقرب إلى جيل من المراهقين، في فيلم كمون، يمر عبر الاعتراف إذاً بأننا "نشخ تحتنا"، بأننا "نشيخ تحتنا" أيضاً دون أن ندري من سيتحملنا في شيخوختنا. الاعتراف بهذه الهشاشة هو إذاً أول شروط النضج الذي يتجلى في التخلي عن مبدأ الثأر والشرف الذي لا يسلم من الأذى ... والحنو على إخوة لنا.

يصور كمون، تحت ستار كوميدي بأبطال كرسوم الكرتون في مراهقة مطولة، مساراً للنضج يدعونا إليه ماداً يد الحنان إلى خد الأخ الغائب. مرة جديدة، يبدو قبول الغياب والموت شرطاً أول للعيش معاً.

Aucun commentaire: