عهر البلاغة
نشرت في ملحق النهار، 18 أيار 2008
ـ حين تنتشر شظايا القنابل وشرر الرصاص، يغدو تماسك الخطاب وقحاً إن لم يكن كذابا. ما يبقى من القول إلا كتل يفتتها أدنى لمس امرأة ثكلى، أو طفل خائف.
ـ من يسائل الآن عن منطق قرارات حكومية هوجاء، عن التوقيت وجدول عفن الشرق الأوسط، أو عن تمهل المنتصر، حين تطفح بسمته بثمل النشوة المظفرة، بسكرة السلاح؟ أليس السلاح ما يحرك نفوس حامليه، بحسب بورخيس؟ خفة الدم، في هذا المقام، أو أناقة الاقناع، ليستا غير فرع من شجرة النفاق. عهر فاضح تصير البلاغة حين لا تجهر بأن "الموت يدافع عن الموت" ؟
ـ في صيف 2006، حارب مقاتلو حزب الله مثل أشباح، في أرضهم. هاهم اليوم يطلقون النار على الأشباح. هل اعتراهم الرعب من نقاء صورتهم، أم هو وسواس الدم الخفي المنسي على الأيدي يستدعي دماً أوضح؟
ـ قتلى الحروب الأهلية ليسوا شهداء، بل شهود على الحمق والكبر. دمهم لا يصعد إلى السماء العكرة، بل يظل على الأرض، لا يغسله شيء، ينبت دوماً على جلود الناجين، وفي أعين القتلة كجفن معترض.
ـ حزب الله لم يعد حزباً، بل شعاراً، كالقاعدة، يحمله حتى أعداؤه، شارة في جبينهم. كل مقاتل لبناني في شارع لبناني أصبح مدموغاً به. كل مقاتل اليوم أصبح مقاتلَ الحرب الأهلية المتمادية منذ عقود، أو أكثر، القاتل على الهوية وعلى الثقافة وعلى الاسم، والمقتات من الغنائم والغصب. هل يدرك ذلك من يفرح باحتضان السلاح؟
ـ هناك من يشدد أن النزاع سياسي، وليس حرباً دينية. كي لا تكون الحرب دينية حقاً كان الأولى ألا يتحدث المشايخ والمفتون ونواب الغائبين والمغيبين، وكان يفترض أن يكون المنخرطون فيها سياسيين أو طالبي حق (محتكمين إلى القانون). أي أن يكون ولاء حزب الله لإيران ولاء سياسياً، لا فقهياً، وأن يكون موت الناس قتلاً لا شهادة، وأن يكون المقدس واللاعقلانية والفطرة (أي الغريزة) خارج أسباب الصراع ووسائله وذرائعه.
ـ مثل بثرات مزمنة، تتكرر مشاهد القتل في شوارع لبنان. هل هو غياب العدل الذي يعيد في كل مرة نسف السلم، الذي نقدمه على القصاص؟ من يأتي بالعدل إن لم يكن من غالب، عادل أم لا؟ هل هو غياب الرواية تُسكَب في روح اليافعين كي تكسر حماساتهم إلى الظفر الحربي وتُشكّكهم في وعود الملهمين والنجوم؟ أم أنها فقط ذاكرة مديدة، تسترجع، من حين لآخر، بعض الذكريات، دون أن تحفر في جلود الناس أي وجع؟
ـ قال أحد مشايخ الحزب إن بيروت الغربية لم تعد ذات أكثرية سنية. كم نرجو لو يتحقق هذا القول. كم نرجو أيضاً لو ينطبق نظيره على الضاحية البيروتية الجنوبية، ونرجو لو يسحب الجيش السلاح، بدل طلبه سحب المسلحين إلى يملكون السلطة الفعلية، أي قادة الزعران ومقدميهم، ولو ينتشر في كل المناطق بشكل متوازن، في انتظار انتشار الانماء. عسى أن تكرهوا شيئاً....
ـ الحرب خدعة، لا ريب. المقاتل ليس شجاعاً بل مخادعاً. أطهر الناس من يتمسك بشجاعة العيش الصعبة، لا من يتلمظ باقباله على الموت.
ـ بات الفصل المثلث ضرورياً بين الحزب (الذي بات مستغنياً في التعريف عن المضاف إليه، على جلاله) ومقاتليه وطائفته. لكنه أيضاً بات ناجزاً. الحزب المتطهر لا يلغ في الدم، عكس المقاتلين الذين يموتون ويعيشون في متخثره، أما الطائفة، المزهوة (بدليل الصمت العارم) بحلم القهر الموجه إلى خارجها، فستكون أول من يتنبه إلى كونه مجرد مقدمة لعودة النصل إلى روحها. كسابقاتها، سوف تستدعي، متأخرة، الآخر لينقذها من نفسها، من السرطان المتنامي في نسيجها. حكم الطبابة أن تكون يد حامل المبضع يد الغريب.
ـ طرابلس أيضاً تستأنف ذاكرتها، لأنها حاضرة فخور وليست ضاحية شمالية. مستقبلها لا ينفصم عن أزقتها، والرابط مع العاصمة الحديثة النعمة ليس بأوثق من الرابط مع ما وراء البحار، ما قبل العولمة. رهان وحيد لوقف "عرقنة" البلد؟
ـ بين مايو الفرنسي وأيار الانتصارات، بحسب إعلام الحزب المنتصر سرمداً، أن "المخيلة تنزل إلى الشارع" في باريس، في حين يصعد الشارع إلى المخيلة في بيروت. ربما لم يكن حصاراً، إلا أن شمس الحمراء تلح على مخيلتي كأميرات القصص. بينهما أيضاً أن أيام باريس عيد الأفراد المتحررين، أما أحداث بيروت فطوفان الرغبة في الانحلال في وحدة الجماعة، لذا كان التحرر سابقاً على مايو، في حين أن السلاح مصوب على رأس أيار يستعجله الانقضاء، نحو حزيران الشهير.
ـ لا يصنع من الفسيفساء اللبنانية زرد. المطارق تكسر، ولا تصيغ، والنار تحرق ولا تصهر. رغم ذلك، لا يجد الحزب خياراً سوى اتخاذ اللبنانيين درعاً! ولا يجدر بهم اسقاط مربعاته عنوة أو كرهاً، فاللوحة تتداعى إن لم تكن عناصرها "محشورة" ضلعاً إلى ضلع.
ـ حزب الله لاعب اقليمي، وطموح كوني، أو هكذا يظن. غير أنه لا يحلم بدولة له، تلقى مصير غزة، ولا بحكومة له خارج اقليمه اللبناني. ما قام به ليس غزوة، ولا غارة، بل طلب حار للحماية. يحيا الحزب من كون الطوائف عصية على الاقتلاع، ويموت لأنها ليست، على ساحة الدول، سوى كتل من أذى منتن لا يمس سوى بأعواد الموت القابض. كأنما النصر المحلوم على إسرائيل لن يكون إلا بثمن تحويل المشرق كله خلاء. أليس هذا أيضاً معنى القنبلة النووية الاسرائيلية؟
ـ حولت اسرائيل، رغماً عنها، الأرض اللبنانية موحدة. ها إن الحزب المعادي لسياساتها يحيل، رغماً عن مقارناته المتهافتة، بيروت مفصولة عن بنت جبيل بهوة مقدسة. كم حياة تلزم لردم المقدس؟!
ـ كيف تجيب رصاصة، أو تتحدث مع فوهة رشاش؟ كيف تعود إلى بلد تسأل فيه عن هويتك واسمك ومسقط رأسك (قبل أن يعاود السقوط) من عيون غريرة الشر؟ الخائفون لا يحارون جواباً، لأنهم يركضون، ويخفضون وجوههم. في مواجهة المقنعة وجوههم (للمناسبة، لم يتقنعون إن لم يكن حرصاً على علاقات الغد الذي يغتالون؟)، لا يسع المرء أن يرد إلا بسفور الوجه الهادئ على الرصيف. أن يكرر: لستُ أنت، لستُ أنت.
mercredi 21 mai 2008
أناقة اللغة الوقحة
انصاف الشيخ سيد درويش
إنصاف الشيخ سيد درويش: اختراع الذات
(إلى أبي العلاء)
نشرت في ملحق النهار، مطلع آذار2008
في الذكرى السادسة عشرة بعد المائة (17 آذار 1892 على ما يقال)، ورغم مرور أكثر من ثمانين عاماً على وفاته، إلا أن الشيخ سيد درويش لا يزال يثير الاضطراب في النقاشات الموسيقية. ففي مقابل المديح الإعلامي والرسمي الجارف له، واعتباره أباً للتجديد والتحديث والموسيقى العربية في القرن العشرين، فإن بعض المعلقين والنقاشات الرصينة لا تتوانى أيضا عن تحميله مسؤولية ما آلت إليه أوضاع الموسيقى (وإن كان التحميل يتم أساساً على عاتق عبد الوهاب) أو أنها ترى في موسيقى الشيخ سيد قصوراً عن مجاراة الفطاحل سواء من سابقيه كمحمد عثمان أو من معاصريه كالقباني وداود حسني، دون أن تغفل الإشارة إلى ضعف صوته وعدم صموده للمقارنة أمام كبار المطربين كمثل عبد الحي حلمي ويوسف المنيلاوي وسواهم.
بين اعتبار سيد درويش فاتحة التعبيرية العربية ومخلص الغناء المصري من عجمته التركية، بعد الفتح الحمولي الأول، وبين الحكم عليه بتواضع نتاجه وغنائه في مقاييس الطرب الأصولي ومعايير الغناء الخديوي، كيف السبيل إلى إنصاف الرجل، دونما تقديس ودونما افتئات؟ المشكلة في هذا المجال لا تتعلق بمحبة شخصية أو عامة لهذا النتاج، إذ أن الشعبية والانتشار، على ما تشهد الأيام، ليسا المعيار الأوفى في الحكم. وراء حيرتنا في التعامل مع الشيخ سيد مشكلة تحديد المعايير التي ينبغي اعتمادها مقياساً للتقدير.
فبالإمكان التساؤل عن موسيقى سيد درويش بالمقارنة مع نمط الغناء المتقن السابق عليه والمعاصر له، أي نمط الغناء الذي قام به أمثال الحمولي وعثمان والمنيلاوي والشيخ علي محمود وحسني والقباني وسواهم. هل "أجاد" الشيخ سيد درويش بمقاييس هذه المدرسة؟ هل أضاف إليها جديداً من داخلها، مطوراً قوالبها ومضيفاً إلى مقاماتها؟ بهذه المقاييس يبدو نتاج سيد درويش أكثر تواضعاً مما تحمل عليه شهرته، فباستثناء الموشحات التي أجاد وأطرب فيها، كماً (رغم أن العدد ليس أكيداً أيضاً بالرغم من مئات المقالات والكتب عنه) ونوعاً، فإن أدواره العشرة (أو الأحد عشر في قول آخر) لا تغني البتة عن أدوار الحمولي وعثمان وحسني والقباني وغيرهم، أما القصائد فلم يصلنا منها شيء، وأما أغانيه المسرحية فلم يسر فيها على هدى الشيخ سلامة حجازي الذي جعل من قصائده الشهيرة عموداً راسخاً من أعمدة المسرح دون أن يخرج فيها عن الإطار الموسيقى العام لعهد النهضة الموسيقية التي يصفها الباحث فريدريك لاغرانج بالخديوية، ويسميها نداء أبو مراد بالفصحي. أما الطقاطيق والأغاني الخفيفة فليست ترسو عليها أسطورة، على ما نعلم، وهي، على جمالها، لا تداني طرب طقاطيق عبد الحي حلمي مثلاً.
هل نقيس نتاج الشيخ سيد بمعايير "ايديولوجية" غير موسيقية؟ لقد لحّن الشيخ أغنيات للطوائف والحرف والجاليات المتعددة في مصر الكوزموبوليتية آنذاك، وغنى للوطن ومصر وسعد زغلول منتقداً الخارج والاحتلال. لكن، ناهيك عن أن هذه الأسباب لا تجدي في الحكم موسيقياً على الرجل، وإلا لفاقته طائفة كبيرة من ممتدحي الأوطان وقادتها، فإن الاعتماد على الطابع "التقدمي" للرجل يحجب عنا اختلاط نتاجه (كما هي حالنا أيضاً مع نتاج ابن خلدون الفكري) ودعوته إلى الشعبوية والإكثار من الأولاد والانغلاق دون الخارج وبقاء المرء في دائرته القروية أو وسطه الاجتماعي المغلق وعدم الطموح إلى "بنات البندر" وامتداح العريس بماله... الخ. ثم إن امتداح تخليصه للغناء المصري من عجمة عثمانية وعودته به إلى أصالته لا يتوافق، من ناحية أخرى، مع رغبة الشيخ الواضحة في تلحين أغنيات تصور جاليات غير مصرية، ولا مع توجهه إلى إدخال آلات كالبيانو وتوزيع موسيقي غربي، حرمه قصر حياته من دراسته في إيطاليا.
هل يكون معيار الحكم على سيد درويش انتشار سمعته، بعد وفاته بعقود، انتشار النار في الهشيم (رغم أن أغانيه لاقت أيضاً انتشاراً واسعاً في زمنه)، والإجلال الذي كان يقول به تجاهه معظم الملحنين الذين تبعوه، كزكريا أحمد وعبد الوهاب والسنباطي وسيد مكاوي؟ ليس ذلك أكيداً بدوره. فاتجاه زكريا، باستثناء طقاطيقه المسرحية، ليس فعلاً متأثراً بسيد درويش، ولا السنباطي بطبيعة الحال، أما تغريبية محمد عبد الوهاب فهي تتلطى وراء "نوايا" سيد درويش المفترضة لا وراء نتاجه، في حين أن تبسيطيته أتت متأخرة، حين شاء منافسة فريد الأطرش ومن ثم الموجي والطويل وبليغ حمدي. بل لعل الأقرب إلى القول أن القصبجي كان أوسع تأثيراً في معاصريه من سيد درويش، فعبد الوهاب اتبع النهج الذي فرضه القصبجي من خلال أم كلثوم وتحويل "تختها" إلى فرقة وكتابة لوازم موسيقية ودمج الآريا الاوبرالية في الغناء الشرقي من خلال تطوير فكرة المونولوج... الخ، أما السنباطي، في بداياته، فكان شديد التقليد للقصبجي، وقد نقل عنه بليغ حمدي قوله: "يا ابني، احنا كلنا كنا القصبجي"، وإن كان يُفترض استثناء زكريا أحمد من هذا التعميم.
رغم كل ما سبق ذكره، لا يمكن إنكار أن أعمال الشيخ سيد درويش تلقى قبولاً واسعاً، حتى لدى متذوقي الموسيقى الخبراء، وسهولة في الاستماع إليها بخلاف الأعمال التراثية الأخرى الأقدم، ناهيك عن "خفة الدم" الاسكندرانية فيها وتنوع مناخاتها وأجوائها. لذا أحسب أن من الواجب التنبه إلى أمور ثلاثة، متفاوتة المجال والأهمية على ترابط في ما بينها، في شأن نتاج الشيخ سيد، ألا وهي الجملة الموسيقية الدرويشية، وتطور المسرح الغنائي إلى مجال السينما، واختراع الذات والأنا في الغناء.
فجملة الشيخ سيد درويش الموسيقية، حتى إذا ما غضضنا النظر عن علاقتها بالكلمات ذات الطابع المسرحي غالباً، تشكل ابتعاداً عن الجملة المطولة التقليدية في الطرب، مثلما تشكل مرحلة أعقد من الأغاني الفولكلورية الشعبية البسيطة. إنها تأليف غير مطوّل، ولا يتطلب، أغلب الأحيان، أصواتاً جبارة لأدائه حتى في الأدوار، وهي تنقسم غالباً إلى وحدات أصغر منها وتتفادى بشكل كبير عرض هذه الوحدات على السلم الموسيقي المستعمل، مفضلة التكرار الحرفي وتجاور الأجزاء المختلفة، الأمرين الذين يمنحان هذه الجملة حيوية لافتة وزخماً متجدداً. هذه الجملة، البعيدة مثلاً كل البعد عن جمل سلامة حجازي بعدها عن "شغل" حسني والقباني الزخرفي البديع الصنعة، باتت أساساً لجلّ ما أتى بعدها من جمل موسيقية، فكانت فاتحة لأفق استماعنا المعاصر. فكان من نتيجة ذلك أن استماعنا لما سبقها باتت يتطلب دربة واجتهاداً لتحصيل القدرة على تذوق سلس، وأن استماعنا لما تلاها يزيد من استساغتنا لها. هذه الجملة "الدرويشية" لا نجدها بالطبع عند القصبجي الرصين، ولا عند السنباطي في بداياته رغم سلاسته، ولا عند زكريا أحمد أو حتى عبد الوهاب حين كان يغني "جارة الوادي" والمووايل الطويلة. إلا أنها عادت بقوة لتشكل مرتكزاً عملياً ونظرياً لكتلة ضخمة من الغناء عند فريد الأطرش ومحمد فوزي، ثم محمود الشريف والموجي وغيرهم، مثلما عبرت أيضاً إلى الرحابنة وبعض الحلبيين (على فرادة مخيلة بكري الكردي). تزامن ذلك أيضاً مع ايديولوجيا التحديث التي تزعمها عبد الوهاب، ومن ثم مع الثورة الناصرية التي سمحت بإعادة تسليط الأضواء على أسطورة الموسيقي المجدد الميت شاباً والذي طمسه عهد الملكية لأسباب سياسية... الخ.
ارتبطت هذه الجملة وتشكلت على الأرجح في المزيج الاثني والحضاري والمتوسطي الذي كانته الاسكندرية، كما ارتبطت بشكل واسع بالتلحين المسرحي الذي قام به سيد درويش، وتحيداً بنظرته إلى المسرح والغناء فيه بوصف الغناء أيضاً "تمثيلاً" للحالة المقصودة ولهجاتها ومشاعرها، ويفترض به أن يكون صادق الوصف موحي الدلالة على الحرفة والطائفة واللكنة. ويمكن أيضاً متابعة هذا التوجه، حين انطفأ المسرح الغنائي المصري لتضاء صالات السينما بأنوار النجوم، مثل عبد الوهاب وليلى مراد، وأيضاً بأدوار ممثلي الصف الثاني وأعمدة الأفلام الراسخة، كاسماعيل ياسين ومحمود شكوكو وثريا حلمي وسواهم. صحيح أن المعطى الاجتماعي "التقدمي" التوجه قد خفت بشكل كبير، إلا أن تمايز ألحان الشخصيات ورشاقة الجملة الدرويشية ظلا ماثلين ومثالين لما ينبغي فعله في التلحين للسينما حتى في أغانيها العاطفية.
هذه الرشاقة المشار إليها، وعدم تطلب غالبية ألحان الشيخ سيد لأصوات قديرة، وسهولة تناولها وتنوع مواضيعها، تزامنت في الواقع مع بدايات حقيقة لتكوين الفرد في المجتمعات العربية في بداية القرن العشرين، الذي كان من دلائله العديدة بدء مسار سياسي وحياة حزبية مصرية، وترافق ذلك مع انتشار الصحافة وبداية ترسخ الرواية، وتخلخل الرسوخ الطبقي السابق، وانتشار الغراموفون أبعد من منازل الأثرياء، وازدياد النزوح نحو المدن... الخ. في هذا السياق، يمكن القول بأن الفرد الناشئ وجد في أغنيات الشيخ سيد درويش ما يتخطى الأغاني الشعبية الفولكلورية، مع السماح له في الوقت عينه بأن يؤديه بنفسه تعبيراً عن مرحه أو عن خلجات مشاعره. في هذا الإطار ربما يجب وضع "التعبيرية" لدى سيد درويش، الذي لا يعبر عن الكلمة بمرادف موسيقي لها (وإن صادف ذلك في "يا ساتر" في لحن الشيطان فإنما هو استثناء)، بل يسمح للفرد بأن يجد صوته الخاص المعبر عن أناه، سواء الوطنية أو العاشقة أو ذات الشجن. لقد طمس أداء أم كلثوم وعبد الوهاب الأول هذا الوجه من موسيقى سيد درويش، إلا أن ازدياد بحث الأفراد الناشئين عن أصواتهم، وتحول السينما أيضاً إلى مرآة يرغب الناظر برؤية نفسه فيها، أعاد بشكل خفي الاعتبار إلى التوجه الدرويشي. كما أن "مضمون" الاستماع الوهابي والكلثومي كان يبحث غالباً عن هذا التماهي مع المطرب، لا عن مسافة ضرورية للحكم عليه، من أجل تحويل المغني لساناً ناطقاً بحال السامع.
لقد نظّر نجل الشيخ سيد بمفعول رجعي لهذا الأمر حين اعتبر أن ادوار سيد درويش إنما تروي جزءاً من سيرته العاطفية (دونما اعتبار لتاريخ صدور هذه الأدوار أو تسجيلها). بهذا التوجه بات الشيخ سيد درويش الصورة الأولى الواضحة (بعد الصورة المشوشة لعبده الحمولي) لفكرة "المؤلف الموسيقي" من حيث كونه "شخصية فنية" ذات سيرة وليس حرفياً صاحب صنعة، مانحاً أيضاً المستمعين إمكانية أن تكون لهم سير وشخصيات تحتاج معبراً عنها ومتنفساً لذاتيتها من خلال التماهي معه وإمكانية توقيع الصوت الفردي على نتاجه.
يحسب للشيخ سيد أنه يلزمنا بطرح كل هذه التساؤلات وسواها، ويشكل بؤرة تتوجه إليها أنظار البحث في الوقت عينه الذي يشكل فاتحة لأفق وعهد جديد، ربما لم يكن ليتبناه شخصياً بحذافيره. إلا أن من المؤكد أن تقدير الشيخ سيد درويش والإنصاف فيه يتطلبان التنبه إلى عدم جواز الحكم عليه بمعايير ثابتة، سالفة أو لاحقة، بل يتطلبان التنبه إلى أنه عمل داخل إطار القوالب التقليدية الموروثة، فارضاً على هذا الإطار دوراً ومضموناً ووجهاً غير مسبوقين، في الوقت عينه الذي شكل فيه جسراً بين مرحلتين (على غرار لبنان جسراً بين عالمين)، الأمر الذي يحرمه من الانضواء بشكل كامل في احداهما. من بركات الشيخ، وهي لا تحصى، تنبيهنا إلى أن النسق الغنائي النهضوي لم يكن نسقاً مغلقاً، ولا ينبغي له أن يكونه، بل هو نسق حيوي قادر على التجدد وتطوير معاييره، وتنبيهنا في الوقت عينه إلى الثقل الرمزي والوطأة المادية حين تتحملهما قنطرة الجسر حتى لتكاد ملامحها تغيم تحتهما.
منتديات الموسيقى
الموسيقى والانترنت
نشرت في جريدة الحال الفلسطينية
بات من الثابت أن اختراع الأسطوانة القديمة غيّر عميقاً في بنية الموسيقى الشرقية التي كانت تقوم على مبادئ التتابع المنظّم في القطع (كما المقام العراقي، والوصلة المصرية). ذلك أنه اضطر الموسيقيين والمطربين إلى ضبط أدائهم في حدود الأسطوانة زمناً، مما فكك عرى هذا التتابع وفرط وحدته، باستثناءات قليلة في بعض الأسطوانات الأكثر قدماً.
إلا أن الاسطوانة غيّرت بشكل أعمق ربما هذه البنية حين استدخلت شركات الانتاج في عملية توليد الموسيقى، فظهر الملحّن، بمفهومه الحديث، وظهرت حقوق الملكية التي تستغلها الشركات. أدى هذا، وكانت مصر سبّاقة في التعرف على هذا التحول، إلى زيادة منسوب عمل الملحن بالنسبة إلى المطرب، وتقليل مساحة الارتجال، وإلى احتكار بعض الشركات لهذا اللحن أو ذاك ومنعه من التداول وتضافر مخيلات المطربين المختلفين على اغنائه، مثلما كانت الحال في السابق. شيئاً فشيئاً، ظهرت أيضاً الفرق التي حلت محل التخت، وكان عازفوها باطراد من خريجي المعاهد الموسيقية التي استقرت على ضرب من التعليم يختلف عن التلقين بالمشافهة والمعايشة ومصاحبة أهل الفن.
يدل هذا على أن ليس بالإمكان فصل الموسيقى، كنتاج فني، عن عملية الانتاج نفسها، وما يرافقها من شروط مادية أو تعليمية أو قانونية. ونحن ربما على عتبة تغيير غير مسبوق، سواء في فهم الموسيقى أو في تعلمها والاثنان يسيران جنباً إلى جنب، في عصر الانترنت هذا. فمن محاسن هذا الاختراع أن بعض العرب رؤوا فيه مجالاً نادراً للاستفادة من تقنيات "التخزين الرقمي" من أجل الحفاظ على تراث منقرض وتبادله. إلا أن موضوع المنتديات الموسيقية، وهي كثيرة مبذولة مجاناً لمن يشاء، يتجاوز فكرة التخزين والأرشفة، إلى كونه أيضاً يسمح باخراج كنوز مستغلقة من خزائن الجامعين القدامى، ووضعها في متناول من يحب هذه الموسيقى، ويسمح بالتالي بقراءة أفضل لتطورها واجراء المقارنات الدقيقة بين الصيغ المختلفة أو الحفلات المتعددة التي شهدت أداء أغنية أو قالب ما. وإلى جانب الفهم الأصوب للموسيقى، تؤدي المنتديات والمواقع الموسيقية خدمة ضخمة في تعريف أبناء كل بلد عربي بتراث البلدان الأخرى، من المغرب إلى اليمن، بما يتضمنه من قوالب وايقاعات وأنغام، فضلاً عن تقريب كل هذا ايضاً من الموسيقى الايرانية والتركية وغيرها.
المنتديات إذاً أداة فهم ودراسة للدارسين، وأداة "تثقيف" لأذن المستمع وأصابع العازفين وأرواحهم، لمن يجدّ. فضلاً عن أنها، في الحالة الفلسطينية تحديداً، تسمح بتجاوز أسيجة الحدود المسننة، أو المناسبات العالمية المتباعدة، لتعرف الفلسطينيين بالعرب والعرب بالفلسطينيين ومدرسة عازفيهم البازغة، في مجال العود خصوصاً. لا شك أنه لا يزال من المبكر الحديث عن نجوم عبر الانترنت، كما بدأ يحصل في الغرب كما الصين، إلا أن التثاقف الذي يفرضه الانترنت لا شك سينتج أمزجة جديدة وموسيقيين أوسع اطلاعاً على مسيرة الموسيقى الشرقية وأرسخ قدماً في الدرب التي سيقطعونها في اغناء هذا الفن.
الانحناء على جثة لبنان، حنو وليد صادق
الانحناء على جثة لبنان
نشرت في ملحق النهار في تموز 2007
في بينالي البندقية العالمي، وفي إطار المشاركة اللبنانية الأولى من نوعها، قدّم الفنان وليد صادق عملاً بعنوان "الحداد في حضور الجثة" طرح فيه ما يلوح لنا أسئلة بالغة الأهمية عن عجز اللبنانيين عن الحداد ـ معاً، وكيف تم إفراغ الدماء المؤسسة للوطن من وطأتها الرمزية وذلك من خلال الهرب إلى غنائية مظفرة عن الوطن الحلمي.
هذا العجز المزمن تبدى مراراً في التاريخ اللبناني القصير، وهو يهدد مرة جديدة لبنان المعاصر، بعد انتهاء معركة التحرير وفي خضم معركة الاستقلال، إلى حد أن الجثة التي قد يوجب علينا أن نبكيها قد لا تكون هذه المرة سوى جثة الوطن نفسه.
لم ينشر صادق بعد نصه بالعربية، لذا لا محيد عن تمهيد لا يخلو من بعض تلخيص، مخل وناقص ضرورةً، تمهيداً لمماشاته، وعجزاً عن مجاراته، إلى تخوم النقاش الذي نحسب أنه لازم للخروج من الزمن اللبناني الدائري والدموي.
الحداد زمن حضور الجثة
تبدأ الرحلة في قاعة عزاء حديثة البنيان، ناصع بياض جدرانها، خالية من شواهد آلام المسيح وقيامته. يغدو البياض إذاً أفقاً لا يسع الميت أن يتخطاه نحو خلاص نهائي. التابوت المفتوح يجعل حضور الجثة يخرس ألسن الحكواتيين اللذين، ما إن ينطوي على صاحبه، سيشرعون في الحكاية التي تجعل الميت ميتاً والفراغ الذي تركه بياضاً ما بين الكلمات.
في القاعة أيضاً، المترمّلة Not yet widow (تمييزاً لها عن وضع الأرملة الذي لم تبلغه بعد، ولن تبلغه قبل أن يغادر "زوجها" نحو الحكي). المترملة، في وصف صادق، هي التي أسقط في يدها اسمٌ لا تدري ما تفعل به. اسمٌ فائضٌ لا مسمى له، بعد الآن، هناك محرقاً في راحة اليد، وعلى رأس الأنامل.
يستعين صادق بحكاية هينريش زيمر ليثبت أن الصمت ضريبة الجثة. لا يسع الملك أن يأخذ الجثة لدفنها إلا متى غار في الصمت أمام سؤال شبحها. حين طرح عليه الشبح لغزاً أخيراً، بهت وتحيّر، وظلّ سادراً في صمته، عندها منحه الشبح الجثة. والحق أننا نرى في حالة البهت شلل الفكر، لا جداله مع نفسه، وعجز الأفكار عن تخطي تحدي التجربة ـ الحد، لا تناسلها من هواجسها.
أياً كان الأمر، لا شك أن المرء إذ يدخل زمن الحداد يتقدم مثقل الكتفين بحمل إضافيّ فائض، حمل الجثة التي لم تتبخر بعد في فضاء الحكايا.
منتقلاً من مستوى العائلة إلى الوطن، يتساءل صادق كيف يمكن للناس أن يساعدوا المرء على الاستعداد للموت والتهيؤ لقبوله (أي القيام بما يبدو وظيفة المجتمع الأساسية)، إن كان هنالك خلاف على قيمة الموت نفسه؟ لم يسمع أحد دعوات المثقفين الكثيرة إلى التوحد في ظل العذابات المشتركة. ذلك، في رأي صادق، أن للموت معاني كثيرة وقيمة متفاوتة بحسب الجماعات والطوائف. وفي ظنه، على ما يلوح، أن التوحد لا يتم سوى في حضور الجثة وزمنه. لكن الشهادة التي يرفع إليها المتحاربون المختلفون قتلاهم تحرجها الجثة.
وحده كان يسمح بمثل هذا الصمت الواعي، بحسب صادق، تمثال الشهداء القديم الذي نحته يوسف الحويك، مصوراً "مترملتين" لا تتلامس أصابعهما المحيطة بإناء الرفات المترمد. لكن سرعان ما تم استبداله، بما نحته الإيطالي مازاكوارتي الذي يصور، على العكس، الشهداء حشداً ومسيرةً (لا رفاتاً مترمداً) نحو النصر والحرية الظافرة. عنى هذا الاستبدال، في نظر صادق المستشهد بكتاب تويني وساسين عن ساحة البرج، انتقالاً من حالة الحداد إلى الاحتفاء بالنصر.
زمن الحداد الإيروسي
يبدو زمن الحداد في حضور الجثة إذاً زمناً "إيروسياً" بامتياز متى تذكرنا وصف سقراط في المأدبة لإيروس" ابن أبولون والشحاذة، ذاك المتقلب بين السعادة والأسى، بين الصحة والمرض، بين الوصال والجفاء، دون أن يبلغ حداً لأي حال.
فالمترملة هي الفقيرة التي لم تفارق زمن الزوجية ولم تفتح آفاق الآتي، والحاضرون بين التفكر في أثر المآل النهائي الذي ينهي بالإخفاق كل المشاريع وبين عافية يحسدون عليها. إنها، بخاصة، اللحظة التي تسمح بابتكار المعنى، وهي "قابلته" على ما يصف سقراط، نقلاً عن ديوتيم، "الشيطان ايروس". بيد أن المعنى هنا لا ينبع من لقاء وجه بوجه، على ما في عمل ليفيناس، بل من المثول حول الجثة، أي من الاجتماع في دائرة حول الحد النهائي لأي معنى. لا وجهاً لوجه، بل التحلق بأنظار مصوبة إلى مركز الدائرة. المعنى هنا يأتي من تلاز الأجساد التي يسمح لها حضورها معاً بالخروج من زمن الجثة إلى الحكاية، أي إلى زمن اللغة والتواصل، كأنما سؤال الموت يفتح أفق المعنى في الوقت عينه الذي يشكل فيه جداره الأخير.
إلى حدّ ما، يمكن القول أن وليد صادق يعمل، على مدى أعمال عدة وبصبر دؤوب، على نسج حكاية أخلاقية تبحث في بنى اللقاءات والمجتمع، عبر ردها إلى مفردات لا محل فيها للنفسانية: الأب والابن أو الابنة، الرجل والمرأة، الانسان والأرض، الجثة ومترملتها، الأجساد والجثث، الجسد والوجه... الخ.
لكن اللقاء الأصلي ليس لقاء وجه الآخر، بل لقاء أجساد حية في حضرة جثة في غرفة بيضاء ما بها من صورة خلاصية. في هذا اللقاء يجد صادق نواة الاجتماع، لكنه يجد أن ما يمنع اللبنانيين منه إنما هو اختلافهم في تقدير قيمة الموت. لذا يمكن الاستدراك عليه أنهم في حقيقة الأمر لا يختلفون على هذا الأمر. فصادق يعلم جيداً، وهو عالج ذلك في عمل سابق بعنوان "جاين لويز تيسيه"، أن المتحاربين جميعا يحيلون شهداءهم وجوهاً بارزة السفور الواضح، في حين يتلثمون هم بالأقنعة واللحى والكنى. أي أن شهداء المعارك، أياً كانت وأياً كانوا، هم دوماً وجوه حاضرة بل جثث. تختم أكفانهم وتوابيتهم على عجل، ليكون التحلق حولهم إعلاناً عن اعتزاز الجماعة بقدرتها على تقديم ضريبة الحرب، لا صمتاً في حضور الجثة على طريق المعنى.
الفارق بين اللبنانيين إذاً ليس في اختلاف قيمة الموت، بل في طبيعة الجماعة. فمنهم جماعة "محاربة" وأخريات ندعوها تجاوزاً "مسالمة"، أي أن الأخيرة لا تحل قتلاها الشهداء في إطار معركة تسوير الجماعة، بل تسوير الوطن، إذا صدقت بالطبع.
بالمقابل، حين كانت كل الجماعات اللبنانية متحاربة، لم تكن اجتماعاً موحداً. ينبغي إذاً البحث عن سبب آخر لهذا الافتراق المزمن.
زمن ما بعد الحرب، لا زمن السلم
يكفي ربما أن نتساءل عن مبرر هذه السهولة التي يميز بها صادق ما بين الوجه والجس، وبين الجثة والشهيد. يرجع ذلك حتماً إلى نقطة أصلية هي الخروج من زمن الحرب إلى ما بعدها، أي إلى ذاك الذي يسميه صادق تجاوزاً زمن السلم، وما هو بسلم. فبحسب قوله في "جاين لويز تيسيه"، فإن الوجوه في زمن الحرب تتوارى، ما عدا الشهداء السافرين، في التشبه بالجماعة وحياضها، أما في زمن "ما بعد الحرب" فهي تتلطى جاهدةً في سعيها نحو إزالة قلق الحرب ومعانيها وآثارها عن صفحة الوجه المليسة.
أي أن في الإمكان أن نحدد في هذا الخروج من ومن الحرب إلى ما بعدها نقطة الإنطلاق في فكرة صادق عن استحالة السفور اللبناني، إذا ما كان السفور يعني الاختلاط وفساد الترتيب وآثار العيش ومواطن الاختلاف وسوء الفهم. في زمن الحرب وفي ما بعدها، يغيب الوجه الخاص الفردي السافر ولا تحضر إلا الأجساد أو وجوه الشهداء المعلقة على أسوار الجماعة.
الأيقونة والخلاص، ابتلاع الأسئلة
هذه الأجساد لا تنحو صوب الاجتماع واللقاء رغم تحلقها حول أموات جماعاتها، ذلك أنها لا تصمت حداداً، بل تهزج، هاذية بخلاص جماعتها وانتصارها.
لا يمكن لزمن الجثة أن يكون قابلة المعنى واللحمة ما لم يؤدي سؤالها إلى بهت الفكر وتحيره. لكن في حضور الأيقونة والقرآن، وهزج الشهادة ما ردّ به الإنسان (أو توهم الرد) على سؤال الموت. لذا كانت إشارة صادق إلى غياب نموذج القيامة الخلاصي أساسية في رسم مشهده الأول في الغرفة البيضاء.
يصير التخلي عن أفكار الخلاص والمهدوية والمسيحانية والقيامة والبعث والنصر النهائي على آفات الحياة وشرورها شرطاً لازماً وأساسياً كي لا تبتلع شبكة الأوهام والتأويلات المسبقة سؤال العيش والموت وأسئلة الاجتماع والزمن (كما في خطاب سياسيينا)، محولة إياها إلى أقنعة وأدلة زائفة على ما سبق التيقن منه والإيمان به.
علينا إذاً التمثّل بباكيتي الحويك اللتين يسميهما صادق بـ"المترمليتن". رفات من ذا الذي ترملت به وأيمت المسيحية والمسلمة معاً وتنحنيان عليه حانيتين؟ ربما يكون لبنان، الذي ذات يومٍ قريب اقترح عليه (وعلى العرب جميعاً) حازم صاغية أن يعلن الاستسلام والهزيمة أمام الغرب، فيما اقترح عليه ساطع نور الدين اعلان الهزيمة والاستسلام أمام النظام السوري. لبنان ذا الذي لا تعده الأناجيل ولا القرآن بالبعث والخلود. جثة لبنان على ما نعاين، سواء لبنان ـ الحلم أو لبنان ـ الساحة، بدأت عملها النشط في الجانب المظلم من الكينونة. ربما، إذا ما انحنينا عليها، نصمت معاً، وندخل معاً في زمن الحداد، وربما ـ ربماـ زمن السلم والمعنى.
وودي يفوز
"نقطة المباراة" لوودي آلن
العدالة في ملعب التنس
نشرت في ملحق النهار في تشرين الثاني 2005
مرّة جديدة يُكذّب وودي آلن كل القائلين بنضوب موهبته وخلو جعبته من المفاجآت. ها هو يعود، من لندن هذه المرة لا من نيويورك الأثيرة، ويحقق نجاحاً باهراً، بعد فترة من النجاحات النسبية منذ "احتيالات صغيرة". إلا أن انجازه لا يقتصر على النجاح الجماهيري المستحق، أو على تغيير اللهجة التي اعتدنا عليها في أفلامه. الفيلم مفاجئ في العمق منذ أول نوطة في موسيقى الجنريك وحتى مفاجأة الختام، إلا أنه على خلاف ما حسب البعض، ليس على قطيعة تامة مع ماضي وودي آلن السينمائي، بل على حوار أكيد معه.
ثقافة الأسياد
بذوق الخبير المحنك يختار آلن الأوبرا (بدل الجاز المعتاد) يرافقها حفيف الأسطوانات القديمة، متجنباً نقاء الأقراص المدمجة المعقم. اختيار محنك وهو في الوقت عينه تحذير للآذان التي ألفت قََطْع الموسيقى عن حرارة الحياة لتبتلعها مُغلّفة دائماً بالسيلوفان. منذ البدء، يظهر وودي آلن التمييز إذاً بين اختيارات الخبراء، وبين الاختيار الذي كان أي حديث عهد سيعتمده. وهذا هو التحدي عينه الذي سيحاوله بطله كريس، الذي يعلن محبته للأوبرا في صورة من يتحدى مخاطباً محدثة الأرستقراطي ذا النبرة الساخرة، صهره لاحقاً.
كريس مدرب التنس الذي سيترقى اجتماعياً في لندن بزواجه من فتاة ارستقراطية بعد أن أتى من أصل إيرلندي متواضع لأب اكتشف المسيح بعد أن خسر رجليه كما قال. تحدي كريس أن يثبت أنه يمتلك ثقافة "الأسياد"، أي أنه ليس مجرد قردٍ يقلدهم. لا داعٍ للشك في ذلك حين نستمع إلى حديثه، لكن وودي آلن بخبث خفي سيكشف للمشاهد ما لا يعلمه أحد: كريس مفضلاً قراءة حياة دوستويفسكي على قراءة مؤلفاته. العلامة الأكيدة على حداثة عهده بكل ما يلح على صَبْوه إليه، وإن كانت الثقافة الانكليزية ستتسلل إلى أعماقه كما يُظهِر في الختام المشهد الماكبثي. في المحصلة نفهم لماذا يصعب على كريس احتمال أي خطر يهدد نمط حياته أي، بحسب ما يرينا آلن، الأوبرا والمتاحف والمعارض والخيول...إلخ. لا شك في أن الثقافة تولّد حرصاً عليها يكاد يشبه الجبن، ومثال تسليم باريس خوف دمارها مرتين في الحرب العالمية الثانية خير دليل. غير أن الخطر الذي يهدد كريس له اسم جميل الوقع: نولا، الممثلة الأمريكية المبتدئة وخطيبة صهره المستقبلي توم.
ليس من قطيعة واضحة بين الثقافة وبين الطبيعة، في الفيلم، إلا أن الثقافة تبدو أساساً سلطة ترويض للجسد، وما فشلت فيه العائلة الأرستقراطية حيال نولا، التي سيتركها توم لاحقاً، سينجح إلى فيه إلى أبعد الحدوود حيال كريس، (الانتهازي أم الطموح؟)، وهو ما كانت الأمريكية الجميلة واعية له منذ البداية، كما يطهر من حديثها مع كريس في الحانة، وهو الحوار الذي يلتقط وجه كريس في لقطات قريبة ممنتجة (خلافاً للشائع عن طريقة وودي آلن) كأنما الكاميرا تبحث في وجهه عن قرينة ما، عن دليل على الوجهة التي سوف يتخذها، هو المشغوف صبوة، الذي يغازل بالأسئلة وكأنه هو التلميذ الذي لا يحور جواباً، حيال خبرة نولا وسطوتها وبهائها.
كرة المضرب وكرة الطاولة
يبدأ الفيلم باصطدام كرة المضرب الصفراء بالشباك، فيما صوت من خارج المشهد المتباطئ يشرح أهمية الحظ في الحياة، وهو ما يتمناه توم لوليد كريس في نهاية الفيلم. إلا أن معنى الحظ سيتغير بالنسبة إلى المشاهد في خلال الفيلم، لأن لقطة مماثلة للقطة الكرة ستصور لنا اصطدام خاتم زواج بحافة حديدية قبل النهر. أبعد من تشابه الكرة والخاتم في اللون والاستدارة، ومن السخرية الخفيفة والدائمة لدى وودي آلن من نجاح العلاقات الزوجية، ينجي سقوط الخاتم هذه الجهة أو تلك امرئ من السجن ويدين آخر.الحظ بالطبع!
لكن الجمل تتطاير في الفيلم شأن الكرات أيضاً، لذا تندر في الفيلم المشاهد التي تضم أشخاصاً ثلاثة، ويكثر الشفع (شخصان، أو أربعة يشكلون فريقين) وثمة غالباً فائز وخاسر. وإذ يلعب كريس كرة الطاولة مع نولا (وعلاقتهما ستكون ككرة الطاولة، متفجرة السرعة، لا متمهلة وتصاعدية كالتنس) فإن دخول خطيبها سيحوله سريعاً من خصم إلى حكم يريده توم متواطئاً في الحكم على جمالها. وكما أن للطاولة قواعد وتقنيات مختلفة تماماً عن التنس، فإن كريس خبير التنس ستتجاوزه الأحداث في كل مرة مع نولا التي رسمت الكرة البيضاء الصغيرة نجمة لقائه بها.
ثمة استعارة "رياضية" أخرى هي الشباك، التي تشكل النوافذ رجعاً لها. والعربية التي تقارب بينهما بليغة الدلالة. الشباك هو دوماً الشبكة التي لا يصطدم بها النظر، بل يخترقها، إلا أن الشبك أيضاً حد فاصل بين ملعبين لا يجوز تخطيه. النظرات تتقاطع أحياناً، إلا أن العبور إلى الجهة الأخرى هو دوماً الخطر الذي لا يفلح كريس في تجنبه. والشباك أيضاً عين الروح ودليلها إلى شقق وسيعة ثلجية البياض، وأخرى حميمة دافئة رغم تقلب الفصول. هكذا تؤدي استعارة الشباك نفس الدور الذي كانت تؤديه استعارة العين في فيلم قديم لوودي آلن: "جرائم وجنح" (1989).
جرائم وجنح
الحق أن قصة "نقطة المباراة" كانت متضمنة في "جرائم وجنح": علاقة غرامية تهدد نمط حياة رجل ثري. إلا أن الفيلم الجديد يتخفف من القصة الساخرة الموازية التي كانت تدور حول شخص وودي آلن، المخرج الوثائقي، وغيرته من صهره المنتج الناجح لمسلسلات تافهة. بالمقابل يثري آلن فيلمه بالتفاصيل في صورة الطموح، الراغب في الترقي الإجتماعي، الأبيّ ظاهرياً والذي يريد الدفاع عن نمط حياة ليس هو هدوء العادات الرتيبة، بل هو الثقافة، التي لا تعفي في نهاية الأمر من جبن وتخاذل ولا من ضِعة أو خبث.
كما أن المقارنة بين الفيلمين تؤكد ما كان ذهب إليه غومبروفيتش، في "البورنوغرافيا" خصوصاً، من أن الكبار عاجزون عن القتل إلا بالواسطة، كما فعل جوشوا في "جرائم وجنح"، بعكس الأصغر. في الفيلمين يتحاشى وودي آلن تعقيد المشكلة الأخلاقية (القتل) بمشكلة أخرى (إدانة بريء)، ففي الأول يختفي المجرم وفي الثاني يدان ميت. غير أن الرد على امتعاض البعض من لا أخلاقية غياب العقاب على الجريمة في "نقطة المباراة" يجد جوابه في "جرائم وجنح": في مشهد متخيل، تناقش العائلة غياب العقاب رغم فظاعة الجريمة، وتقول العمة إن الخيار متروك للمجرم، ما لم تمسكه الشرطة، فإما أن يختار عذابه النفسي، وإما أن يعيش متجاوزاً كل ذلك. وهو ما يردده جوشوا في النهاية، رغم تذكيره ببعض نوبات الشعور بالذنب التي تخفت من ثم وتتباعد. إلا أن وودي آلن يجيبه بأن أسوأ مخاوفه هي التي تتحقق في هذه الحالة: العالم دون ضابط، أو معنى، أو مبرر، وهو ما كان يسع العدالة أو قدراً قليلاً منها، أن تشكله.
إذ يعود أمر العدالة إلى الفرد، يتناسى كريس جملة أخرى لدوستويفسكي، هي التي بنى عليها ليفيناس إطيقاه: "الكل مسؤول عن كل شيء وحيال الكل، وأنا أكثر من الجميع".
الجسد في الزمن، وفي المدن
نشاط لبناني في التارماك:
أسئلة الزمن والمدينة إذ يعبرهما الجسد
نشرت في ملحق النهار، في تشرين الثاني 2005
شهد مسرح التارماك الباريسي المخصص للفن الفرنكوفوني نشاطاً لبنانياً متميزاً في ختام موسمه الأول بعد إعادة فتحه. ففي معرض استقباله لمسرحية "بيوخرافيا" للينا الصانع و ربيع مروة، والتي سبق عرضها في بيروت، عرض التارماك أيضاً لثلاثة فنانين : "كوارث" لعمر فاخوري، و "طائرات ورقية ـ بيوت" لفلافيا قدسي، و "كتب" لهانيبال سروجي. كما خصص، في 30 تشرين الأول الفائت، يوماً لعدد من أفلام الفيديو اللبنانية، فقدم أفلام "دائرة حول الشمس" لعلي شري، "السقوط الأخير" لنسرين خضر، "لا شيء يهم" لعلي قيس، "حديث نسوان" لدانييل عربيد، "وا" لزياد عنتر و "جيبرالطار" لغسان حلواني.
ثمة تصادٍ خافت بين ثلاثة على الأقل من هذه الأعمال يحيل المرء على أسئلة شائكة إذ تتقاطع فيها خطوط الزمن و المدينة والأطلال، على التباس جميعها بموضوع الجسد الذي يحيا ويعبر وينتهي إلى الخيبة أو اللامبالاة ما لك يتدخل سحر القص ليجعله حجراً فيهنأ، على ما كان تمنى الشاعر الجاهلي.
يفتتح شري فيلمه بصورٍ تبدو كما لو أنها تحمل في طياتها أطرها، فنجد البيوت عارية الأعمدة مثل أضلاعٍ، تتوسطها بقعات نور متسللة من فرجات لا ندري أهي وليدة الاهتراء والإهمال أم وليدة البطء في إتمام البناء. مبانٍ بين عمرين، لكننا نجهل إن كانت تمضي نحو الفتوة أم نحو الاندثار. أما نصه المستوحى من كتاب ميشيما "الشمس و الفولاذ" فيتأرجح بين حدين، حد الجسد الخائب إزاء الأفكار والعاجز عن مجاراتها والتشكل بحسبها والعاجز حتى أن يكون لائقاً بميتة درامية، وحد الأسى لدى إعلان نهاية الحرب لأن المدينة التي يحيا فيها لن تظل تأكل نفسها (أو هو يحسب ذلك)، لكن المصالحة مع الشمس تتم حين ينتبه إلى كونها تعجل بتحويل كل شيء إلى طلل.
في "جيبرالطار"، أو "جبل طارق"، فيلم فيديو و تحريك، لغسان حلواني والذي يعرض قريباً في بيروت، ليست المدينة (باريس) التي تتحول أطلالاً. باريس سلفاً طَلَلٌ مثلها منذ فجر التصوير. لكن ما يغيب ثم يتصخّر هو الوجه، وكذلك حال صور الفيلم التي تتحلل وتتقشر كالإعلانات عن الحيطان أو كجلدٍ محترق من أثر الشمس، و ذلك قبل أن يصير طارق نفسه هو الجبل الذي يظلل المدينة. في هذا الفيلم المستوحى من مسرحية "زنبق والجبل" أثر هائل للغياب، غياب رؤية المسرحية التي لم تكن، إبان الحرب، معروضة للأطفال بل توافرت فقط على الكاسيت. ليست الحرب أو عنفها ما يترك الأثر هنا، بل الصوت وغياب الرؤية، هكذا تتفتح الصور وتتناسل من بعضها كتتالي الدرجات الموسيقية فنجد عالماً معلقاً في دهاليز كيس تشبه نفق أليس التي تلاحق الأرنب الأبيض إلى عالم العجائب.
الغياب يترك بصمته الحارقة على جلد الصورة نفسها. في هذا ربما يقترب "جبل طارق" من فيلم على شري، إذ لا بعود التحول إلى طلل نوعاً من التصخر (الفردي في الأول و المديني في الثاني) بل عملية متواصلة (المدينة تأكل نفسها، الصور تقشر نفسها). لكن أحداً منهما لا يأخذ الطرح إلى مداه الأبعد متسائلا عن أحشاء هذه المعدة التي تقشر وتأكل. تحديداً يقف شري عند شمس ميشيما و لا يتناول الفولاذ الذي هو ربما، مصهوراً متدافعاً كحمم البراكين في فيديو وليد رعد عن السيارات المفخخة، أحشاء المدينة الفعلية، و محرك الصور (موتورها) في عنف شراهتها و نهمها.
طارق العابر في المدينة ـ الطلل يصير الجبل، أما عمر فاخوري فلا يعبر في الأمكنة بل في الأزمنة، أزمنة العنف الدافق. فاخوري سائح يبعث لنا بطاقاته البريدية و ألبوم صوره، "من بيروت مع الحب"، "من رواندا مع الحب"، "من كوسوفو مع الحب"... الخ. وكما يأخذ السياح للسياح الصور واللقطات أمام الأطلال و الأنصاب، تؤخذ صور فاخوري أمام الكوارث. الكوارث أحداث هي أنصاب الزمن و علاماته في رأي فاخوري، لكنها ربما كانت أطلال الأزمنة.
يلعب عمر فاخوري مع الصورة والجسد السينمائي الجيمس بوندي : "من روسيا مع الحب" للعميل 007 ، "من بيروت مع الحب" يرد فاخوري بثيابه السوداء مديراً ظهره مبتعداً عن انفجار السان جورج واضعاً يديه على خصره كأنما لا رادّ لعزم وتصميم رجل الوكالة البريطانية. "زيليغ" لوودي آلن يتلوّن كالحرباء حتى يصير، رغماً عن نفسه، عضواً في الميليشيا النازية، أما فاخوري فهو "من برلين مع الحب" يرسل لنا تمرد جسده يدخن بتلذذ و طرافة سيجارته أمام هتلر الخطيب في جنوده المتراصين لا يهتز لهم جفن... والأمثلة كثيرة، إلا أن كثرتها تبعث على التساؤل عن تساوي الأحداث و الكوارث في عين فاخوري، و عن غياب التفاوت، وهي متفاوتة، في القدرة على إنشاء أزمنتها الخاصة. إلى أن الكثرة والبحث عن الطرافة والدهشة يجعلان علاقة جسد فاخوري بأزمنة الكوارث علاقة متفاوتة أيضاً. فهو حيناً مشارك أو عامل في الكارثة نفسها، وحيناً مجرد إسقاط عليها من الخارج. على النقيض من عمل لينا الصانع و ربيع مروة الساعي في إخراج الجسد من حلبة العرض و في تقويض سلطة الصورة باللغة الناقدة و الساخرة والمفعمة ثقةً و هزءاً، يبدو أن فاخوري يسعى إلى وضع الجسد، جسده الخاص في قلب صورة الكارثة ولحظتها ربما ليمسح بمرهم الفكاهة ذنوبنا جميعاً فيها. بيد أنه ينسى أن لحظة الكارثة هي زمن ميت، بحسب دولوز على الأقل، و أن الجسد في مثل هذه اللحظة جسد معدٌّ للسحق، رغم كل خدع التصوير.
في حين يهرب البعض إلى الطفولة ("وا" لزياد عنتر) أو إلى الباروديا السياسية ("لا شيء يهم" لعلي قيس) أو إلى الحنين (و "طائرات ورقية ـ بيوت" لفلافيا قدسي) أو فقط يراكم البنايات المتكدسة كأكوام النفايات بحيث لا تترك مجالاً للسكان ولا متنفساً (أفلام "دائرة حول الشمس" لعلي شري) وحدهما "جبل طارق" لغسان حلواني و "السقوط الأخير" لنسرين خضر يقدمان جسداً في ماديته الهائلة، في ارتباكه ووهن مفاصله وخجله كما تُظهر خضر في فيلمها القصير جداً الذي يلوح كنثر الجسد في وجه جان فيغو و "سباحته" التي يحيلها قصيدة ملحمية في إعلاء الجسد و الإرادة و الماء المتلألئ.
ليلة سعيدة وحظاً سعيدا
"ليلة سعيدة و حظاً سعيداً" لجورج كلوني"
لماذا لا يستشهد الإعلامي مورو؟
(غير منشورة)
فيلم جورج كلوني الجديد "ليلة سعيدة..وحظاً سعيداً" ليس فقط فيلمه ممثلاً بل أيضاً مخرجاً. في هذا يبدو الممثل الوسيم أذكى من طلّته حين يرسم بالأبيض و الأسود عالم التلفزيون الجديد آنذاك في أميركا منتصف القرن الماضي. لا نملك إلا شكره على تضحيته بألقه و ببطولته المطلقة حيث يلعب الدور الثاني (فرندلي) خلف دافيد ستراتهيم الذي يؤدي ببراعة و صرامة دور مورو، المذيع التلفزيوني الذي أسقط السناتور مكارثي في عز سطوة هذا الأخير و لجنته و محاكم تفتيشه عن "شيوعيي" أميركا المفترضين. تقشف الفيلم في كل شيء و هدوءه الرصين يمنعاننا منذ البدء عن الحماسة و يعصمان منها. منذ البداية نرى مورو في خطاب ما بعد المعارك، ما بعد الفوز أيضاً، في خطاب المتقاعد الذي لا يسعه كتمان ما بقلبه من شجاعة، لكنها شجاعة الفشل المحتوم للمهمة التي اعتقد مورو أن على التلفزيون تأديتها، تنوير الناس وإطلاعهم على حقائق الأمور لا إلهاؤهم و عزلهم عن أنفسهم و عن الآخرين.
ذلك أن مورو الذي نجح في إنهاء سطوة مكارثي، و الفيلم يروي قصة هذا الصراع، ما لبث أن اضطر إلى التراجع عن السير في المواضيع الجدية، ثم تراجع حضوره التلفزيوني، أمام ضغوط شركات الإعلانات التي لم يعجبها هبوط عدد متابعي برنامجه من المشاهدين. اليوم، مورو أسطورة أميركية لا تجارى، بالمعنى الحرفي، أي أن أحداً في التلفزيونات الأميركية لا يعترف بالعجز عن مجاراته في المهنية و المناقبية و المعايير التي وضعها لبرامجه، وأداء هذه التلفزيونات منذ 11 أيلول إلى حرب العراق خير دليل، لكنه في حينه وُضِع خارج ساعات الذروة و همِّش.
لا يسع المشاهد العالمثالثي و اللبناني بخاصة سوى التساؤل: لماذا لم يبعث السناتور أحد رجاله لإسكات مورو بالطريقة المعروفة جيداً لدينا، الترغيب و الترهيب، و القتل في نهاية المطاف؟ لماذا فضّل الظهور على التلفزيون و محاولة تشويه سمعة مورو، ربما على أمل دفعه إلى الإنتحار كما حدث مع إعلامي آخر؟ و لماذا كان النقاش الرئيسي في الفيلم، و هو ما يستغرب أمثالنا بداهة الإجابة عليه، هل ينبغي على التلفزيون أن يكون موضوعياً حيادياً أم يجوز له، في الأحوال الخطيرة، أن يتبنى موقفاً و يدافع عنه؟ و كيف يتأتى للإعلامي أن يصير سلطةً؟ ماذا عن مسؤولي الشبكة الذين لا يظهرون على الشاشة بل يديرون الصفقات المالية و السياسية؟
طبهاً الإجابة عن هذه الأسئلة ليست سهلة، لا سيما خارج إطارها أي الإطار الزماني و الإجتماعي للولايات المتحدة، و إن كان تاريخها في الحريات ليس كله ناصع الإشراق، ولا يكفي تماماً لاعتباره رداً جامعاً مانعاً. ما يحسب لكلوني أن تقشفه الإخراجي و ضيق الأماكن التي اختارها و الايقاع الرتيب المتعمد للأحداث يسمح للمرء بالتنبه لاحتمالات الأسئلة و لا يجبره على اللهاث المتواصل خلف سيل الصور.
يقدم الفيلم عدداً من الإشارات على وجهات محتملة للإجابات أو لبعضها على الأقل: شهرة مورو لا تعصمه من الهجمات على سمعته لكنها بالتأكيد تعصم من القتل ما دام قد أشهر عدوه، لذا لا يكاد مرور يبدو خائفاً سوى من... الإعلام، فيتلهف على قراءة ردود الفعل على حلقته، و يرفض فتح معركة مع صحافي آخر يتهجم عليه و على أصدقائه قائلاً أنه ببساطة لا يستطيع أن يكسب إذا ما استعدى في الوقت عينه السناتور و صاحب الصحيفة. مع الأسف لنا، يبدو أن الأميركيين أضيق مخيلةً من الرد بأن القتل في هذا الوقت بالذات دليل براءة الخصم لشدة ما يبدو بديهياً توجيه الإتهامات إليه!! بحسب هذا الرد، يبدو أن الأميركيين يجهلون الحقيقة وهي أن القتلة لا يقتلون أعداءهم، بل أصدقاءهم، بهدف توجيه الشبهات إلى الأعداء، أي أن الرِيَبَ لا ينبغي أن تتوجه إلا في الأقربين!
من جهة أخرى، يبدو أن من شروط التنطح لمثل مهام مواجهة السياسة بالإعلام أن تسبق شهرته معركته، و ألا يكترث أصحاب الإعلانات بمضمون البرامج التي يعلنون فيها. من وجهة النظر الإقتصادية يفترض للعولمة أن تلعب هذا الدور تحديداً حيث أن المعلن كخريج مدرسة تجارة لن ينظر سوى إلى نسب المشاهدين، و في هذا ضمناً تبرئة لأصحاب الإعلانات و لأصحاب التلفزيونات من التهم المغرضة التي تصمهم بفرض البرامج التافهة على المشاهدين. أليس أن انخفاض المشاهدين هو ما أدى إلى انحسار مورو و ضمور حضوره، و ليس انزعاج المعلنين ولا السياسيين منها من مضمونها؟ أليس إذن أن الإعلامي قادر على الإنتصار على السياسة ولكن ليس على التفاهة العامة التي تستشري؟
لكن الواقع يغاير مثل هذه النظرات المتعجلة. فالواقع أن العولمة بعيدة من أن تعلن نهاية السياسة و الدول أو أن تزدري السياسة كإرث مضرّ متخلف عن عصرها الذي تديره العقلانية الحسابية البحتة. بل إنها تزيد شد الروابط بين شخوص الساسة و بين الشركات، و مثال بوش و تشيني واضح، و أقل منه شهرة تحوّل جاك شيراك بائع طائرات إلى حكام الصين أو روابط اليميني الصاعد ساركوزي وأخوه بأوساط أرباب العمل الفرنسيين، و آثار ذلك على السياسات الدولية جلية من حرب العراق إلى مؤتمرات منظمة التجارة العالمية و حروب اليورو و الدولار ... إلخ.
أما في العالم الثالث واقتصاداتها الذاوية فإن لهذه العلاقة إسماً هو الفساد، فلا يكاد ثمة سياسي بارز فيه ليس مرتبطاً بشبكات فساد و صفقات و علاقاتٍ مشبوهة لا سيما بالأوساط المالية، فالمال عصب السياسة في كل العصور، وما الفساد سوى البديل العصري لمصادرة الأموال و الضرائب التعسفية و الجباة والملتزمين مما لم نكد ننساه. الفارق إذن أن ما كان معتبراً جوراً بات "شطارة" و مصدر سلطة و عزوة. مع تنامي الإقتصاد و تعولمه لم يعد بمقدور أرباب العمل ترك السياسة للنبلاء و الإقطاعيين أو لذوي النسب و الحسب و العمل في صمت على تكوين ثرواتهم على أمل ألا تتعرض للمصادرة، بل بات عليهم في ظل تنامي العروض من كل حدبٍ و صوب إقناع السياسسن ببضاعتهم، أو استخدامهم لترويجها، كطوني بلير يبيع ترشح لندن لعشرات الملياريات التي تشكلها الألعاب الأولمبية.
اليوم، ليس بمقدور أي شبكة تلفزيونية، ولا حتى صحافة الرأي التي تحقق خسائر في كل العالم، النأي بنفسها عن التحالفات السياسية، حتى تلك التي يدفع مستقبلوها اشتراكاتهم، لأنه ما عاد من مسافة فعلية بين المعلنين و بين السياسيين. لذا يجري التفكير في فرنسا مثلاً بمشروع قانون، مستوحى من قانون منع الإحتكار في المطبوعات، يسقط ورقة التوت و يسمح لشخصية قانونية واحدة بامتلاك قناة تلفزيونية على أن يُكافَح الإحتكار لا من خلال فرض الملكية المشتركة بل من خلال مراقبة نسبة مشاهدي القناة و منعها من تجاوز حدٍ معين. الحالة اللبنانية في مثل هذا المعرض غنية عن الشرح لناحية نوعي الإحتكار إذا ما اعتبرنا جمهور كل طائفة لوحده. يبدو أن من الضروري إذن التفكير في إعادة هيكلة هذه القطاعات في لبنان في شكل أكثر شفافية.
لم يكن مورو يطلب من رؤسائه مثل هذه الشفافية بل كان جلّ اهتمامه ألا يفرضوا عليه رقابة، لا يتعفف هو عن فرضها على نفسه، لكنه يدرك جيداً أن الحركة والإعتراض هما وحدهما ما يوسّع دائرة الحركة والإعتراض، و هذه ما قام به عدد من الصحافيين في لبنان منذ مطلع التسعينات وإلا لما تحول الإعلام اللبناني أداة فعّالة إلى هذا الحد. ويعرف مورو أن ثمة مجازفاتٍ لا يمكن الإمتناع عن إرتكابها بدعوى إنتظار الوقت الأنسب و الآمن. ما دام الخوف قد بات في داخل هذه الغرفة، يقول لمساعديه، لا مفر إذن من المواجهة وافتتاح المعركة. هكذا في الفيلم أيضاً يواجه مورو المزيّف (الممثل ستراتهيم) بمشاهد ممثّلة السناتور ماكارثي الحقيقي في مشاهد من الأرشيف، فلا مفر بعد دخول الماكارثية في صيغتها الجديدة إلى كل دار في أميركا بل وفي العالم سوى مواجهتها.
غير أن أسلوب المواجهة بالغ الأهمية. كان في وسع كلوني أن يكون كمايكل مور، أن يسخر من بوش و يكشف علاقاته و أكاذيب تصريحاته و تناقضاته مكتفياً فقط بالأقوال دون حتى التعليق عليها، كما يسع أياً منا أن يقوم بالأمر نفسه حيال مختار الزعماء أو سعادة الشيخ أو مقاوم السيادة أو صخرة طانيوس شاهين أو قديس البربارة أو الهزبر الغضنفر (حسناً ربما ينبغي استثناء هذا الرئبال الأخير ـ الذي لا يبدي أي حس بالنكتة في أي حال ـ عملاً بنصيحة المتنبي الشهيرة حول نيوبه)، لكن فضيحة التناقض فيها ما عادت فضيحة كما في أيام ماكارثي. ما عادت الفضيحة سلاحاً فتاكاً بل إنها اليوم لا تكاد تخدم سوى الأسياد الذين يزدهون بسعة صدرهم و ديمقراطيتهم، قبل أن يستخدموها هم مدمرةً ضد من ليس أمامه مجالاتهم في الكرّ و الفرّ. لذا لم يكن أمام كلوني سوى استدخال الإزدواجية و الغش في نسيج صور الفيلم.
الغشاش في الفيلم هو ذاك الذي لا يمثّل، الصور الخادعة هي المادة الأرشيفية، أما التمثيل، فهو أساساً فاقد للقدرة على الوعظ بضرورة الصدق من حيث أنه محض إيهام على ما كان لاحظ روسو من قبل.
بازدواج الغش وانقسامه على نفسه ربما يعود ثمة محلّ للتفكر في الحقيقة، وحده التفكر، على نقيض الفضيحة، يكشف بوش دون أن يدعم الزرقاوي مثلاً. غير أن ذلك مستحيل من قبل أناس ينفث الخوف أنفاسه الباردة في أعناقهم. في الفيلم يقبل مورو في النهاية أن مكارثي سيحاسب و تُكفّ يده لكنه سيظلّ طليقاً بل وسناتوراً، و ربما كان هذا جوهر النظام الديمقراطي في الواقع. في بلاد الثورات الدموية المستدامة مثل هذه النصيحة من ذهب: ينبغي كشف الحقائق و كف يد الظلم ووضعها خارج دائرة القدرة على الأذى، أما الثأر وسلاسله و رعبه فلا يستولد غير الثأر والعنف.
سينما بيروت
بيروت في ثلاثة أفلام لبنانية من مهرجان باريس السينمائي
نشرت في محلق النهار في تموز 2007
كان لبنان ضيف شرف مهرجان باريس السينمائي الذي اختتم الأسبوع الماضي. لا تسعى هذه المقالة إلى "تغطية" شؤون المهرجان، ولا حتى البرنامج اللبناني فيه، الذي كان وافراً وإن لم يخلُ من نقصٍ كغياب محمد سويد وغيره. قصارى هدفنا هنا، مع الاعتذار الحار من الآخرين، هو مقاربة ثلاثة أفلام لبنانية جديدة يجمعها، إلى جانب الطابع الروائي الطويل، كونها تعرض للمرة الأولى في باريس، وكونها تحاول تشكيل صورة سينمائية لمدينة بيروت، على تفاوت في الأدوات والأساليب والأصوات.
لكن، لا بد أولاً من إزاحة التباسٍ ترددت أصداؤه على صفحات الجرائد اللبنانية وفي الكواليس، ويزيده بلةً، دفاع بعض النقاد عن تمثيل السينمائي لذاته وحدها، وكأنما هي من صنع يديه، على ما كانت أرندت تقول ساخرة من المتفاخرين بلغتهم الجرمانية.
كان خليل جريج وجوانا حاجي توما، بين المكرمين إلى جانب دانييل عربيد والمخرج الشاب وائل نور الدين عن فئة الأفلام القصيرة (ليس خطأ تكريم شبان في أول نتاجهم إلا متى فهمنا التكريم إعلان نهاية، لا دفعاً وتشجيعاً!). لقد أثار هذا الخيار بعض الضجة، مثل كل اختيار في كل مهرجان، حيث تساءل البعض عن سبب اختيار هذا الاسم لا ذاك، وإبراز ذا والتعمية على آخر. والحق أن كل اختيار إشكالي وظرفي، لكننا نحسب أن اختيار الثنائي جريج ـ حاجي توما هو أيضاً تكريم لجيل كامل من الفنانين والسينمائيين والمفكرين، إذ يبدو جلياً في أعمالهما ملامح نقاشاتهما وتفاعلهما مع أعمال غسان سلهب وجلال توفيق ووليد رعد وبلال خبيز ووليد صادق وربيع مروة وغيرهم كثيرون. مثل كل عمل جدي، تحاور أعمال جريج وحاجي توما أعمال مجايليهم وشغفهم بمدينتهم وتتقاطع مع اهتمامات هذا الجيل الذي فتح أمام الفنانين اللبنانيين أبواب مهرجانات العالم ولقاءاته وجمهوره الغفير الذي أمّ صالات باريس في هذا المهرجان الأخير، واعداً بمزيد من الترحيب بالفن اللبناني.
سنتناول إذاً، من بين أعمال هذا الجيل، فيلم السينمائي البارز غسان سلهب "أطلال"، ومن بين الوافدين الجدد فيلمي نادين لبكي "سكر بنات" وميشال كمون "فلافل".
غسان سلهب والغطس في عمق طلل
فيلم "أطلال" ليس الفيلم الأول لسلهب، وليس فيه من تردد أو تلعثم. يعرف سلهب ما يريد، ويملك أن يقدمه في جمال بصري أخاذ واقتراحات بصرية لافتة، مثل المشهد لدى طبيب العيون. وهو بعد أن استنفد أصوات بيروت وتصويرها من زوايا مختلفة (من الأسطح، والسيارات، في الليل والنهار، في سوليدير وفي الآثار المتبقية) في "أرض مجهولة"، يتوجه الآن ليصور بحر بيروت. البحر موقعاً، ومشهداً واستعارة. يمكن للغوص في البحر أن يكون استعارة للبحث في أعماق المرء، الذي يصوره كارلوس شاهين نيابة عن كل منا، مثلما يمكن لصور الأشعة الطبية أن تكون أيضاً استعارة عن الأعماق، وكما يمكن للفلامنكو أن يكون استعارة للكبر والتحدي ورائحة الدم الماثلة في مخيلة الشمس الاسبانية وعين الثيران.الزرقة والشمس والكوريدا المستدعاة، ليس باتاي بالطبع بعيداً. لكن الفيلم ليس مجرد استعارات، بل ربما ليست الاستعارة سوى ما يضيفه المشاهد نفسه على الفيلم، مثلما قد يضفي عليه قراءة سياسية.
نجرؤ على القول إن سلهب أيضاً يصور مادة رؤيته، وليس استعارتها النظرية. فهو لا يتردد فيمنحنا ما يشاهده مصاص الدماء، مثلما يشاهده، زائغاً مشوشاً، وبعد انطلاقة رائعة يتباطأ الفيلم بشكل غريب، لكن أليس التباطؤ أيضاً إدخالا لنا في زمن مصاصي الدماء، الخلود البطيء والممل.
يمكن الزعم أن الفيلم بعيد عن القراءة السياسية، وإن تزامنت جولات مصاص دمائه الخفي عن الكاميرا (لكن إن كان لا يصور، كيف تلتقطه عدسة سلهب؟) مع موجة قتل واغتيالات بيروتية وتنبأ بتحول الأطباء إلى قتلة، كما في بريطانيا. في الواقع، ينجم ابتعاد الفيلم عن الإسقاط السياسي من كون إنتاج مصاص دماء يهدف، برأينا، إلى قتل ندٍ آخر له الطبيعة عينها. هو إذاً عمل انتحاري. صناعة قاتل لقتل الذات.
لماذا مصاص الدماء؟ لماذا الأشباح والدم والقتلى؟ إنه، مرة جديدة، قبول ارث الموت متغلغلاً في نسيج الجماعة، عائداً من الغيب ليقيم لها لحمة وسدى. لا تغيب الجثث في الفيلم غيابها في أعمال جريج وحاجي توما، لكن الحداد أيضاً لا يحضر كما لدى وليد صادق. ما يحضر لدى سلهب هو موت حديث، ليس مرتبطاً بالحرب التي يمكن النظر إليها من هذا الجانب على أنها حرب ريفية، أو حرب ترييف المدينة. إنه موت سائر، سادر في عمله. موت يتطلب موته، يبحث عنه، ويشحذ على مهل السكين التي يأمل أن تأتي لتجز عنقه ككبش أخير.
إنها ظواهر مدينية تلك التي تروي عن مصاصي الدماء، والجرائم الجنسية، والعلاقات المتعددة الطبائع دون أي عقد، و توري عن شخوص دون عائلات، دون إخوة أو آباء ودون أبناء أو زيجات. يصور سلهب إذاً ما يمكن افتراض طابعه المديني بامتياز: فرد في شارع، انحرافات وجرائم، مدينة حبلى بأساطير حديثة.
يمكن بالطبع الطعن في تصوير سلهب لواقع المدينة، بدءاً من حقيقة مصاصي الدماء وجدوى أسطورتهم، وصولاً إلى افتراض أن "مدننا" ليست مدنناً بل كونفيدرالية قرى. لكن ذلك أيضاً مردود،فبيروت لا تني تبتلع مدافنها مثل أي مدينة حديثة، وتفكك النازحين إليها، ببطءٍ ربما ولكن بفعالية أكيدة تثبنها، للمفارقة، الجرائم والفضائح والقدرة على الاهتباء والسعي في هوامشها. لكن السؤال لاذي قد يكون سلهب يطرحه علينا هو عمن يعض، مثل الطبيب خليل ونسائه الفاتنات، ثدي المدينة إن لم تصور نفسها عذراء كوالدة الإله في الأيقونات؟ إنه سؤال كشف الغطاء عن حياء المدينة كي تتقبل العنف والموت الوارف في ثناياها، دون مزاعم عن إلهية هذا العنف أو "برانيته". إنه، في معنى ما، عنف البحر المتأبد كالأمواج في مفتتح الفيلم، لا ينفصل عن المدينة التي تنطوي على مدنٍ كثيرة في طبقات طياتها.
في بيروت فيديو كليب لبكي ودماها الجميلة، وبيروت ليل الشباب والمغامرة والمقامرة في فيلم كمون، هنالك متسع بعد للنضج، للأمل والرغبة. لكن سلهب يزعم أن لا مجال لإغفال عنف المدينة وقسوتها، على أفرادها وفيهم، أو لنسيان ذكر الموت والرغبة في دفع الحيوات والشوارع إلى أعماق سحيقة، لا تعود منها سوى أطلالاً نبني فوقها أحلاماً أخرى ونسياناً كثيراً. ربما ينبع انزعاجنا مع عمل غسان سلهب أننا فعلاً نشعر بطعم الدم تحت نواجذنا وأسناننا. ولسنا نبكي! أليست هذه معجزتنا المؤسفة؟
"سكر بنات": الإشفاق على المشاهد من دموع الدمى المتحركة
لقي فيلم نادين لبكي الذي لم يعرض بعد في لبنان ترحيباً حاراً من قبل بعض النقاد حين عرض في مهرجان كان الفرنسي، لكنه أيضاً قد يلقى اعتراضاً مثيراً للسخرية من قبل رافضي "الاستشراق الذاتي"، الذين قد يرون فيه "شداً" للمشاهدين من خلال استعراض جمال اللبنانيات واختراق تابو المثلية النسائية، على خفر مزعج، وإرضاء للغرب بإظهار مشاكل العذرية والعلاقات "غير الشرعية" فضلاً عن الفرنسي العجوز ومغامرته البيروتية. الاعتراض طبعاً سخيف لأنه لا يرى أن هذه العناصر موجودة في بيروت وليست متوهمة، ولا يكفي أن تكون أجساد النساء أرض الصراع اليوم بين دعاة حقوق الإنسان والأصولية السلفية حتى يكون في تصويرهن استشراق.
لكن الفيلم الذي يقدم تصويراً ناعماً وأنيقاً يعاني دون شك من الفتنا الشديدة بلغته البصرية التي لا تختلف عن فيديو كليبات نادين لبكي السابقة، فيبدو أشبه بفيديو كليب طويل منه بفيلم سينمائي يفترض بأدواته أن تكون أكثر كثافة وأغنى تنوعاً وملاءمة لما يطرحه.
كما أن لبكي، على ما يبدو، تشفق على مشاهديها، فلا تكاد ترد مورد حزن إلا وأشفعته بطرفة أو نكتة، مازجة مطلع الأسى بتواصل السرور. قد تقول لبكي لنا أن هذه هي طبيعتها، ولا شك أن الحياة مزيج منهما معاً، إلا أن منهجية هذا الخلط، فضلاً عن كونها تمنع من تعميق الحالات والمضي إلى أغوارها، تصبح بسبب طابعها التكراري نوعاً من "البرهنة" المسيئة للأعمال الفنية، لا سيما حين تفيض عن الحاجة وعن الواقع، كما في مشهد المحجبة التي لا تنزع حجابها حتى في وسط بناتها!
إلا أن أعمق مشاكل الفيلم، في رأينا، هو كون دماه (والدمى في العربية الغواني الجميلات) تتحرك في فقاعة معزولة عن بيروت التي تهدي لبكي إليها الفيلم! بيروت لبكي صور مسطحة لشوارع قليلة، وحارات مقفلة، تبدو غاطسة في مناخ موسيقي يداني النشاز والتنافر. تمتنع لبكي عن دخول المدينة من باب أصواتها، وتحرك دماها في مناخ معقم، وعقيم، من الكليشيهات الصوتية. إلا أننا نعرف أن المدن لا تؤتى أزمنتها سوى من أصواتها، كما سبق لسلهب أن فعل في "أرض مجهولة" أو رايغاداس في "معركة في السماء". على عكس الفيديو كليب، لا يمكن لفيلم "بيروتي" أن يكون حكاية على غرار حكايا لافونتين أو والت ديزني، أو أرضاً معلومة ومفارقة لبيروت.
سبق للبكي أن خلقت عالمها الفيديو كليبي، إلا أنه بطبيعته ليس سينمائياً لأنه يقوم اساساً على موسيقى لم تصنعها المدينة، بل أنتجت مسطحةً في حواضن اصطناعية معقمة بعيدة عن أصوات المدن (والصوت اللحن) ومشاهد أيامها ووقائع زمنها.
على لبكي أن تخرج من اللوحة التي نسجتها لنانسي وهيفا إذا شاءت أن تدخل إلى عالم ليل وريما ونسرين و"طانط" روز، اللواتي لن تظل حينها دمى متحركة تشفق علينا لبكي من دموعها دون داعٍ حقيقي.
"فلافل" ميشال كمون: بيروت واسعة الليل
لا يهدي كمون فيلمه الروائي الأول إلى بيروت، بل إلى شقيقه الشاب المتوفى روي. رغم ذلك، لا يكتفي كمون بتقديم صورة عن عالم بيروت وشبابها الليلي، بل يثبت أيضاً أن مدينة بيروت ليست تتطابق مع حدودها الإدارية. تصل كاميرا كمون إلى كسروان، لكنها لا تغادر بيروت. بيروت هنا هي زمن عيش، وليل، ومنطق المقامرة والمغامرة، وليست مباني وتقسيمات جغرافية أو دوائر إدارية، وبالتأكيد ليست شعاراً انتخابياً أو سياسياً.
خلافا للبكي أيضاً، يستعمل كمون الصمت وأصوات المدينة الليلية والسيارات، دون أن يتعفف عن استخدام الأغاني الراقصة متى انبعثت من علب الليل أو من مسجلات السيارات والمحال والبيوت. إلى جانب ذلك، لا يمكن إلا التنويه بالشريط الصوتي الذي يستخدمه من موسيقى Soap Kills الالكترونية وغناء ياسمين حمدان المفعم بالمتعة وعيائها وتجارب توفيق فروخ وفرقته في عزف النغمات الشرقية على الآلات النحاسية. المشكلة ربما تظل في حاجة كمون إلى المزيد من التفكر في أحوال القطع والوصل بين هذه المواد الموسيقية.
غير أن الأهم في فيلم كمون، في نظرنا، يتجاوز طرفة الفلافل وبائعها، وإمطار السماء سقف المباني بحباتها الضخمة الشهية، وهي طرفة ظريفة، غير أنها غير مقنعة في تقصيها وتطويرها من ثمّ. ربما كان الجانب الأهم يتبدى في الرغبة في التصوير الليلي، واستعراض مغامراته، العاطفية والجنسية والأمنية والذكورية معاً، وفي مد حدود بيروت إلى كامل مساحة الرغبة الليلية.
يتبدى أيضاً جانب مهم في محورية موقع كازينو لبنان من الفيلم. ليس ذلك أن لبنان كازينو، على ما يحسب بعض مدعي الفضيلة والتعفف والمال الطاهر، بل لأن الكازينو في الفيلم دليل على نمط حياة لبناني يتوسل المقامرة بكل شيء، بالحاضر والمستقبل والمال، في سبيل دواعٍ ليست دائماً مفهومة. بالحظ، تقفز حبة فلافل هاربة من قعر الزيت، وبالحظ أيضاً نجد المال ونشتري به سلاحاً، وحين يخوننا الحظ نقع في الحصر والغيظ. ليس هنالك من تراكم عقلاني مخطط لدينا، هنالك فقط الوعد بالحلم، صادقاً أم كاذباً.
بالحظ ربما تنضج حبة الفلافل الهاربة التي يدعو فادي أبي سمرا إلى أن يكونها ذلك الشاب المفعم بالحيوية والتماع الأعين. إلا أن نضج ما يبدو أقرب إلى جيل من المراهقين، في فيلم كمون، يمر عبر الاعتراف إذاً بأننا "نشخ تحتنا"، بأننا "نشيخ تحتنا" أيضاً دون أن ندري من سيتحملنا في شيخوختنا. الاعتراف بهذه الهشاشة هو إذاً أول شروط النضج الذي يتجلى في التخلي عن مبدأ الثأر والشرف الذي لا يسلم من الأذى ... والحنو على إخوة لنا.
يصور كمون، تحت ستار كوميدي بأبطال كرسوم الكرتون في مراهقة مطولة، مساراً للنضج يدعونا إليه ماداً يد الحنان إلى خد الأخ الغائب. مرة جديدة، يبدو قبول الغياب والموت شرطاً أول للعيش معاً.
معارك السماء، معارك الجلد
"معركة في السماء" لـكارلوس رايغاداس
صراع على الجلد المكسيكي
نسرت في النهار، تشرين الثاني 2005
المعركة ليست فقط في السماء، بل عليها. وعلى جلدها المشدود. في الجلد ينحفر القانون، كما أشار كافكا. في جلد ماركوس، رجل الكولونيل، انحفر القانون وسلطة الدولة. كل يوم يساعد ماركوس الجنود في مراسم رفع العلم وإنزاله. في جلده أيضاً انحفرت الجريمة، حيث مات الطفل الذي خطفه ماركوس بمعاونة زوجته، الضخمة الجثة بقدر ماركوس نفسه. وحين تعود آنا المراهقة، ابنة الكولونيل الذي يعمل ماركوس لديه سائقاً، وحين تذهب إلى "البوتيك"، بيت الدعارة التي تزاولها آنا للتسلية، تنحفر الرغبة أيضاً في جلد ماركوس، الذي لا يتورع المخرج المكسيكي رايغاداس عن استعراضه، كاشفاً بشرة سمراء وبثوراً كثيرة وقبحاً تزيده الكاميرا سطوعاً لأن ضوءها لا يكاد يسيل على هذه البشرة، بل يلتصق بها كغراء قديم مُصْفّر. بل إن رايغاداس لا يتورع عن لجم كاميراه لتسجل صاغرةً بزوغ سوائل الجسد: تقطّر العرق من طرف قميص ماركوس، البول قبل الجريمة الثانية، دموع آنا في نشوة صوفية لفرط تأثرها برعشة ماركوس جراء الجنس الفموي الذي يفتتح في لقطات بديعة الفيلم، ترافقها أصوات التنفس الهادئ والمنتظم.
يبدو لي أن رايغاداس هو أول مخرج يولي كل هذه العناية إلى الصوت في فيلمه. تارة يعزل صوت النَفَس، أو وقع خطوة محددة من بين آلاف يعبرون في مترو مكسيكو، وتارة يترك لزعيق المعلق الرياضي على التلفزيون المجال كله ليصمّنا بتفاهات الدعاوة الرسمية. قبل أصوات الزيّاح الديني، تعلو موسيقى تصويرية هاذية دافقة، لكن امرأة تترجل من سيارة أمام محطة بنزين تطالب بإسكاتها، متساءلة :"من أين تأتي هذه الموسيقى؟".
للمرة الأولى ربما (منذ جاك تاتي الذي كان يخلق طرفاً بديعة من خلال الأصوات الساطعة في برودة الهندسة المعدنية) يخترق أحد البديهة القائلة إن الأذن، بخلاف العين، لا تستطيع عزل تفصيل واحد بين عدة. التزاوج الذكي مع الآلة، ومع شريط الصوت في الفيلم، بات يسمح بإجراء لقطات مقربة "زوم" للأصوات، لا تكتفي بإشاعة مناخات مرغوبة ومحددة، كما هي حال الموسيقى التصويرية عادة، بل بتكوين فيلمٍ موازٍ، يتفاعل مع الصورة دون أن يكتفي بترجمتها، ويحض على التساؤل والتنبه لا على الفهم السهل والبسيط.
إثر جريمته الثانية، ينهار ماركوس ويرتمي على ركبتيه في زيّاح طويل يحج إلى كنيسة سيدة الغوادلوب، يقنّعه أحد ممتهني الحماسة الدينية صارخاً في أذنيه بمكبر الصوت: "لا أثداء بعد اليوم، لا أثداء بعد اليوم..."
بالطبع لن يمتلك ماركوس ثديي آنا بعد اليوم، لأن التناقضات، التي لم تكن سياسية فحسب، كانت ضخمة حد التفجّر: القبح/ الحسن، الكبر/ المراهقة، الهندي/ البيضاء، الفقير/ الثرية، اليائس/ اللعوب، المسحوق/ ابنة الجنرال...إلخ
لكن دمعة آنا التي تفتتح الفيلم وضحكتها التي تختمه تشيران إلى اللحظة الوحيدة التي سمح فيها تقارب بشرتين هائلتي الاختلاف بتجاوز كل الثنائيات السابقة، في سماء الرغبة.
يتمزق ماركوس بين سماوات ثلاث: الوطن، الجنس، والكنيسة. وإن كان الأول يعمل كأداة لتقسيم الزمن وصهره في قوالب ثابتة، وبلهاء، والثاني يعمل كأداة للخروج على كل تقسيم (مثلاً دورة الكاميرا 360 درجة، خارجة من نافذة غرفة آنا، لتعود إليهما في "موتهما الصغير")، فإن حضور الكنيسة يخترق بخاصة علاقة الشخصية الرئيسية بامرأته والجيران، وتتحول الكنيسة إلى الملاذ الأخير، الذي بالطبع يصادر كل احتمالات الخلاص، والذي حين نأوي إليه... نموت.
ربما لن يُعرض فيلم رايغاداس في لبنان، ذلك كي لا يُفسد استمتاع اللبنانيين بلهجتهم المكسيكية ولئلا يستفيقوا على أشياء أخرى تأتي، لا من بلاد العم سام، بل من بلاد العمتين: ماريا مرسيديس وسلمى حايك.
lundi 10 mars 2008
زياد الرحباني والأشباح
ملحق النهار، حزيران 2006
كشاش أشباح الأورينتال جاز وأرباع الصوت الدرويشية والرحبانية
في عدد صحيفة السفير، الصادر يوم الأربعاء 30 أيار، وفي حوار أجرته معه الزميلة العزيزة ضحى شمس، أتحفنا زياد عاصي الرحباني مجدداً بآرائه الكشكشية، نسبةً ربما إلى كشكش بيه (الشخصية التي لعبها طويلاً نجيب الريحاني)، أو ربما إلى لعبة الغميضة (cache-cache) التي يحلو له أن يلعبها أحياناُ مع محبيه من المستمعين، مستعيضاً عنهم بجمهور من القراء أحياناً.
الجديد في الحوار هو تطور أراء الرحباني الصغير في الموسيقى، حتى لتشابه آراء بعض الكتبة في الدستور اللبناني، وما أنزل الله به من سلطان من غير ذوي العيون الباصرة. فمن جملة ما قاله "أبو الزوز"، واستحال عنواناً للحوارـ النهر، أن ليس هنالك جاز شرقي ولا شيشاني، "وما نقدمه هو موسيقى كلاسيكية".
مثل كثيرين، كنا ننتظر أن يعود زياد الرحباني إلى رحابة الموسيقى، ومثل نسبة ربما تفوقهم كثرة كنا ننتظر أن ينسحب من مجال الوله الصحافي، "يا وله"، ضناً بوقته الثمين على أقل احتمال. فإذا بنا كالمستجير من الرمضاء بالنار، وكالهارب من "الدلفة إلى تحت المزراب"، ويا له من مزراب يؤكد الرحباني في أحد زواريبه أنه "نفّر" منه انفاراً اتهموا بالجاز الشرقي، بسبب اصراره على هذه العبارة. وفي زاروب آخر يعلن عن اكتشافاته النسائية بالقول إنه أقنعهن، وهن الراطنات بالافرنجية، بأن يغنين "بالعربية" إذ اقترح عليهن أن يغنين "مثل الرحابنة وفيروز"، معتبراً أن ما أدى إلى شهرة هؤلاء هو ما لحنوه دون ربع صوت، "وهنا يلتقون (أي الرحابنة وفيروز) مع سيد درويش" (يا للطامة الكبرى!).
كنا نود لو نخصص هذه المساحة لنقد "شريط" الرحباني مع لطيفة، والذي بات موضع سخرية لابتذال وتناقض ورجعية (معاً؟!) نجمة أغنياته "بنص الجو"، حتى من دومينيك حوراني! ولا يخفى أن الشريط متفاوت المستوى جداً، وأن ما فيه من "شغل جميل" كان مصاغاً على قياس فيروز لا على قياس لطيفة. لكن خطورة ما يورده الموسيقار زياد الرحباني، في هذا الحوار، يستدعي إعادة ترتيب الأولويات، لئلا يتخذه البعض مرجعاً في الموسيقى، كما سبق أن اتخذوه في العيش والسياسة!
إذاً، ثلاث نقاط: الجاز الشيشاني والشرقي، وتقديم الرحباني الصغير لموسيقى كلاسيكية، وشهرة الرحابنة وسيد درويش القائمة على تغييب أرباع الصوت الشرقية!
لا شك أن أبا الزوز عليم بأن تسمية عمله بالجاز الشرقي، أو بكوز الرمان، ما كانت لتؤثر على استقباله ولا على متعتنا به، ولا شك أنه في الحوار يقصد أبعد من مجرد الاعتذار من توفيق فروخ واعادة الاعتبار إليه جازياً عالمياً. يقول زياد أن الجاز جاز ونقطة. وأن له الحق في المرور بكل الحضارات لأنه بني على خلطة من كل الحضارات. هل يعني هذا أن الجاز، أو الجاز ونقطة، لو لم يكن بني على "خلطة" من كل الحضارات لما جاز له المرور بها؟ ألا يحق له أن يتخذ صفات مختلفة، كالجاز الأبيض والجاز الأسود، أو أن تكون له أصول متفاوتة التسمية كالبلوز والراغتايم، أو فروع ذات "نكهات" مختلفة سواء أتت تسمياتها مناطقية، كالجاز اللاتيني بأنواعه، أو أتت التسمية بحسب أنماطها وتطوراتها مع تنوع العازفين واختلاف التقنيات والإمكانات كالسوينغ والبي بوب والفيوجين والأسيد والأسيدسوينغ وغيرها؟
ألا تعني ملاحظة زياد الرحباني أنه اضطر إلى "كتابة" تقاسيم لبعض عازفيه، أيام "الجاز الشرقي"، أن ما كان يطلبه لم يكن متوافراً من قبل؟ فلو كان يريد فقط أن يعزف "جاز" أبو نقطة لكان في وسعه أن يعثر على كميات من العازفين الجيدين، ولو كان يريد فقط أن "يقسّم" العواد معه كما يقسّم وراء صباح أو عبد الحي حلمي، لوجد أرتالاً. لكن ما يريده لم يكن مسبوقاً، لأنه كان تماماً نتاج دمج روحية الجاز وبعض هياكله مع جملة موسيقية مختلفة ذات نفس وبنية "شرقية". أفلا يستأهل هذا الوليد عمادة؟
هل نعمّده "سمكة" بحسب الطرفة التي كان مارون عبود يرويها بظرف لا يوازى؟ أم نعمده موسيقى "كلاسيكية"؟ وهل المقصود بالكلاسيكية هنا مصطلح الموسيقى الكلاسيكية الغربية الموضوعة تاريخاً ما بين الباروك والرومنطيقية؟ أم المقصود هو إتباع منهج وليد غلمية في عبارة "الموسيقى الكلاسيكية الشرق عربية" والتي تعني حصراً تقريباً الموسيقى المصرية واللبنانية منذ انطلاقة ثومة وعبد الوهاب إلى وفاة كوكب الشرق؟ في كلا الحالتين لا أثر للكلاسيكية، الغربية أو الشرق عربية، في نتاج الرحباني الجازي، فلعله إذا يقصد الموسيقى التي باتت في العبارة الشعبية كلاسيكية لأنها تعتمد الأوركسترا السنفونية؟ حتى في هذا، نتاج الرحباني ضئيل، كما أن الأوركسترا السنفونية لا تتسع لباص عبود السعدي في تعريفها. أما اعتبار كل ما يدخل البيانو في نسيجه موسيقى كلاسيكية فهو يتجاهل أن البيانو نفسه الذي يعزف عليه صاحبنا لا يشبه البيانو الكلاسيكي! فضلاً عن أن الكثير من كلاسيكيات الموسيقى لا بيانو فيه، والكثير من لا ـ كلاسيكياته، أياً كانت التسمية التي يريد، تضم البيانو. بالطبع، الكلام عن الموسيقى التراثية أو الفلكلورية أو الكلاسيكية بمعنى القديمة لا يغنينا شيئاً في هذا المقام، فلا يظل إذاً سوى تعريف مشهور، ونرجو ألا يكون المقصود، للأعمال الكلاسيكية، أي تلك التي لا أحد يعرفها لكن الجميع يتحدث عنها!
أخيراً، مسألة الرحابنة وسيد درويش. الرحباني الصغير أدرى بالتأكيد بتراث عاصي ومنصور وفيروز، أما أن يدعي أن شهرتهم قامت على غياب ربع الصوت، فمثير جداً للعجب، إذا تذكرنا تاريخهم منذ "وقف يا أسمر" إلى الموشحات المستعادة إلى الزجليات اللبنانية المسرحية التي شهرتهم على أساس أنهم يدخلون التراث في الحداثة، ناهيك طبعاً بدور فيلمون وهبي المظلوم دائماً مع آل الرحباني! أما الحديث عن سيد درويش فيغدو تزييفاً خالصاً لتاريخ الرجل الذي، وإن كان ثمن مبالغة بعض الشيء في تبجليه، لم يقصر في أغانيه المشهورة في استعمال أرباع الصوت، وتواسيعه كما في استعمال العشاق في دويتو "على قد الليل"، أو استعمال الأرباع إلى جانب البيانو في "البحر بيضحك والله" (مقام بيات)، أو في أدواره مثل "ضيعت مستقبل حياتي" (مقام شوري)، أو في موشحاته وأشهرها يا "شادي الألحان" (مقام راست)، أو حتى في طقاطيقه مثل "طلعت يا محلا نورها" (مقام جهاركاه وليس عجم كما قد يحسب البعض)، أو "اقرأ يا شيخ قفاعة" (من مقام العجم الذي يداخله الراست) أو حتى في خاتمة "الحلوة دي" (مقام حجاز) فضلاً عن "خفيف الروح بيتعاجب" (مقام حسيني) أو "سالمة يا سلامة" (مقام محير) ورائعته الشهيرة "أهو ده اللي صار" (في نسختها الأصلية المتأرجحة ما بين مقام المحير أيضاً وقفلة الكرد).
إذا كان صاحبنا يقصد أن ما سار واشتهر حتى طبق الآفاق، للشيخ سيد ولآل الرحباني، هو ما كان عزفه على البيانو ميسوراً، فلا شك في أن طول عشرته لهذه الآلة يكون قد أثر بعض الشيء على أحكامه التأريخية. أما إذا كان معيار شهرة الأغنية عنده هو غرام من لا تلين أوتارهن الصوتية لاصدار المقامات الشرقية، فإنه يكون يفترض لسيد درويش والرحابنة جمهوراً من الشقر زرق العيون حليبيي البشرة، على ما يحلو للأدبيات الإيرانية الاطناب في الوصف، ولا شك أن داليدا كانت ستشكل مغنية سيد درويش الأثيرة، وأن أجمل ألحان الرحابنة ستكون، في هذه الحالة، "كانوا يا حبيبي"!
نرجو لزياد الرحباني، ملحن "أنا عندي حنين" و"حبيتك تا نسيت النوم"، أن يقيم ما طابت له الإقامة بين "الكشاكش" (وقد خطر لي الآن معنى جديد لها) وبين "المزدوجات" والخطوط الحمر. ففي ما سبق أن قدمه لنا من "أغانٍ طربية" (أي أغان مطربة وإن لم تكن تتبع الطرب كنمط من الغناء)، ومن بدع "الموسيقى الكلاسيكية" ومحدثاتها، قدر من المتعة يكفي ليغفر له ما سبق من ذنبه وما تلا. ولا شك في أن الجمهور الذي يفد غزيراً إلى حفلاته لن يشعر بالغبن من جراء نزاع المصطلحات هذا. لكن جمهوراً آتياً سيفتقر بشدة إلى الآلات "الوترية الأفقية" (القانون والعود) التي يبشر حديث الموسيقار الرحباني باندثارها، بما انها تنهي احتمالات الشهرة للفنانين، وذلك لمصلحة وتريات "عمودية" (البيانو، مثلاً، إذا ما ظلت فيه أوتار
أحكام الدين أم قواعد القانون؟
نشر في موقع الأوان
هل يمكن للأحكام الدينية الإسلامية أن تستحيل قاعدة قانونية؟
شهدت المدونتان المصريتان لعمرو عزت ومحمد الهامي نقاشين من أرقى ما يمكن للانترنت أن يتيحه (رغم بعض المتطفلين البذيئين الذين يتعبون بسرعة)، وكان المذكوران بطليْهما الأبرز، إلى جانب بعض الآخرين. تناول موضوع النقاش الأصلي حكم المحكمة الإدارية العليا المصرية برفض تسجيل كلمة "مسيحي" في خانة المذهب في الأوراق الرسمية لمن عاد إلى المسيحية، اثر اعتناقه للإسلام. وجاء في حكم المحكمة الصادر أواخر شهر أبريل الماضي، أن أصول الدين الإسلامي تمنع الردة عنه، لذا، وعلى الرغم من ضمان الدستور والمواثيق الدولية لحرية المعتقد، فإن هذه الحرية لا تشمل التلاعب والتنقل بين الأديان، لأن في ذلك خروجاً على النظام العام وجماعة المسلمين. لذا، فإن على المسيحي، باعتراف المحكمة نفسها، أن يرتضي بقاءه بالتالي مسلماً، على الورق...
سخر عمرو عزت في مدونته "ما بدا لي" من هذا "الحكم" سخرية بديعة ومريرة. لكن النقاش تحول في سرعة من المجال القانوني الذي ركز عليه عمرو إلى "حكم الردة في الإسلام". والحق أن هذا التحول كان مضمراً في حكم المحكمة نفسه الذي ابتكر قاعدة جديدة، في القانون وفي الفقه، حيث حكم بعقوبة لا أساس قانوني لها، بإيقاع حكم "البقاء على خانة المسلمين" محل "حكم الردة". لذا انتقل النقد من السخرية القانونية إلى التساؤل عن حقيقة حكم الردة في الإسلام وما كان ينبغي للمحكمة أن تحكم به لو أنها تطبق شرع الله، بما أنها زعمت هنا أنها تطبق أحكام أصول الإسلام.
ما نود الالتفات إليه ينقسم إلى نقطتين. الأولى تتعلق بما تكشفه هذه النقاشات حول إمكانية الحوار في شأن القواعد الدينية الإسلامية. والنقطة الثانية هي التساؤل حول شروط استقبال مثل هذه القواعد في المنظومة القانونية للدولة الديمقراطية المرجوة، ذلك أن الإسلاميين، دون شك، سيشكلون ثقلاً كبيراً داخلها، ولما كان القانون انعكاساً للأوزان الاجتماعية فإنهم سيسعون تالياً إلى تضمينه ما يعتبرونه أحكاماً إسلامية. للتبسيط، نتساءل الآن هل يمكن الحوار في موضوع من قبيل "حكم الردة في الإسلام"؟ وهل يمكن في مرحلة لاحقة إدخال مثل هذا الحكم كقاعدة مقننة في دولة "ديمقراطية"، وليس في دول كالسعودية أو إيران، يتمتع فيها الإسلاميون بثقل كبير، إن لم نقل بالأغلبية؟
حوار الصمّ حول الأحكام الإسلامية
يكشف النقاشان السالفا الذكر وجود نماذج للشخصيات التي تدخل في مثل هذا الحوار:
ـ غير المؤمنين الذين لا يرون في الدين أية فائدة أصلاً.
ـ غير المؤمنين، لكن الذين يشددون على الاستفادة من القيم الإنسانية في الدين.
ـ المؤمنون الذين يقدمون العقل والأخلاق قاضياً على فهم الدين نفسه.
ـ المؤمنون الذين يقدمون النص على العقل، ثقة بالحكمة الإلهية المتجاوزة لأفهام البشر. لكن فهم النص لديهم يتم بواسطة مرجع مختص فقيه، قديم أو حي، أو بما يتحصل لديهم من أغلبية بين هؤلاء المراجع.
ـ المؤمنون الذين يقدمون النص على العقل، ولكن بحسب فهمهم الخاص لهذا النص. هذا الفهم على نوعين: فهم النص بحسب حرفية لفظه، أو فهمه وفقاً لبيئته وتاريخه ومقاصده.
في حوار بين أطراف بالغي التعدد كما هي الحال هنا، يصبح من غير المجدي الحوار على أرضية النص نفسه، لوجود شريحة لا تؤمن به أصلاً، ولتناقض النصوص وكثرتها ثانياً، وللخلاف على طريقة فهم النص ثالثاً.
أما الحوار من خارج أرضية النص، أي على أرضية الأخلاق والعقل، فغير مجدٍ أيضاً، بما أن ثمة مؤمنين يعتقدون بتجاوز الحكمة الإلهية لأفهامنا البشرية، وتالياً أن تحييد النص يكون تنطحاً إلى مقارعة العليّ العظيم بأفهام قاصرة. هؤلاء يرفضون الاستغناء عن النص، مهما بدا صادماً للأفكار المعاصرة. أليس هذا، آخر الأمر، ما تسبب في غضبة المفتين بالتبرك ببول الرسول أو برضاعة الكبير؟ بالنسبة لهؤلاء يكفي ثبوت النص، بحسب القواعد المقررة لثبوته قبل ثلاثة عشر قرناً، ليصبح واجباً وحكمة الهية لا تقبل المس بها، فضلاً عن أن أي مس بصحة أي خبر "ثابت" تصبح مساً بأول أسس الدين، أي تواتره، كما ظهر في الغضبة الشهيرة ضد طه حسين حين شكك ببعض الشعر الجاهلي (راجع مقالة أحمد بيضون عنه في كتابه "كلمن")، أو كما أبان وضاح شرارة في معرض تعليقه على أخبار مجنون ليلي في كتابه "أخبار الخبر".
إن لم يكن من الممكن الاتفاق إذن على أرضية أو مسطح للحوار، فكيف يمكن الركون إلى منهاج أو منطق يكون قاضياً عليه ويحكم من فاز به؟
في الأغلب، يتحول الحوار إلى محاولة لكسب المستمعين والمشاهدين، وليس المحاورين أنفسهم لا عناداً منهم أو تكبراً بل لغياب المرجعية الموحدة بينهم.
في الأغلب أيضاً، ستنتهي الأمور إلى محاولة من المؤمنين المنفتحين أو "التلفيقيين" من أجل تأصيل قيم حديثة في الدين، سواء بالتنقيب عن النصوص المتفردة، أو تقديم منهاج جديد لفهمها يسمح بتأويلها بحسب البيئة والتاريخ والاجتماع. على أرضية النصوص، يفوز دوماً الطرف الأكثر تشدداً وتطرفاً، ذلك أن وراءه حصيلة خمسة عشر قرناً منها. وهذا ما يحشر البعض الآخر في زاوية "عدم الالتزام بأحكام الدين" في حين أنهم يدّعون التزامهم التام بها.
هل يعني هذا أن الحوار مع الإسلاميين وبينهم سينتهي دائماً إلى انتشار الفكرة الأكثر تطرفاً؟ ربما. فلطالما كان النقاش بين الماركسيين ينتهي أيضاً لصالح من يجد الجملة الأبلغ لماركس والتي تقطع دابر كل جدال!
لكن أرض الواقع كانت دوماً تثبت، في الوقت عينه، أن الطرف الأقوى في الجدال هو الأقل وزناً في السياسة. ذلك أن مرجعية الجدالات كانت دوماً نصوصاً ثابتة في حين أن المجتمعات تسعى دوماً إلى التكيف مع ظروف جديدة لا يجدي فيها التمسك بأصالة الفكرة وأصلها شيئاً.
رغم هذا الأمل البسيط في أن تظل المجتمعات ترفض أن تجمد في قالب فكرة حجرية، يظل هنالك تساؤل خطير العواقب. هل يمكن للإسلاميين، في حال حلول الديمقراطية بين ظهرانينا كما حصل مع الفلسطينيين، أن يفرضوا قانوناً إسلامياً، بحجة الأكثرية؟ وهل يتوافق مثل هذا القانون مع أسس الديمقراطية نفسها، أي الفرد والقانون. من هنا ينبع سؤالنا عن صفات الأحكام الدينية بالمقارنة مع القاعدة القانونية.
القاعدة القانونية والأحكام الدينية الإسلامية
تحفل كتب المقدمات في علم القانون بالمقارنة بين القاعدة القانونية والقاعدة الدينية أو الأخلاقية، إلا أن هذه المقارنة تنطلق في الأغلب من موازاة بين الدين والمسيحية والأخلاق. فيمكن للبروفيسور هنري مازو القول بأن الفارق بين القاعدة القانونية والقاعدة الأخلاقية أن الأولى تتميز بعامل الإلزام الخارجي، أي بالاستناد إلى قوة خارجية هي قوة الدولة وليس فقط عقوبة أخلاقية داخلية وفردية، كما أن القاعدة الأخلاقية تتميز بالتسامي العالي عن واقع المجتمع وبغياب التحديد الكافي لتفاصيلها الأمر الذي ينعكس سلباً على "الأمن القانوني"، أي معرفة معنى القانون والثقة بالنتيجة الواضحة المرتقبة من تطبيقه. ويبدو جلياً هنا أن الدين الإسلامي، نظراً لكونه تشكل عبر التاريخ ديناً ودولة ليس متسامياً كثيراً عن حاجات المجتمع، بل هو يزعم، أو يزعم أهله، أن الفارق بينه وبين المسيحية هو غياب الحس الواقعي لدى هذه الأخيرة، في أمرها بالمحبة والمسامحة وبذل الذات، وتغييبها لعناصر المجتمع من أنانية ومطالبة بالحق والامتلاك والاستئثار. لذا يصير السؤال هل يكفي منح القاعدة الدينية الإسلامية قوة الإلزام الخارجي المستمدة من الدولة لتصير قاعدة قانونية "مقبولة في المنطق القانوني"؟
إذا اكتفينا بتحديد البروفيسور مازو، لربما كان الجواب بالإيجاب، ذلك أن الدين الإسلامي، خارج قسم العبادات ومعرفة الذات الإلهية، يتضمن جوانب المعاملات والعقود والإرث والحدود (أي القانون الجزائي)، وذلك بتفصيل تفنن فيه فقهاء العصور الغابرة. فهل يمكن لنا استقدام هذه القواعد، وصبها في إطار قانوني، استكمالاً لما بدأت به مجلة الأحكام العثمانية مثلاً، فتصير قواعد قانونية ملزمة، وذلك بغض النظر عن مضمونها؟
لم ينمُ إلى علمنا دراسة تتناول هذا الموضوع، سوى دراسة الدكتور سمير عالية "علم القانون والفقه الإسلامي" التي أفدنا كثيراً من جزء منها منشور على الإنترنت، وله أيضاً كتاب بعنوان "المدخل لدراسة القانون والشريعة".
يحدد الحقوقيون أجمالا سمات القاعدة القانونية بالعموم، أي شمولها الكل، والتجريد، أي عدم ارتباطها بحالة مفردة، والإلزام والعقاب عليها، إضافة إلى كونها قاعدة مفروضة على إرادة الفرد من خارجها بموجب القانون الذي تضبط به الجماعة شؤونها من أجل الصالح العام. وهذه السمات كلها ممكنة التوافر في حالة القاعدة الدينية، من نوع "من ارتد عن الإسلام يعاقب بالقتل"، إذا ما استند تطبيقها إلى قوة الدولة التي تقوننها.
يظل أن هنالك سمتين رئيسيتين، تتفاوت الإشارة إليهما شهرة، وأعني أولاً الاستمرارية، أي بقاء القاعدة القانونية ملزمة حتى إلغائها أو استبدالها أو سقوطها، وثانياً كون القاعدة القانونية لبنة في نظام هرمي تراتبي مترابط، صادر عن الدولة، ومتعلق بدستورها. ويترتب على هذين الملمحين نتائج مهمة بالمقارنة مع القاعدة الدينية الإسلامية.
فالقاعدة الدينية الإسلامية، إذا أسقطنا منها الحساب الأخروي على السرائر وعلاقة الإنسان بربه، تظل ذات أصل إلهي سماوي، وهذا يعني بحسب د. عالية أن قواعد الشرع تميزت "عن غيرها من القواعد الاجتماعية، ومنها قواعد القانون، بموافقتها للعدل والحق والصواب، وبعصمتها من الخطأ والنقص والجور والهوى الشخصي"، كما أن الشرع الإسلامي كما يتضح للدكتور عالية "يحقق في أحكامه العدالة المطلقة، في حين أن القانون الوضعي يكتفي بمجرد تحقيق العدل النسبي".
أي أن القاعدة الإسلامية الدينية، لما كانت معصومة من أي خطأ أو نقص، لا تقبل التعديل، فكيف بالإلغاء أو الاستبدال أو السقوط. ولما كانت القاعدة كاملة، فهي كاملة في ذاتها، تعدل أهميتها أية قاعدة أخرى، ولا ترتبط بغيرها، استثناء أو خضوعاً لمبادئ أعلى واردة في الدستور أو في المعاهدات الدولية.
يعني هذا أن منطق القاعدة الدينية الإسلامية يؤكد عناصر ثلاثة:
ـ خلودها في صورة واحدة ثابتة إلى يوم الدين، ولا يعتدّ في رأي الأكثرية الفقهية بالقول بتغير الأحكام بتغير الأزمان.
ـ فرديتها، فهي مستغنية عن الأخريات وينبغي تطبيقها في ذاتها وهو ما يجعل قضية فرض الحجاب على المذيعات تعادل في الأهمية وقف سفك دماء المؤمنين إن لم تكن تفوقها (انظر نشاط مجموعة "سيوف الحق" الغزاوية!).
ـ وأخيراً تفلتها من التزامات الدولة تجاه جماعة الأمم والمعاهدات التي لا تستطيع تالياً أن تسمو على القاعدة الدينية.
هذه العناصر الثلاثة تعاكس كلياً المنطق القانوني. إذ لما كان القانون تعبيراً عن المعارك الاجتماعية وحاجات المجتمع المتغيرة، كان من الواجب تعديله وتغييره توافقاً مع المتغيرات أو استباقاً لها أو تلبية للحاجات الجديدة. و"تخليد" القاعدة بحجة صدورها عن أصل سماوي يمنع القانون من لعب دوره الحقيقي.
كما أنه لمّا كان القانون صادراً عن الدولة جاز للدولة القيام بواجبات التعديل والتغيير والإلغاء وفقاً لسياستها ولجديد توجهات ساستها، فالسياسة لا تقتصر على النزاهة في صرف المال العام على ما يحسب الإسلاميون، وهم معذورون إذ لا سياسة فعلية في بلداننا! ولا ينبغي في حال قيام الدولة بتعديل القانون الرد على ذلك بثبوت النص على القاعدة ثبوته في موضوع إرضاع الكبير أو بول الرسول، فليس النص هو القاضي على صلاحية القاعدة بل رأي الجماعة في سبل تحقيق مصلحتها. وهذا أول شرط لقبول القاعدة الدينية الإسلامية في المنطق القانوني، أي قبول الإسلاميين بإمكانية التراجع عنها إذا ما شاءت الجماعة ذلك، وإلا وقعنا في ديمقراطية المرة الواحدة والقواعد الخالدة على غرار ما نعرفه من رسائل (ومن أنظمة) تخال نفسها سرمدية.
من جانب آخر، يعني ترابط القواعد القانونية تشكيل القانون لنظام متكامل وتراتبي، يسلط المبادئ الدستورية والمعاهدات الدولية على القواعد الداخلية، ويحدد المبادئ كما يحدد الاستثناءات عليها. فالقواعد القانونية ليست سواسية كأسنان المشط، بل فيها ما يستوجب التقديم والتأخير والتمهل في التطبيق أو حتى تأجيله أحياناً، ومنح سلطة التطبيق لمؤسسات متفاوتة كالقضاء العدلي والإداري والمؤسسات الرقابية المختلفة. فلا تجتمع سلطة التطبيق في يد واحدة. يعني هذا شرطاً ثانياً لقبول القاعدة الدينية في النظام القانوني، ألا وهو خضوع القاعدة الداخلية للمبادئ المتفق عليها في الدستور، وكذلك لالتزامات الدولة على الصعيد الدولي، وهي في أغلب الدساتير تعلو القانون الداخلي. في هذه الحال، يصبح تطبيق الشرعات والمواثيق الدولية مانعاً لأغلب الحدود، بما أنه يمنع القصاص البدني، فضلاً عن أنه يكفل حرية الرأي والمعتقد.
وليس فقط الخضوع لهذه المبادئ المكتوبة، بل أيضاً لمبادئ متفق عليها لكونها تشكل أساس المنطق، أي عدم التناقض، والوضوح في التحديد، والحكم على ظواهر الأمور بالأدلة الثابتة. فلا يمكن تالياً الجمع بين "لا إكراه في الدين" و"من بدل دينه فاقتلوه"، ولا الحكم على النوايا والمضمر. كما لا يمكن، أخيراً، توقيع عقوبة على جرم غير محدد، أو محدد بصورة تمنع تعريفه بدقة. إلا أن المبرّزين في هذا المجال الأخير ليسوا الإسلاميين، بل الأنظمة العربية الحالية، التي لا تتورع عن الحكم على المعارضين بتهم "إضعاف الشعور القومي"! أو "تغيير كيان الدولة الاقتصادي والاجتماعي"! (انظر آخر إبداعات المحاكم الاستثنائية في سوريا، ولا شك أننا لو نظرنا إلى سواها لرأينا أننا كلنا "في الهم شرق").
نخلص إلى القول تالياً أن صدور القانون بصورة شكلية سليمة لا يعني سلامته لناحية المنطق القانوني، كما أشرنا في الحالة السورية. والتعديل الدستوري المصري الذي فرض فيه السادات اعتبار الشريعة مصدراً للتشريع مثال آخر لأنه سليم شكلاً، لكن نتائجه كارثية على صعيد المنطق القانوني، لأنه يضع تشريعين متنافسين، بدل الاكتفاء بالإعلان عن حق الدولة في أن تستمد من الشريعة الأحكام التي تناسبها.
ونخلص إلى القول من ثم إن من الطبيعي أن تستمد المجتمعات أحكامها من إرثها وما ألفته زمناً طويلاً أو مما تعتنقه، لكن إدخال هذا الإرث المألوف، أو المستعاد أو حتى المتخيل، إلى إطار القانون يستوجب إخضاعه لمعالجة جذرية تجعله يقبل بشروط هذا الإطار الجديد ومنطقه. يتطلب هذا من القائلين بأن العودة إلى الإسلام هي الحل أن يتقدموا، ليس فقط بمشاريع قوانين واضحة ومحددة ومقنعة تشير إلى تفاصيل هذا الحل المقترح، لا إلى مصدره السماوي، وأن تسفر عن نشاطهم هذا مراجعة تقودهم إلى القبول بإمكانية التراجع عما يقترحون، حتى بعد إقراره، إذا ما ارتأى المجتمع ذلك، والانتباه أخيراً إلى أن الدولة هي مصدر التشريع، وهي ليست دولة منعزلة على كوكب آخر، بل هي ذات التزامات دولية ينبغي احترامها والتوفيق بينها وبين المشاريع المقترحة على قاعدة مبادئ المنطق العقلي الثابتة، لا الحكمة الإلهية التي لا تُطال ولا تنال، ولا نملك شيئاً حيال مكرها.
أخذ المكان على محمل الجد
القانون والمكان والمجتمع في إسرائيل المعاصرة
أخذ المكان على محمل الجد
لأسباب كثيرة يفترض بنا دراسة الفكر القانوني وعلاقته بالتنظيم الاجتماعي في اسرائيل، خاصة ونحن على مشارف مفاوضات جديدة قد تفضي، إذا ما أفضت، إلى تقاسم سيادي في بعض المناطق أو تبادل لأخرى، الأمر الذي يطرح قضايا عويصة على الصعيد القانوني والتنظيمي والإداري. إلا أن هذا السؤال ضروري ايضاً وملح، حين نعلم أن لطلب اسرائيل ان يصير الفلسطينيون فنلنديين ديمقراطيين قبل الالتفات إلى التفاوض معهم سوابق في تعاملها مع البدو العرب، ومع اليهود العرب من اهلها. وهذه القيود ستنسحب ايضاً على أي محاولة لاحقة للتفكير في وضع "عرب إسرائيل" في نظر سائر العرب ودولهم التي تبدو مجتمعاتها وكأنها تطالب وتغذ السير للوصول إلى وضع الغيتوات التي فر منها يهود أوروبا ليفرضوها على مجموعات بعينها في داخل دولتهم العتيدة. من بين الأسئلة التي قد يطرحها المرء هذه التالية: لماذا يستمر الفشل الدراسي عالي النسبة في أوساط اليهود من أصول عربية، ولماذا يستمر الفصل في المدارس بينهم وبين اليهود من أصول أوروبية، رغم جهود الحكومة الإسرائيلية؟ ماذا تعني تجمعات بدو النقب وتجاور بؤسهم مع ترف المستوطنات اليهودية القريبة؟ ولماذا تنقسم المحكمة العليا الإسرائيلية حول مطالب اليهود المتطرفين في القدس بإغلاق طريق سريع يمر بين ظهرانيهم احتراماً للسبت؟ وما الجامع بين هذه الأسئلة وبين الايديولوجية الصهيونية المؤسسة لدولة إٍسرائيل؟
يطرح إساشار روزن ـ زفي هذه التساؤلات في كتابه " أخذ المكان على محمل الجد: القانون والمكان والمجتمع في إسرائيل المعاصرة" (دار اش غايت، 2004، بالانكليزية، تجدر الإشارة إلى أننا سنترجم Space بـ "مكان" باستثناء الإشارة إلى "الفضاء السياسي"). ويقول روزن ـ زفي بأن الإجابة عليها تتطلب "صرف الأهمية من المعطى المكاني إلى التنظيم والمعنى المكانيين" بحسب ما ينقل عن ادوارد سوجا، أي العناية بالطريقة التي بها يُبنى المكان ويُتخيل ويُقوّى ويُعارض. فكما يقول ريتشارد فورد فإن "المكان، كما نختبره هو، بطرق عدة، ليس الإطار الثابت، بل النتيجة للتفاعلات الاجتماعية، والمفاهيم الايديولوجية، وبالطبع للعقيدة القانونية وللسياسة العمومية".
يحاول المؤلف إذن لرد على التساؤلات المطروحة بدراسة العلاقة ما بين القانون والمكان في إسرائيل، متابعاً الفصل الذي يجريه فورد حول النظرة القانونية إلى المكان، المتأرجحة بين فهمين خاطئين له: "المكان الشفاف" و"المكان غير الشفاف".
المكان الشفاف: اليهود العرب
بحسب الأرقام التي يوردها المؤلف فإن 16.7% من اليهود ذوي الأصول العربية يتابعون دراسة جامعية مقابل 51% من اليهود ذوي الأصول الأوروبية، و42% يتركون الدراسة قبل نهاية المرحلة لاثانوية مقابل 22% فقط من الأشكيناز. كما يورد أيضاً أن معظم المزراحيم (اليهود ذوي الأصول العربية) يتلقون تعليمهم في مدارس مهيئة "لذوي الاحتياجات الخاصة"، أي أن التعليم فيها يتم على اساس مقررات أبسط وأفقر، مما يؤدي عملياً إلى فصل واضح ما بين المزراحيم (أو السفارديم) والأشكيناز. وبالرغم من أن ردم الهوة ما بين أبناء إسرائيل ـ بحسب رئيس لجنة التربية في الكنيست ـ هدف وطني شديد الأهمية، ورغم أن سياسة الدمج هي السياسة الرسمية المعلنة، إلا أن الفشل المتواصل رغم كل الجهود، قد دفع بالجميع إلى اليأس عملياً، كما يقول روزن ـ زفي.
أسباب الفشل متعددة بالطبع، لكن أهمها، بحسب المؤلف، هو القانون الذي ينظم الدوائر التعليمية ويربطها واقعاً بالسلطات المحلية، وكذلك دور المحكمة العليا الحريصة على تطبيق القانون دون اعتبار للواقع المكاني الذي سيطبق فيه أو عليه.
فالدوائر التعليمية في إسرائيل مرتبطة، إلا استثناءات قليلة، بقاعدة قانونية تقول بإرسال الطالب إلى مدرسة لا تبعد عن منزله أكثر من كيلومترين، وترتفع المسافة المسموح بها إلى ثلاث كيلومترات لطلاب الثانويات.
وإذا ما بدت المحكمة العليا الإسرائيلية طرفاً مناضلاً من أجل إزالة الفصل الدراسي بين المزراحيم والاشكيناز، لا سيما من خلال رفضها طلبات الأشكيناز بالسماح لهم بالدراسة في مدرسة مختلفة عن تلك، المدمجة، التي عينتها لهم الدائرة التعليمية التي يقطنون في إطارها، فذلك، في الواقع، لأن طلباتهم كانت تعارض قاعدة الكيلومترين هذه. فالدور الحقيقي للمحكمة العليا يتبدى في رفضها طلبات أبناء المزراحيم بالانتقال إلى مدرسة جيدة المستوى، مدمجة أو غير مخصصة لذوي الحاجة إلى معاملة خاصة، بالدرجة نفسها. أي رفض أي خرق لقاعدة الكيلومترين.
فالمحكمة تتعامل مع تقسيمات الدوائر التعليمية مكانياً كتعاملها مع تقسيمات إداري بحتة تجري، لأسباب متعلقة بالفعالية ليس إلا، على أرض غير ذات صفة. تقسيمات تحدث في مكان شفاف ومتناسق في كل نقطة منه، مما يجعل الأمكنة المقسمة متساوية تماماً، بالضرورة، ويفقدها أي مبرر لإعادة النظر فيها.
إلا أن الواقع مختلف، فمنذ الهجرة الكثيفة لليهود العرب في الخمسينيات من القرن الماضي، توافقت هذه الهجرة مع حاجة إسرائيل إلى تملك المكان من خلال التواجد السكاني في الشمال (الجليل) والجنوب (النقب)، وحول المدن الاسرائيلية وفي البيوت العربية التي هجّر سكانها. أي أن ثمة فصلاً تاريخياً في الإقامة ما بين المزراحيم، سكان ما سمي بالمدن الجديدة في الشمال والجنوب والضواحي، وبين الاشكيناز، سكان المدن في الأساس ومن ثم سكان الضواحي الجديدة.
وبالتالي، فإن المفاعيل الحقيقة لقرارات المحكمة العليا الإسرائيلية جاءت بعكس سياستها المعلنة، وكانت سيفاً ذا حدين، أدى إلى اغلاق الدوائر التعليمية وفصلها عن بعضها، وأغفلت المحكمة رؤية الرابطة ما بين الفصل في الإقامة والفصل في المدارس. أي أن نظرة المحكمة إلى التقسيمات، في وصفها محض إدارية، تعمل في مكان شفاف، كانت في الواقع تعيد إنتاج الفصل المشكو منه وتعمقه. إلا أن هذه النظرة ليست بديهية، أو متلازمة بالضرورة مع فكرة القانون.
المكان غير الشفاف: البدو العرب
في قضية ساعدة، المتعلقة بقرار وزير الداخلية الإسرائيلية بضم قرية بدوية إلى دائرة قرية أخرى، يقرأ روزن ـ زفي انتقال المحكمة العليا الإسرائيلية من رؤية إلى المكان في وصفه شفافا (وهو ما يستتبع حق وزير الداخلية في تغيير التقسيمات الإدارية حقاً مطلقاً، كما لو أن لا معنى سياسياً واجتماعياً لهذه التقسيمات) إلى المكان في وصفه غير شفاف. فالمحكمة تشرح وتبرر قرارها بذرائع أن القريتين بدويتان، تتشاركان في الخلفية الاجتماعية والثقافية والديموغرافية، مما يسمح في المستقبل بدمج القريتين في واحدة. أي أن المحكمة تبرر قرارها من خلال العودة إلى ما هو دون السياسة والقانون، أو قبلهما، أي ما هو خارج في جميع الأحوال عن نطاق سلطتهما.
يعود المؤلف إلى تاريخ السياسة الإسرائيلية تجاه البدو العرب في النقب. ضمن ألعاب بهلوانية قانونية ما بين القانون العثماني (الذي يعتبر الأرض الموات ملكاً للسلطنة، إلا أنها لمن يحييها) والقانون البريطاني (الذي فرض تسجيل الأراضي في فترة محددة)، استملكت إسرائيل معظم أراضي البدو العرب ونقلتهم منها إلى شرق بئر سبع، داخل منطقة مغلقة عليهم، عادت فاستملكت نصفها. وفرضت عليهم السكن والبناء في بلدات محصورة الأراضي. والحال اليوم، فإن البدو العرب يشكلون 25% من سكان النقب، في حين تبسط سلطاتهم المحلية سيطرتها الإدارية على1.5% فقط من أرض النقب.
تم تفضيل مشروع البلدات هذه على مشروعي القرى الزراعية أو المدينة الكبيرة، لئلا يتمكن البدو من الانفصال عن دورة الاقتصاد الإسرائيلي. وليست سياسة إعادة إسكان البدو سياسة خيرية، تهدف إلى تحسين أوضاعهم، بل هي في الواقع وسيلة لإنشاء طبقة عاملة رخيصة، وهي أيضاً وسيلة، بحسب روزن ـ زفي، لتكوين الذات الإسرائيلية من خلال وضع الذات الأخرى، البدوية الفقيرة المتخلفة، مستقلة بإزائها. فالتقسيمات الإدارية وسيلة لتغطية الفصل العنصري الواضح، ولقسمة البشر مجموعات مغلقة. فالدائرة الإدارية هي، بحسب فورد، وسيلة لفهم العالم الاجتماعي وموقع المرء منه. والتقسيم الإداري يهدف إلى اظهار التعامل غير العادل مع فئة اجتماعية على انه ليس عداءً شخصياً يستهدفها، بما انها تعامل على قدم المساواة مع غيرها، متجاهلاً اختلاف الإمكانات وتفاوتها بين الدوائر. ونجاح هذه السياسة الأقصى يتجلى أساساً في مطالبة كل من الفريقين بالإستقلالية في دائرة خاصة به.
عملياً، نجحت إسرائيل عبر قانون البناء في نقل الصراع من صراع حول الأرض إلى صراع حول شرعية لابناء، ومن نزاع جماعي إلى جماعة من النزاعات الفردية. فالمحكمة تنظر إلى القضية دائماً في اللحظة الراهنة، لا في سياقها التاريخي، ومن نقطة القبول بشرعي القانون نفسه.
كما نجحت الدولة الإسرائيلية في تذرير العشائر البدوية غبر رفع عددها باعتبار كل عائلة موسعة عشيرةً، ما زاد خصوماتها، وعبر فرض إعلان كل فرد عن انتمائه إلى احداها.
كما أن المحكمة أفلحت في تجاهل القانون نفسه عبر التركيز على تفاصيل المهن وأذونات البناء... الخ، وكثيراً ما كانت المحكمة العليا ترى التقدم والحداثة في هذا التمدين القسري وتعاقب البدو على رفضه. صحيح أنها كانت، في حالات نادرة، تعاقب الدولة الإسرائيلية على عدم وفائها بالحد الأدنى من وعودها به، إلا أن ذلك، في الواقع، يهدف إلى اضفاء الشرعية على القوانين والقرارات الأخرى. فعلى ما يقول رونن شامير، فإن مصدر شرعية السلطة، في دولة بيروقراطية حديثة إنما هو وجود نظام قانوني شكلاني يبرر ويعقلن علاقات السيطرة ويخلق ارتضاءً إرادياً بها لدى المحكوم. والمحكمة بإداناتها، القليلة، للحكومة تشرعن قوانين الدولة، وقبلها قراراتها الخاصة التي غالباً ما أتت ترفض طلبات البدو وتدينهم.
تتجلى في هذا الإطار نظرة المحكمة العليا، والقانون في شكل عام، إلى الفضاء السياسي للبدو، (أي المكان بالإضافة إلى السلطة المحلية عليه) في وصفه تعبيراً، لا عن دائرة إدارية موّلدة أو توافقية تنشأ لأسباب منفعية فقط، بل تعبيراً عن دائرة عضوية أصلية، لا تنشئها الدولة بل تكتفي بالاعتراف بها. وتملك هذه الدائرة، بحسب هذه النظرة، القدرة والحق في الدفاع عن نفسها باسم الاستقلالية وحق تقرير المصير والحق في الاختلاف وفي حماية الثقافة الخاصة.
يتبدى عبر ذلك أيضاً خطأ شائع ومنتشر، لا سيما في أوساط اليسار التقدمي، هو المبالغة في إعلاء شأن الاختلاف. فيلاحظ المؤلف أن النظام العشائري البدوي الحالي هو نتيجة لضغط السلطات الإسرائيلية المتواصل عليه، وليس معطى طبيعياً ناجماً عن تطور الثقافة البدوية من تلقاء نفسها. وهو ينقل عن فرانز فانون قوله بأن الاستعمار يغلق تفتّح الثقافة التي كانت حية ومعاشة قبله، ويجمدها في قالب أنظمته بحجة احترام التقليد. وهذه هي المفارقة نفسها التي وقعت فيها المحكمة الإسرائيلية العليا حين كانت ترفض السماح لليهود بشراء الأراضي داخل منطقة البدو المغلقة بحجة المحافظة على ثقافتهم، في الوثت عينه الذي كانت فيه تبرر اجراءات وقوانين الدولة حيالهم بالرغبة في تمدينهم ونفلهم إلى الحداثة، معتبرة هذه الإجراءات مؤقتة إلى حيت اكتمال عملية تحديث البدو.
على ما يلاحظ فورد، إن سياسة إعلان شأن الاختلاف هي استغلال لسمات الاختلاف من أجل "صناعة" الآخر، إذ أن الواقع هو بالطبع شديد الاختلاف عن الصورة المرسومة له.
المكان الملتبس: اليهود المتطرفون
اليهود المتطرفون المتجمعون في القدس وضواحيها، وفي بعض المدن الإسرائيلية الكبرى هم، على ما يلاحظ روزن ـ زفي، منقسمون في ما بينهم في محاولاتهم لإنشاء مجتمع خاص بهم، وحول مسائل الاستفادة من الدولة الإسرائيلية التي يرفضونها، من حيث المبدأ، وحول ضرورة الانقطاع عن الفضاء السياسي والاجتماعي الإسرائيلية. إلا أنهم جماعة في مواجهة غيرهم، وهم غالباً ما يتوسلون العنف سبيلاً لفرض حدود مجتمعهم الخاص، ومن وسائل ذلك إغلاق الطرقات التي تخترق مناطقهم في يوم السبات.
حول قضية اغلاق الطريق يوم السبت، دارت قضية بار إيلان، وهو أوتوستراد عام حيوي طالبوا باقفاله. وقد انقسمت المحكمة العليا الإسرائيلية حول هذه القضية، فكان صوت واحد هو المرجح من أصل سبعة أعضاء. رأي الغالبية، بإيجاز شديد، يقول بأن الاعتبارات الدينية يؤخذ بها كأضرار قانونية وأن على اسرائيل الديمقراطية أن تحمي روح ومشاعر مواطنيها كما تحمي ممتلكاتهم، وأن اسرائيل اليهودية معنية متى تعلق الامر بيوم السبت، كما ان على الدولة أن تضمن حق المواطنين بالتنقل. لذا ينبغي الموازنة بين الحقين: حق التنقل، وحق احترام المشاعر الدينية، وذلك على ثلاث فئات: المتطرفين، والسائقين العابرين، والساكنين بين ظهراني المتطرفين دون ان ينتموا إليهم.
في الموازمة ما بين المتطرفين القاطنين وبين السائقين العابرين، ينبغي مراعاة شعور المتطرفين، لأن أمام السائقين طرقاً بديلة يعبرون منها، ولأن وقت اقفال الطريق قصير نسبياً. لكن حق القاطنين غير المتطرفين ينتفي بالكامل من جراء اقفال هذه الطريق، وله في هذه الحال الأولية. لذا تقبل المحكمة قرار وزير الداخلية باقفال بارايلان يوم السبت بشرط أن يحل مسبقاً مشكلة تنقل القاطنين من غير المتطرفين.
أما رأي الأقلية فكان يقول بأن لا مجال لأخذ ما لا يوجد نص عليه في القانون، كالدين، بعين الاعتبار. ولا نص على الدين في شان الطرقات. ذلك على الأقل في ما يتعلق بالطرق الكبرىـ أما الدروب الثانوية فيمكن للسلطات المحلية أن تأخذ في تنظيمها وضع الجماعة فيها.
يقدم روزن ـ زفي تحليلاً ايديولوجياً لهذه الآراء، فيرى أن رأي الغالبية ينطلق من فكر ليبرالي يقيم فصلاً قاطعاً بين الدولة المحايدة تماماً وبين المجتمع المدني، وينظر إلى المواطن بصفته فرداً دون أن تتوسط المجموعات الاجتماعية بينه وبين الدولة. هكذا كان المتطرفون أفراداً لهم حقوق في مواجهة أفراد سائقين لهم حقوق أخرى. وبحسب دي سوزا سانتوس، فن الزمكان المحلي (شأنه شأن ذاك العابر للأمم) يعتبر غير موجود البتة من جانب النظرية الليبرالية المهيمنة، وهذا ما سمح بأن تصبح الدولة الأمة هي الزمكان الأكثر مركزية بالنسبة للقانون في القرنين الماضيين.
أما الرأي المخالف فينطلق من نوع من الفكر التعددي يقول بأن المر يتحدد، جزئياً على الأقل، بانتمائة إلى مجموعة ما. والمجتمع يتكون من تعدد مجموعات حرة في إطارها، وعلى الدولة التزام الحياد في ما بينها. أي أن هذه النظرية تحل المجموعة محل الفرد في النظرية الليبرالية. وهي (أي النظرية) إذ تقول بالفصل ما بين الحيز العام والحيز الخاص، فإنها تقبل بتوسيع حدود الحيز الخاص أبعد من حدود الفرد. وفي قضية بارإيلان يقول القاضي هيشين في رأيه المخالف إن ثمة حيزاً خاصاً للمتطرفين يشمل الطرقات الصغيرة بين منازلهم إلا أنه لا يشمل أوتوستراداً عاماً يظل ينتمي إلى الحيز العام.
في مفارقة جديدة، تقرر غالبية القضاة الموافقة، المشروطة، على مطالب المتطرفين، رافضةً الاعتراف بهم كجماعة، في حين أن القضاة المخالفين يقرون بوجود المتطرفين كجماعة لها الحق في حيز خاص بها، إلا انهم يرفضون الموافقة على مطالبها. ويخلص الكاتب إلى القول بأن الفكر اللبرالي ينظر إلى المكان شفافاً، في حين يراه الفكر التعددي غير شفاف.
النظرة القانونية إلى المكان والعلاقة مع الفكر الصهيوني
يرى المؤلف أن الصهيونية هي تقاطع خطابين، الأول عملاني ينشد حلاً لمشكلة اليهود عبر البحث عن أرض خالية من السطان، والثاني ثقافي ينشد من اوروبا الشرقية العودة إلى أرض الميعاد. وقد خدم الأول الثاني عبر افراغه ارض فلسطين من سكانها نظرياً قبل أن يصبح ذلك فعلاً. هكذا ينبغي رفض الآخر، المقيم في مكان منقطع عن مكان الذات، قبل أن يتم اقصاؤه وملء الفراغ بالانا المؤسسة جديداً.
هكذا يقع المؤلف، ببساطة مستغربة، على تفسير لتفاوت النظرة القانونية إلى المكان في المسائل التي عرضها، في جدلية بسيطة: الأنا/الآخر، الانوار/الشرق. هكذا ينبغي اقصاء البدو وإنشاء مدن لهم في آن واحد، لعزل الآخر عن الأنا ولنصبه بإزائئها، وهكذا يتم اقصاء العرب من المكان اليهودي حيث لا يمكن القبول بهم إلا بشرط تجريدهم من كل تاريخ واختلاف.
هكذا ايضاً يقع اليهود الاوروبيون القادمون من عصر الأنوار على يهود عرب شرقيين فيرونهم متخلفين، جاهلين ومتوحشين. إلا أن كونهم يهوداً يظل يدفع باتجاه ساتيعابهم وتمثلهم وتحويلهم إلى أوروبيين.
في الوقت الذي كان فيه "الغريب" الفلسطيني يطرد ويطارد ويشجع على تعميق اختلافه، كان السعي إلى تنقية اليهود العرب من عروبتهم وشرقيتهم من اجل استيعابهم داخل الأنا.
إلا أن الحقيقة تظل، بحسب ما يعبر ساندر غيلمان، أنك "كلما شابهتني أكثر، عرفت القيمة الحقيقية لقدرتي، التي تريد نشاركتي بها، وتنبهت أكثر إلى كونك لست سوى مقلّد، مزيّف، دخيل". أو ما يسميه غيلمان، اللعنة المحافظة المهيمنة على المشروع الليبرالي الساعي إلى تمثّل الآخر. في حين يقيم الآخر ـ العدو في مكان منقطع عن مكان الذات، فإن على مكان الذات أن يكون موحداً ومتناسقاً. وهكذا ينظر إلى أي تقسيم له على انه تقسيم بيروقراطي نفعي ليس إلا. وإذ يرفض القانون النظر إلى تاريخ وواقع الفصل في توزيع السكان، فإنه في الواقع يعمق ما يصفه الكاتب بـ"الفصل الاثني"، ويخلقه في آن ماً بالتعاون مع الفصل السابق في الإقامة.
أما التباس الرؤية إلى المكان في قضية اليهود المتطرفين فذلك عائد إلى التباس النظرة إليهم. فهم بالنسبة إلى الصهيونية "غريب" لا يقبل التصنيف النهائي إلى عدو أو صديق. فهم معادون للصهيونية على اعتبار أن الخلاص يكون بتدخل الهي لا بعمل بشري، لكنهم في الوقت عينه "الأنا" اليهودية الأكثر تمسكاً بعنصرها هذا.
يشير المؤلف إلى ان اختلاف الحلول القانونية أدى عملياً في كل الحالات إلى عيش هذه الفئات (العرب المنبوذون ـ اليهود العرب المرغوب في ضمهم ـ اليهود المتطرفون زارعو الحيرة) في مناطق عزل وانقطاع عن سواها. ويقول إن استبدال الأسس الصلبة، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بالأسس الرخوة للرمزي والثقافي في الخطاب التعددي، الذي يدافع في واقع الأمر عن هذا الانفصال السكاني ويبرره بالخصوصيات واحترامها، يؤدي إلى غياب القدرة على تحديد الفئات الخاضعة والفئات المهيمنة في المجتمع.
فالفئات المهيمنة تستفيد من استقلالية دائرتها التي تمنحها نفوذاً وتأثيراً لا تملك وسائلهما الفئات الخاضعة التي يحول الاستقلال دائرتها إلى معتقل. فالمعاملة بالتساوي قد تنتج مفاعيل مختلفة. ويضيف إن النظام الديمقراطي هو في مفاوضة دائمة ما بين وحدة الشعب المدمج وبين احترام وحماية الفئات الاجتماعية والمجموعات ومناطقها. فهل يمكن تجاوز هذه الثنائية؟
إعادة النظر في مفهوم السلطات المحلية
يقول روزن ـ زفي بضرورة تغيير وظيفة الفضاء السياسي ومعناه، عبر اصلاح قانوني، وتغيير المفهوم الاجتماعي للمكان، دون أن يكون في ذلك مس بالضرورة بإقامة أي فرد. وهو يرى ان نزع العزل في الفضاء السياسي سيؤدي على المدى الطويل إلى عملية دمج مكانية، لانتفاء الفائدة من العزل أولاً، ولأن الفضاء السياسي، ثانياً، لا يكتفي بعكس الوقائع كالمرآة بل ينتجها. هكذا فإن أي تغيير في المعنى السياسي للفضاء، بحسب فورد، يؤدي إلى تغيير هوية الجماعة الثقافية نفسها.
بعد دراسة للتقسيم الأداري للسلطات المحلية في إسرائيل وعلاقته بالمكان، شفافاً أو غير شفاف، يخلص المؤلف إلى القول بأن قانون السلطات المحلية يقود، في النهاية، عبر حرمان هذه السلطات من المعنى السياسي باعتبارها محض إدارية، وعبر الإصرار على وجودها المستقل، بل والسابق، معاً وفي آن، يقود كل ذلك إلى إعادة إنتاج تراتبية السلطة والفصل السابقين.
لذا يقترح إعادة نظر في موضوع السلطات المحلية، مستوحياً أعمال فورد (جعل الحدود أقل عزلاً) وفروغ (زيادة القدرة التشريعية للمشرّع المحلي بهدف زيادة المشاركة الديمقراطية) وبخاصة هارفي وبريفو (نظرية الحكم الإقليمي حيث يكون الإقليم نوعاً من سلطة محلية لمنطقة المتروبول وضواحيها، لما في ذلك من اخذ بعين الاعتبار لحقائق النقل اليومي والمساواة في توزيع العناية والخدمات العامة)، مشدداً في الوقت عينه على ضرورة الإبقاء على فكرة الحكم المحلي إذ أن المؤسسات المحلية، كما يقول توكفيل، "هي للحرية كما المدارس الابتدائية للعلوم. إنها تضعها بمتناول الجمهور وتعلمه كيف يستخدمها ويسعد بها".
هكذا، يقترح روزن ـ زفي انشاء حكومات اقليمية قوية حول المناطق المدينية الكبرى، تتمتع بسلطات واسعة، وسلطات محلية يحق لأي مجموعة إنشاؤها دون إذن مسبق من الحكومة التي عليها أن تعترف بها. وهو بذلك يوافق على نظرية فورد بان الحدود التي تصنعها الممارسة هي التي تصنع "المحلي"، لكن روزن ـ زفي يربطها بنظرة أكثر جدلية بماء على حالة المجتمع اليهودي المتطرف السابق على الممارسة الحدودية. فالمهم في نظره هو إعطاء سلطة كافية لحماية المجموعة، لكن ليس السماح لها باقصاء الآخرين ورفضهم.
القانون ومنطقه
إما أن نقول بأن الحدود هي حصيلة مجموعة من الخيارات الفردية، تأتي الدولة بقانونها ومحاكمها لتقبل بها، أو تعدلها، وإما القول بأنها مجرد تقسيم ضروري إدارياً تجريه سلطة حكومية مركزية، لكن لا معنى سياسياً له. أو ان الحدود حصيلة قوى طبيعية (السوق، الطوبوغرافيا، الجماعة)، سابقة على السياسة والقانون العاجزين عن التأثير عليها تالياً.
يشدد روزن ـ زفي على خطأ هذه النظرات إلى المكان والدوائر أولاً، لأنها، بطرق مختلفة، تحمل على الظن بأن الدوائر كلها متساوية (إذ تقوم كلها على مبدأ واحد مما ذكرنا) علماً بأنها لا تملك الوسائل والإمكانات عينها. وثانياً، لأن هذه النظرات تغفل التأثير السياسي والإجتماعي للقرارات القانونية نفسها.
والحق، إن الكاتب يقع في الخطأ الذي ينبه إليه. فإذ يكتب في المقدمة إن هدف دراسته هو تفحص العلاقة بين القانون وبين انتاج المكان وتمثيله في الإطار القانوني، فإنه يعود لينظر إلى القانون وكأنه مجرد انعكاس لنظرة خارجة عنه (الفكرة الصهيونية) يعتبرها الوحيدة المؤثرة، ويؤدي ذلك عملياً إلى حصر الدراسة بكيفية تمثل القانون للمعطيات المكانية والاجتماعية، وهي كيفية مشروطة بالنظرة الصهيونية، في إغفال لدور القانون في انتاج هذه المعطيات منذ البدء، وليس فقط في تعميقها وتأمين استمراريتها. فكأنها القانون مرآة تعكس الفكر الايديولوجي المهيمن فحسب، دون أن يكون له منطقه الخاص. وذلك رغم تذكيره برفض رونن شامير تفسير القانون (حول استملاك اراضي البدو) بجشع الصهيونية إلى الأرض، فقط، أو أي سبب سياسي خارج عنه، وضرورة ربطه بمنطق القانون الداخلي، أي، في حالة إٍسرائيل التي ورثت القانون البريطاني "الحديث"، هوس القانون بالثبات والقدرة على احتساب الأمور والأشياء، بما يفرض "شبكة مفاهيم على المكان ـ مكان سوف يقسّم ويجزّأ، ويسجّل ويقيّد".
هكذا يغفل روزن ـ زفي الإشارة إلى منطق القانون "الحديث"، المختلف عن القانون العثماني اختلافه عن القواعد القانونية لدى القبائل الافريقية أو الجنوب ـ أميركية مثلاً، وصعوبة تطبيقه على مجتمعات ذات رؤية مختلفة إل قضايا الملكية العقارية والإرث والنسب على سبيل المثال.
وغفل أن من منطق القانون "الحديث" الأوروبي، تذرير النزاعات الجماعية إلى نزاعات فردية، وإغراق الحق بمجموعة من القواعد الإجرائية غالباً ما تقود إلى إنكاره. ويغفل طبيعة كتابة القرارات القانونية الصادرة عن المحاكم. فالتبريرات التي تقدمها المحكمة الإسرائيلية العلي (ضرورة الحفاظ على ثقافة البدو ـ ضرورة تمدين البدو ـ النظرات إلى مجال الحيز العام ـ ضرورة ردم الهوة التعليمية في إسرائيل... الخ) ما كانت لتبدو ممكنة في نظام قانوني أوروبي قارّي (كما في فرنسا أو ألمانيا)، حيث أن النظام الأنغلو ـ ساكسوني يسمح للقضاة بتبرير قراراتهم بأسباب متنوعة، بما أن هذه القرارات ستشكل سوابق قانونية، في حين أن النظام القاري يفرض على القضاة تطبيق القانون كما هو، أو تفسيره، واستثناءً استكمال قواعده الناقصة عبر اعلان قواعد قانونية، دون اللجوء إلى استدخال أسباب اجتماعية أو تاريخية أو سوى ذلك (ولا يعني هذا أنها لا تغيب عن نفس القاضي، إلا أنها تدخل أكثر في إطار النقاش العام والأسباب الموجبة للقوانين المكتوبة). في الواقع، القانون ليس مجرد سلاح بيد السلطة، أو مرآة للأيديولوجية، بل هو أيضاً ثقافة في حد ذاتها تملك منطقها المتطور باستمرار.
المواطن العربي ومعاني المكان
ثمة أهمية استثنائية لدراسة العلاقة في إسرائيل تحديداً ما بين القانون والمكان. ليس فقط لأهمية "فكرة" القانون التوراتية في الفكر الأوروبي الذي يشكلنا من جوانب كثيرة. بل أيضاً لأن النزاع على ارض فلسطين، ومسألة القدس تحديدا، فضلاً عن قابلية الدولة الفلسطينية للعيش، مسائل تظرح بشدة ضرورة إعادة النظر في مفاهيم السيادة والأرض والحدود، وتفكيكها.
كما تطرح مفارقة إسرائيل، "قلب أوروبا" بحسب أحد الكتاب الشهيرين، مسألة الحد الذي يمكن ان يبلغه تطور القانون "الأوروبي"، بخاصة في ظل المفارقة التي تربط المواطنة بفكرة المكان والإقامة من جعة، وبالخصوصية الدينية المنتشرة في العالم من جهة أخرى (وهو الموازي الإسرائيلي للتقسيم الفرنسي لانتقال الجنسية بالدم أو بالمكان ولادةً وعيشاً). وكذلك مفارقة إٍسرائيل في الإصرار على يهوديتها وديمقراطيتها معاً وفي آن، وهي المشكلة عينها في العديد من البلدان العربية، وحتى في أوروبا إذا ما وسعنا مفهوم المواطن ليشمل المقيم (وهو مسار جار في داخل الاتحاد الاوروبي).
في شكل ما إذاً، تشكل دولة إسرائيل مختبراً يسمح بطرح واستجواب عدد من المسائل الهامة، التي لا مجال لبحثها هنا. نكتفي إذاً ختاماً بالإشارة إلى نقطتين، الأولى في ما خص "المواطن غير المقيم"، والثانية في ما خص مطالبات الفئات الإجتماعية في بلادنا بالتقسيمات الإدارية ومعانيها السياسية المضمرة.
في شأن النقطة الأولى، يلاحظ إدوارد سعيد إن إسراائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي هي ليست دولة مواطنيها بل دولة اليهود في كل العالم. ذلك بالطبع مفارق مع ما هو معروف من ارتباط اسرائيل الوثيق بمفهوم الأرض. ولكن أليس ذلك أيضاً حال بلد مثل لبنان، حيث لا يهدأ التغني به، أرضاً وجبلاً وبحراً، في حين أن قسماً كبيراً من "المقيمين" فيه محرومون من أبسط الحقوق (راجع أيضاً ما اشارت إليه الصحف من طرد إمارة دبي لأربعة آلاف عامل في قطاع البناء لانهم جرؤوا على الإضراب مطالبين بتحسين ظروف عملها وأجورهم). أيضاً يحلم "بعض" اللبنانيين بأن تكون دولتهم دولة "ملايين اللبنانيين" المنتشرين في العالم، وهم بهم فخورون! وتطرح قضية اقتراع المهاجر في المواسم الانتخابية والمقصود بها فعلياً، إذا ما شئنا حقاً احداث تغيير في الموازين، اقتراع أحفاد المهاجرين ممن لم يعودوا يحملون الجنسية اللبنانية. والسؤال عندئذ يتعلق بمن هو "المواطن"؟ (الهجرة العراقية الكثيفة المستمرة منذ ثلاثين عاماً تطرح الأسئلة عينها وبضخامة أكبر). هل يمكن في واقع الأمر قلب العلاقة ما بين الدولة ذات لاسيادة وبين المواطن، تحديداً عبر التفكير في "ندرة المواطنين" (بخاصة بالمقارنة مع المقيمين من غير حملة الجنسية المحلية) والتساؤل عن مفاعيل هذه الندرة على دولة المواطنين؟
النقطة الثانية على مستويين: الأول إداري هو ضرورة التساؤل عن الخطوط التي ينبغي أن تقود المطالبات باللامركزية الإدارية، بهدف التخفيف من عيوب تمركز السلطات في أنظمة بعيدة عن الشفافية والنزاهة، وذلك في ظل تضاعف حركات النقل اليومية، واستمرار النزوح إلى المدن وتوسع الضواحي و"العشوائيات". والثاني انتخابي يدور حول تقسيم الدوائر الانتخابية وما يطالب به البعض من "أقاليم" وحكم ذاتي. فقد رأينا أن مثل هذه المطالبة تجازف بتحويل أهل "الاقليم" إلى معتقلين، واعاقة تطور ثقافتهم "المفترضة مشتركة" وحرمانهم من الانفتاح والمشاركة وإعادة انتاج التراتبيات والسلطات عينها. يمكن ايضاً ضرب المثل بلبنان، وهو محل ضرب كثير غالباً، حيث تتمسك الطوائف بفكرة القضاء للتمثيل الانتخابي، في حين أنه وسيلة للمطالبة باستقلالية الطائفة والدفاع عنها، بل والمطالبة باستمرار الفصل بينها وبين الأخريات، ويمكن السؤال عن جدوى ذلك حيث أن القضاء ليس معطى طبيعياً بل هو حصيلة تداخلات أبرزها تطابق القانونان الإداري والانتخابي بشكل يمنح "النائب" سلطة إدارية ليست من وظيفته التشريعية في شيء. ثم إن الهدف من كل ذلك إنما هو الاحتماء من الآخر وصيانة الذات منه، إلا ان الآخر هو ايضاً مصنوع بيد هذه الذات وليس معطى طبيعياً بدوره.
ببساطة إذاً يمكن القول بأن المطالبة بهذه التقسيمات الاقليمية أو القضائية، دون مسائلة أو حدود واصحة لتقاسم السلطات بين هذا المستوى من الإدارة وسائر المستويات الأعلى أو الأدنى، إنما هي الدليل الساطع على نجاح سياسات الفصل (التي نشكو منها وننسبها دوماً إلى "الاستعمار" قديماً وجديداً) وعلى رغبة هذه المجتمعات في تجذير سباتها وجمودها وانقساماتها.
بدلاً من ذلك، الا يسعنا أن نحلم بأن يكون تعريف الجماعة هو "تعايش الغرباء"، أي القدرة على العيش في عالم من مختلفين، دون محاولة صياغة اختلافهم أو محوه، بدل ان يكون تعريفها هو تكرار الأنا؟